بعكس طموحات الإنسان في العالم كله، يطلب رجال الدين المسلمين من المسلمين هجر العقل البشري إلى الطاعات، و يصفونه بالقصور لأنه ليس بإمكانه إدراك الكثير من الأمور الدنيوية، ناهيك عن الأمور العلوية و الغيبية و عدم قدرته على التجاوب مع العقل الرباني، فليست لديه القدرة الإطلاقية كما هي حال العقل الإلهي، فهو يقف عاجزاً أمام تفسير و فهم أمور تعلو على قدراته و استطاعته، فالعقل الرباني يحيط بكل شئ، بينما العقل الإنساني يخضع لمنطق له خطوات و علل و أسباب و مقدمات تؤدي إلى معلول و نتائج تترتب على المقدمات، و هو ما لا يشير إلى قصور هذا العقل، إنما يشير إلى أن العقل البشري له طرائق تجعله مختلفاً عن العقل الرباني، و هذا الإختلاف لا يعني نفي أحدهما للآخر.
وقد أدرك المعتزلة هذا المعنى في الفارق بين العقلين مبكراً، عندما قدموا حكم العقل البشري إذا تعارض مع ما جاءنا من العقل الرباني و حياً، ليس مخالفة للسماء و أحكامها، إنما إدراكاً منهم أن لكل منهما طرائقه المختلفة عن الآخر، لذلك رجحوا حكم العقل البشري إذا تعارض مع النقل و فضلوه عليه، إدراكاً منهم أن للنقل / الوحي / العقل الرباني، منهجاً و نظاماً يختلف عن العقل البشري، و إنه ليس بإمكان البشر فهم العقل الإلهي و العمل بطرائقه لأنه لو حدث لأصبحنا أرباباً و هو المستحيل عينه.
و ربما امتاز المعتزلة لهذا السبب عن أقرانهم من مجتهدي المسلمين، لأن الآخرين و حتى اليوم يخلطون بين اللونين من العقل و الفهم، و هو ما يؤدي إلى نتائج مضللة، فيفتون بالعلاج ببول الإبل و الحجامة زمن طب الجينات و الخلايا الجذعية، لأنهم يريدون التفكير بعقل السماء في شأن بشري بحت لا علاقة له بالعقل الرباني، فهذا الشأن البشري يقوم على بحث و مختبرات و معامل و تجارب و تحليل و تركيب و استنتاج، و هو كله ما لا يحتاج إليه العقل الرباني الكلي القدرات و الغني عن التجربة و الرفيع عن الخطأ و الصواب و المحاولة بينهما، لذلك فإن من يخلطون بين العقلين الإلهي و الإنساني يضرون أشد الضرر بالدين و بالمجتمع، و يظلوا حائرين في مساحة أسئلة تتردد منذ فجر الإسلام و حتى اليوم دون حلول يتفقون عليها، لأنها أسئلة بدون إجابات، لأنهم يدخلون بالعقل البشري منطقة الإلهى فيسألون كيف تلد الصخرة ناقة؟ و كيف هو عرش الإله؟ و هل له عين كي يكون بصيراً؟ و كيف هي يده التي فوق أيدينا؟ و هو كله ما لا يمكن الوصول فيه إلي إجابة حاسمة نطمئن لصدقها و سلامتها، لذلك لن نصل إلى إجابة إذا تساءلنا لماذا يأمرنا الله بالهرولة في الحج؟ و لماذا ندور حول البيت سبعاً لا تسعاً أو عشراً؟ هنا الموقف الصواب هو الطاعة و التنفيذ و ليس البحث و الفحص، و على المؤمن أن ينفذ طائعاً لأنها أوامر عقل غير خاضع لتعليلاتنا و استنتاجاتنا و لا للحتمية العلمية أو التاريخية، لأن هذه قواعد عقل و مجتمع بشري لا إلهي.
وبينما العقل الرباني لا يخطئ لكماله، فإن العقل البشري يجرب و يتعلم من الخطأ والصواب، فإذا ما خلط قوانينه في التجريب و التعلم و الفهم بالأوامر الإلهية، يصاب بالارتباك لأن مشيئة الرب و أسلوب إدارته للكون هي مسألة لا يمكننا إدراكها.
و الدارس للقرآن الكريم و الحديث الشريف سيجد ما يشير بوضوح إلى اختلاف العقلين فيما نسميه معجزات، و هي التسمية التي تعني عجز العقل عن فهمها، و هو لم يعجز عن فهمها لعيب فيه أو قصور يشوبه، إنما لأنها منتج عقل إلهي لا ينشغل بقواعد التفكير البشري و سلامتها من عدمه. لذلك تبوء كل محاولات تفسير المعجزات بالفشل، للعجز عن استيعاب العقل البشري لها، و الإصرار على تفسير الإلهي بالعقل البشري، هو كمن يريد أن يُدخل العقل الإلهي اللامتناهي و طرائقه داخل العقل الإنساني و استيعابه و إخضاعه لقواعده، و هو الأمر الغير ممكن بالمطلق. و ربما أدى مثل تلك المحاولات إلى إلحاد البعض، فالملحد الذي يؤمن بعقله إيماناً قوياً يقوم بقياس منتج العقل الإلهي على قوانين عقله البشري فينتهي إلى الإلحاد.
و للإيضاح فكلنا لا ننكر وجود الهواء و لا ننكر أن المسطرة أداة قياس صالحة، لكنا لا يمكن أن نقيس الهواء بالمسطرة، لأن الله خلق الإنسان و أهبطه إلى الأرض لعمرانها و لعبادته، و ليس لقياس عقل الإله و البحث فيه بمسطرة العقل البشري، لذلك فإن الموقف السليم هنا هو العزل بين عالم الربوبية و عالم البشرية، لأنه في حال خلطهما سنخرج بلا نتيجة او بضرر محقق على الدين أو على المجتمع. و قس على هذا كل اسئلتنا الحائرة التي قسمت مفكرينا فرقاً، معتزلة و مرجئة و معطلة و سنة و أشاعرة و شيعة و غيرهم، نتيجة لأسئلة تريد إخضاع العقل الإلهي لقوانين العقل الإنساني، مثل السؤال في الجبر و الاختيار: هل الإنسان مخير أم مُسير؟
فهو أولاً يخلط بين فعل الرب (التسيير) و فعل العبد (حرية الاختيارالتي تترتب عليها مسؤلية الحساب)، فالخطأ يكمن في السؤال، لذلك لا تجد إجابة واحدة تتفق حولها هذه الفرق، فالرب عنده جنة عمل فيها أنهار اللبن و العسل و الخمر و أودعها الحور العين للمتقين، و نحن بعقلنا صنعنا السد العالي و أقمنا مدينة اكتوبر و العاشر و الوادي الجديد، و كلٌ له مجاله لا يتداخلان، فلا الجنة مثل مدينة اكتوبر، و لا نحن روينا للرب جنته، و لا هو أشرف على تخطيط مدننا الأرضية. فقد أُهبط الإنسان مُجبراً للأرض بأمر إلهي ليعمرها و يخلفه فيها بعقله البشري، أما الله فهو في ملكوته يعمل ما يشاء وقتما شاء كيفما شاء، و ترك لنا أرضنا نفعل فيها بإرادتنا حتى يمكن حسابنا يوم الحساب، ليرى ربنا هل أفلحنا في مهمتنا في الإعمار أم فشلنا. و إضافة لمهمة الإعمار فقد قرر تعالى أنه ما خلق الإنس و الجن إلا ليعبدوه، و هذه العبادة ليست وفق عقلي و مقاييسه و أحكامه، و ليس لي أن أسأل لماذا صلاة الفجر ركعتين و ليس خمسة؟ و لماذا نصوم رمضان و لا نصوم أبريل و لماذا نرجم بسبع حصيات و ليس بعشرين؟ فالجانب الإلهي طاعة فقط، أما عقلنا فهو للفعل الأرضي، للإعمار و إقامة الحضارات، لذلك فما نفعله على الأرض بعقلنا أمر يختلف عن العبادات التي قررها الرب بعقله، لا يختلطان، لا يلتقيان، بل يختلفان بالكلية. و من ثم لا يصح تدخلنا في العقل الإلهي، كما لا يصح تدخل العقل الإلهي في هندسة الطب أو إقامة الهرم أو هندسة الجنيات، فهذا متروك لنا و لن نحاسب عليه يوم البعث و الدنيونة و لن يدخل في ميزان حسناتنا أو سيئاتنا.
فإذا كانت قصيدة الشعر تعبر عن فكر مؤلفها و أحاسيسه و تدل عليه، فإن القرآن الكريم يعبر عن الإله و فكر الإله، و ليس عن رأي الشيخ القرضاوي و لا ابن تيمية و لا أي من فقهائنا قدامي أو محدثين، لأنهم يفسرون أهداف الله و مقاصده قياساً على مقاصدنا الإنسانية و عقلنا البشري. فالفكر الرباني لا يلتزم بقواعد لأنه مطلق المشيئة و القدرة اللامحدودة، لذلك فإن أساليب الفكر الإلهي لا ترتبط بالتعليل و التفسير و التبرير و الاستدلال و الاستنتاج، بل هو يكسر كل ما نعلمه من قوانين التفكير المنطقي السليم بالمعجزات، و لا يخضع لقوانين المنطق البشري، حتى أننا لا نستطيع أن نقول أن العقل الإلهي له منطقه الخاص لأنه الكامل الذي لا يخضع لمنطق، فهو فعال لما يريد دون قواعد و دون تبرير، و غير مجبر و لا ملزم أن يفكر مثلنا أو أن يُحدث أمراً يُراعي فيه مناهجنا، و أيضاً لا يلزمنا من هذا العقل الإلهي سوى أوامره و نواهيه و الطاعة له و الإيمان به، هنا السماء تأمر بالتنفيذ و ليس بفهم أسرار التعبد، لأن عقل الإنسان لن يفهم تقديرات الرب. أما أساليبه فلن نستطيع بها إخضاع البيئة و توظيفها، و لن يمكننا تحويل العصا إلى حية و لا تفجير الينابيع بالعصا، و لا إكثار الخير بجعل الصخور تلد نوقاً مثل ناقة صالح، لذلك يكون من الغباء تصور إمكان تتبعنا أسلوب الرب في التفكير و التدبير، لأن الله يقول للشئ كن فيكون، و هو غير أسلوبنا الذي يسير وفق المحاولة و الخطأ للوصول إلى الصواب و وفق قوانين منطقية و منهجية، و بها نستطيع إخضاع البيئة و توظيفها، و ليس بالأسلوب الإلهي و الفكر الرباني.
لذلك فإن دعوة مشايخ زماننا لتقزيم العقل البشري و تعجيزه عن الفهم مقارناً بالعقل الإلهي، هو خطأ منهجي و منطقي جسيم، بينما الصواب هو الإقرار أن هناك عقلين، أحدهما أعرفه و أفهمه هو عقلي البشري و أجهل العقل الآخر الإلهي، و ليس أحدهما خاطئ و الآخر صحيح، فكلاهما صواب في ميدانه.
البعض يرى أنه بالإمكان لتواصل مع الفكر الإلهي بواسطة الأدعية و القنوت له ليفعل معنا على الأرض فعل التعمير و الحضارة و لينصرنا، لكن الإشكال هنا أن الدعاء ليس ملزماً للرب و لا هو فرض عليه يجب أن يلبيه و ينفذ المطلوب من الدعاء رضوخاً لقواعد، لأن إرادة الرب لا تخضع لأي إرادة أخرى حتى لو كانت دعاءاً و مذلة أو استرحام، فالمطلق لا يمكن التنبؤ بأفعاله المقبلة و إلا ما كان إلهاً. بينما الإنسان قادر على استكشاف القوانين الكونية و البيئية و امتلاكها و السيطرة عليها بعقله البشري وحده، و تفعيلها فيما يعود عليه و على المجتمع بالنفع. فيتحكم في البيئة و يسيطر عليها و يمكنه التنبؤ بالأحداث المستقبلية و الاستدلال عليها و على إمكان حدوثها، على عكس الوضع مع العقل الإلهي الغير خاضع للاستدلال و الاستنتاج، فنحن حتى اليوم لا نعرف لماذا رفض الرب قربان قابيل و قبل قربان هابيل، و لا نعرف سر نجاسة الكلب و الخنزير، و لا نعرف كيف عبر نبينا ( ص ) في معراجه كل المجرات و الكواكب بسرعة أضعاف أضعاف سرعة الضوء دون تجهيزات لضبط الضغط و الحرارة و الأوكسجين و آلات الدفع و غيره، أو دون أن يتحول العارج بهذه السرعة إلى طاقة، فهذه قوانيننا و ما وصلت إليه عقولنا، و هو ما لا يتطابق مع تلك الرحلة الإعجازية التي تمت وفق العقل الإلهي و ليس الإنساني، و لمزيد من تأكيد الفصل و التفريق بين العقلين أضرب مزيداً من الأمثلة الواضحة البيان، فقد تخير الرب مالك هذا الكون بمليارات أجرامه و مجراته، كوكب الأرض مقراً لبيته، و اختار من كل القارات قارة آسيا، و من بين بيئات آسيا المتنوعة و ما تنعم به من أنهار وجنات و خيرات و اعتدال مناخ، اختار واد غير ذي زرع بالحجاز المقفر مُفضلاً إياه على بقية كونه، فضلّه على سويسرا و الريفيرا الإيطالية و جبال لبنان و وادي النيل و السين و الفرات، إختار أفقر و أجدب بقاع العالم محلاً لإقامة بيته. و هو ما يخالف منطقنا نحن البشر، فنحن نفضل الجمال و الوفرة و الرفاهية و النعيم و اللطف و الرقة، لكن كل هذا لا علاقة له بالقداسة، فقد اختار الرب ذلك الوادي الملتهب الحرارة قارى المناخ وهو أسوأ مناخات الأرض والغير ذي زرع و منحه القداسة بإقامة بيته فيه، رغم أنه هو خالق كل البقاع، و مع أنه هو الذي يهب القداسة و يخلقها، و كان يمكنه منح القداسة لأمستردام مثلاً أو لباريس حيث الرقة و اللطافة و النعيم و الجمال، لكن إرادته أبت ذلك، و أبت أن تربط النعيم الدنيوي بالقداسة الربانية. هذا الاختيار هو دعوة لنبذ التعليل للأفعال الإلهية لأنه لا يسير وفق شروطنا، و الاستدلال و الخيار بين الممكنات المتاحة، فقد يكون الأسوأ في عقل البشر هو الأفضل في العقل الإلهي الذي اختار أسوأ مكان و أجهل شعب في أرضه ليقيم فيه أشرف و أقدس بيت في الدنيا و يجعل من شعبه خير أمة أخرجت للناس، بل اختار له الشكل المكعب المتواضع فهو أبسط شكل هندسى، بجوار ما تزخر به السعودية اليوم من معمار هندسي عظيم في جدة أو الرياض أو غيرها. و لا شك أن النبي إبراهيم عليه السلام كان مُسيراً في هذا الخيار لأنه لو اختار بعقله البشري لاختار وطنه الأصلي حيث جنات الفرات و دجله، لأن العقل البشري له طرقه في المفاضلة و التمييز و الاختيار، لذلك كان الأمر لإبراهيم بإقامة القواعد من البيت في الحجاز، و هو ما يعني أن للسماء رؤي و فكر يختلف بالكلية عن رؤية الإنسان و فكره.
و هو الشأن الذي سنلحظه في كل الأديان السماوية، فمنتجها الفكري لا يلتزم بقواعد العقل البشري و قوانينه، و لا تقبل التحاور مع هذا العقل. و عليه فإن العالم محكوم بعقلين، عقل رباني لا يعرف التعليل و الاختيار و البحث و الاستدلال، و عقل بشري يبحث عن المصلحة و الأفخم و الأجمل و الأمتع و الأكثر إقناعاً و منطقاً. و عليه فالإنسان غير ملزم بعمل مثل الخالق لاختلاف المنهجين و لأن للرب مقاييسه الخاصة، فقد نظر إلى أقفر و أفقر البيئات وأسوأها مناخا وبشرا ( مكة ) ليضع فيها بيته على الأرض، بينما لو كان لنا الخيار لأخترنا هاواي أو فيّنا أو فارنا، و بذات المقياس لو قال المشايخ عن شخص أنه كافر، لربما اختاره الرب كأفضل عباده الصالحين. لذلك عندما يتطوع شيخاّ ليقول أن الله سيقبل الشيخ فلان لأنه رجل دين و سيرفض الفنان أو الكاتب أو المبدع فلان بسبب كتابته النقدية مثلاً، فهو يرتكب أكثر من وزر و أكبر من خطأ، أولاً أنه يسلب الله حقه فهو الوحيد الذي يستطيع الحكم على الضمائر بالكفر و ما يتبعه من دخول جهنم، أو بالإيمان و ما يتبعه من دخول الجنة، الشيخ هنا يلزم الله بقرار عقله البشري الذي يختلف بالكلية عن عقل السماء، فالرب لو عمل مثل الشيخ و برر و علل لا يصبح إلهاً و تسقط ألوهيته، لذلك فإن المفكرين من مشايخ زماننا يفرضون قرارهم على العقل الإلهي و يحرمون و يحللون ليتشابه عقل الشيخ و عقل الإله ليصبحوا آلهة مثله.
و يتحول من يعترض على المشايخ إلى كافر، بينما التكفير هو افتئات على أهم صفات الله و إرادته، لأن قبول إيمان إنسان من عدمه يعود لمشيئة واحدة فقط هي المشيئة الإلهية التي لا يعلمها أياً من البشر، لا شيخ و لا كاهن و لا عارف بالله.
هذا ناهيك عن مخالفة مشايخ التكفير بل و نقضهم الآية الصريحة بقرار رباني يؤكد أن الله ما خلق الإنس و الجن إلا ليعبدون. مثلها بالضبط مثل ” كل في فلك يسبحون “، فالبشر جميعاً و الجن و الأفلاك و المجرات كلها تعرف الله و تسبح مشيئة الخالق، لأنهم جميعاً لو لم يعبدوا و يسبحوا لحدث خلل في الأفلاك و انهار نظام الكون، و ما نراه أحياناً صادماً لمشاعرنا و تعصبنا و ننعته بالكفر إنما هو لون من العصيان، فكل البشرية تعرف أن للكون خالق منذ الإنسان البدائي، و من يتهم غيره بالكفر فإنه كمن يكذب الآيات القرآنية التقريرية بالقرآن، التي تؤكد أن الله خلق الخلق ليعبدوه. فالله قد أمر عباده برحمة عباده و أسمى نفسه الرحمن، بقرار جعل البوذي يرحم و المسيحي يرحم و اليهودي يرحم و المسلم يرحم، أمر بالتعاطف و كل متدين يتعاطف، هندوسياً كان أم سيخياً أم مجوسياً، و نص الآيات يشهد للبشرية جميعاً أنها تعرف الله و أنها تعبده، فمن كفّر غيره فهو منكر لمعلوم من الدين بالضرورة، فالله يقول أنه خلق الخلق كي يعبدوه، و مشايخنا يقولون عن البعض أنهم كفار لا يعبدونه، بينما وجود كافر واحد بمعنى المنكر للألوهية و لوجود الذات العلية، يسقط مشيئة الله القاضية بمعرفة كل خلقه به حتى جمادات الأفلاك، و إيمان الكل به و عبادته و إن كان كل ٌ على طريقته.
و عليه فإن النظر لمن يختلف عنا في طريقة عبادته أو معرفته بالرب الخالق القدير بحسبانه كافراً، هو خطأ في تفسير مُراد الرب و مقاصد كماله، و عندما نتحاور في شأن ديني تختلف حوله قد يجوز القول أن أحد طرفي الخلاف كافر برأي الطرف الآخر و ليس كافراً بالله، لأن الخلاف في الواقع هو بين طرفين بشريين و ليس أحدهما هو الله، هو كفر رأي برأي، كفر بشر ببشر و ليس برب البشر، لأنه سيكون خلافاً حول تفسير كلام الرب حسب عقل منهما و حصيلته المعرفية، لكنه لا يفسد بين أحد المختلفين و بين ربه، لأن الاختلاف بشري و الحوار بينهما إنتاج عقلهم البشري و ليس الله، فالخلاف في واقعه يقع على آراء بعضهم البشرية و ليس على الله، و خلافات المذاهب الدينية كلها مستحدثات بشرية، أما الإيمان برب خالق أحق بالعبادة و القدسية فلا خلاف حوله، فنحن لا نختلف على أن الله قد قال هذه الآية أم لا؟ إنما نختلف علي فهمها بعقولنا التي ليست كعقل رب الأرباب و ملك الملوك.
و كلا الرأيين المختلفين منتج عقل بشري مصنوع لإدارة شئون الدنيا و ليس لصنع أديان، لذلك فالمكفرين يستخدمون الأداة في غير محلها، فالفأس مصنوع لنفتح به الأرض و ليس لنفتح به باب البيت، فإذا استخدمناها في غير وظيفتها انتهت بتكسير الأديان إلي مذاهب و فرق، فهم كمن يستخدم الحقيبة الدبلوماسية لتهريب المخدرات.
و إذا كان محمد النبي ( ص ) بجلال قدره لم يفعل فعلهم و لم يكفر مسلماً، و كان ينتظر دوماً قول الله فلا يقول من عندياته لأنه بشر و عقله عقل بشر لا يصنع ديناً. فمن العجيب أن ترى اجتراء مشايخ زماننا الذين يجيبون على إي سؤال في أي شأن، نسألهم عن زرع الأعضاء فوراً يقولولون حرام، يقول الشيخ ما لم يعرفه محمد ( ص ) ليقوله، و يعمل كل منهم لنفسه ديناً جديداً يسميه مذهباً أو فتوى كما لو كانوا آلهة، بينما النبي محمد ( ص ) لم يصنع لا ديناً و لا مذهباً و لم يكن إلا عبداً بشراً مُبلغاً لا مبتدعاً. إن المهمة المكلف بها العقل البشري من قبل الله هي الإعمار بتآزر البشرية و ليس بتكفيرها، فعقلي مخلوق كي أعمل به في الحقل و المصنع و ليس في الدين، لذلك اتسم الإسلام بخصوصية و فرادة هي أنه لا يعرف رجال دين و لا يعترف بكهنوت يبحث في شئون تخص الله و هم بشر. فوظيفة العقل البشري هي التعمير و التعبد، و في التعبد يمتنع الجهد العقلي بالمرة، بدليل أن المبشرين بالجنة معظمهم كان من الأميين الذين لا يستطيعون بذل الجهد العقلي. فالدين هو أن نؤمن بة لا أن نحاوره، الدين هو أن أؤمن و أصدق أنه خلق من السماوات سبعاً و من الأرض مثلهن، و لا أسأل لماذا لم يجعلهن تسعاً أو عشراً؟ و لا أدخله في العلم البشري الذي لا يقول بسماء أصلاً و يقول بطبقات جيولوجية للأرض لا سبع أراضي، لذلك فإن خلط الإلهي بالبشري هو ضار بحياتنا و بديننا في آن.
يقول المصطفى ( ص ) أن المرء يولد على دين الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه، و هو ما يعني أن الإنسان يولد مفطوراً على معرفة الخالق مطبوعاً في عقله و روحه، ثم بعد ذلك يأتي دور النبوات التي تأخذ هذا إلى اليهودية و ذاك إلى المسيحية و آخر إلى المجوسية وغيرة إلى البهائية وغيرهم إلى البوذية.. إلخ. فالإيمان بالله فطرة و اتباع أحد الأنبياء هو اكتساب، و المؤمن بالله يضيف إليه الإيمان بنبي واحد على الأقل، و من هذا النبي يستقي طرق العبادة للإله الخالق و تعاليمها و شروطها التي تشكل له دينه، ومن ثم فإن الأسرة و المجتمع هي من تقوم بإضافة النبوة للفطرة في طفولة الإنسان، و من ثم يصبح السؤال حول الإيمان و الكفر في صيغته السليمة : هل من المعقول أن يتم تهويد أو تمجيس من هو كافر أصلاً بوجود الله الخالق؟ الإجابة بالقطع أن الإيمان بالله فطري فلا يوجد إنسان كافر بالله حسب الحديث و الآيات الكريمة، فكل إنسان يولد مؤمناً يقبل الرب داخل روحه، ثم يقوم المجتمع بإكسابه قبول أحد أنبياء هذا الرب.
و لأن خالق الكون رب واحد وحيد أحد، فإنه حسب الآيات “ما خلقت الإنس و الجن إلا ليعبدون”، لن يخلق من ينكر وجوده و يكفر به. فمثل هذا الإنكار ليس فيه صالح للمخلوق ليقدم عليه، و لن يضر بالخالق الموجود قبل ذلك المخلوق، و عليه لا يمكن للمخلوق إنكار الخالق، و لو أنكر فلن يزيح الخالق أو يحيله من موجود إلى لا موجود، لأن الثمرة لا يمكنها إنكار الشجرة، و حتى إن إنكرتها فهذا لا يقضي على الشجرة، و في الحالين فإن الإنكار غير مجد لكليهما، فالكفر شئ بلا قيمة و لا معنى لأنه غير ممكن عقلاً أو ديناً، و وجود الكفر من عدمه سيان، فهو لا يعطل مسيرة الكون و لا يزيد من فعاليتها أو ينقصها، لأن الله لم يخلق من ينكره.
ناهيك أنه قبل خلق البشر لم يكن هناك شئ اسمه الكفر، و هو ليس من الأسماء التي علمها الله لآدم لأنه لن يقول لآدم أنا غير موجود، و لو فرضنا جدلاً أن الله علم آدم اسم الكفر فهو ما يعني أنه لا وجود لا قبل آدم و لا بعد آدم و لا لآدم ذاته، فيكون هو العدم و اللاشئ و اللاوجود، و هو غير الحاصل في الوجود. و هو ما يعني أن الكفر معناه فناء كل الأشياء و الرب و الكينونة جميعاً، لذلك تكون النتيجة المحتمة أنه لا شئ اسمه الكفر بالله، إلا إذا كان خللاً في تركيب المخلوق. أما لفظة كافر الواردة بالقرآن فلا تعني الكفر بالله إنما تعني المعصية بأوامر و نواه الإسلام و ليس الله، و لا يعني غياب الإيمان بالله الخالق القدير داخل عقل المخلوق، و لا يعني غياب الرب عن الوجود.
هنا لابد أن يواجهنا من يقول أن للإيمان شرطين، الأول أن تؤمن بالله خالق الكون، و الثاني أن تؤمن بنبي بعينه باعتباره المتحدث الرسمي باسم الرب، و أن هذا المتحدث باسمه هو سيد للآخرين يأمرهم و يتسلط عليهم و يقودهم حيث يرى، و هكذا فإن هذا الشرط الثاني يعني أن هناك شريكاً بشرياً في الإيمان بالله ما لم تقر به يطلقون عليك لقب ( كافر )، حتى أن بعض هؤلاء الشركاء تعلو مكانتهم مكانة الرب الخالق نفسه، فبعض هذه الأديان تتسامح في سب الله لكنها لا تتسامح في سب هذا الشريك، و بعض الأديان أعطت الشريك البشري صفات تعلو على صفات الخالق و من هنا ينشأ ما يسمونه الكفر بالخالق، و تكون المشكلة أفدح عندما يرث البعض عن هذا الشريك سيادته و قيادته للمجتمع، مشكلين طبقة كهنوتية لا علاقة لها بكفر و لا إيمان بل ببشر لهم أطماعهم و نزواتهم الدنيوية.
و المطالع لآيات القرآن الكريم سيجده يقر في آيات كثر بإيمان وثنيي مكة و الجزيرة بالله الخالق مثلهم مثل اليهود و المسيحيين ” و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض سيقولون الله قل فأني تؤفكون “، و كفرهم يعني أنهم جعلوا بينهم و بين الله وساطة من الناس الصالحين التقاة يتشفعون للناس عند الله لأنهم الأطهر، و بمرور الوقت اقاموا لهذا الشفيع مقاماً و تمثالاً و تقدموا له بالدعوات ليرفعها لرب العالمين، لذلك أسماهم الله بالمشركين لأنهم أشركوا مع الله من هم دونه من خليقته، و أسماهم كفاراً لا بمعني الكفر بالله، لكن بمعنى الإيمان بكهنوت و قداسة لبعض البشر إضافة لإيمانهم بالله.
حتى الإنسان البدائي في وحشيته الأولى كان قلبه يستشعر وجود هذا الخالق و يعبر عن هذه المعرفة بالحب له و الشكر و الاعتراف بقدرته فيطلب منه ما يريد بالدعاء و التراتيل، و أطلق كل مجتمع بشري على الخالق اسماً، فتعددت الأسماء و الرب واحد، و وصفه بقدر ما سمح له عقله و فكره و خياله، لذلك لم تعرف البشرية شعباً لم يتعبد و لم يُصل و لم يحج لمكان مقدس و لم يصم و لم يعرف الخير و يميزه عن الشر، و أن الخير يرضي الإله و أن الشر يبغضه.. بل أزيد هنا في القول ما لن يعجب البعض فأقول : إنه حتى إبليس لم يكن كافراً بالمعنى الرائج الآن في ثقافة المسلمين عن معنى الكفر، إنما كان من الكافرين بمعنى العصيان لا بمعنى عدم الاعتراف أو الإنكار، فهو يعرف ربه، و حاوره و تحدث معه، فهو لا ينكره، إنما هو قد عصاه، و مثله آدم أيضاً كان يعرف ربه و يحاوره و يتحدث معه ثم عصاه بدوره، الأول رفض السجود لآدم و الثاني أكل الثمرة المحرمة و كليهما يعرف الله و لا يكفر به، و كلاهما عصى أوامر الله على التساوي، و هنا يمكن قراءة الآية ” كان من الكافرين ” ليس بصيغة الجمع، لأنه لم يكن هناك كافرين آخرين حينذاك، و ربما هي في صيغتها الأولى قبل التشكيل و التنقيط على يد أبي الأسود الدوؤلي، كانت بصيغة المثنى و هي الأكثر قبولاً و اتساقاً مع الموقف، لأنه لم يكن في الوجود من عصى أمر ربه غير اثنين بلا ثالث هما إبليس و آدم، و ما عدا ذلك فيما أخبرنا القرآن كان كل الخلق ملائكة و أجراماً و أفلاكاً تعبد الله و تطيعه و تسبحه و تسجد له. خاصة إذا ما أخذنا بالحسبان أن إبليس بعد عصيانه طلب من الله مد الأجل و أن يجعله من المنظرين.
و لا يعقل أن يطلب ذلك من ينكر وجود الله كفراً كما يشيعونها اليوم. و هنا ستنشأ مشكلة لأن إبليس عصى و عوقب بالتكفير، و آدم عصى و لم يعاقب ذات العقوبة، و هو ما يتنافى مع مفهومنا عن العدالة، و هو ما يحيلنا مرة أخرى لتأكيد أن الله لا يعمل وفق منطقنا و فهمنا إنما يعمل بمشيئته المطلقة التي يسلم بها المؤمن، لعدم إمكان تطابق العقل البشري مع العقل الإلهي.
حتى فرعون نفسه كان يؤمن بضرورة وجود إله، و لأنه لم ير أمامه في الدنيا من هو في سلطانه و قوته و قدرته و غناه، فقد رأي نفسه هذا الإله، لذلك دخل المباريات مع النبي موسى ( ص ) لإثبات قدرات إله كل منهما.
و إعمالاً لما سلف فإن العقل البشري لم يخلقه الرب لتصميم الأديان و الملل و النحل و المذاهب و الإفتاء، و الدعوة إليه بالقهر و عدم الحكمة و الموعظة الحسنة، و قد أثبت لنا التاريخ أن تدخل العقل البشري في منتج العقل الإلهي، أدي لإنقسام الأديان و ظهور الفرق و المذاهب المتناحرة و المتحاربة و المتقاتلة، حتى قام الصراع بين أتباع الدين الواحد، و تكفير كل مذهب لغيره و كل دين لغيره، رغم إقرارهم جميعاً بوجود رب خالق واحد، و هو ما يعني أن كل هذا الصراع هو شأن بشري يتعلق بالبشر و أهوائهم و أطماعهم و مكاسبهم و تجارتهم بدين الله. و منذ تم إقحام الدين في السياسة عانت البشرية من ويلات الحروب الدينية، و في سبيل مكاسب الكاهن الواحد كان الملايين يموتون قتلى معتقدين أنهم يموتون في سبيل الله، بينما كانوا يموتون في سبيل المزيد من ضخ النعم الدنيوية لخزانة الكاهن أو رجل الدين.
و المؤمن الصادق هو من يعلم أن العقل البشري غير مصمم لإنتاج اديان، و عندما يفعل ذلك ينكشف و يتعرى و يقدم بدعاً لا ديناً، و يعلم ان الدين شأن إلهي لا دخل للبشر فيه و لا إرادة لهم في صنعه. و يعلم أن عقلنا البشري هو للإعمار و ليس لإقامة الأديان و الإرتزاق منها. و لأن العقل البشري غير مؤهل لذلك لزم إبعاده عن الدين و إبعاد الدين عنه، بالتخلي التام عن وسائط الكهنة و المشتغلين بالدين من البشر.
و هكذا فإن وحدة الرب و وحدة الإنسانية تحتم وحدة الدين الذي هو علاقة خالصة بين الخالق و المخلوق الذين هما عنصرا الإيمان، و من هنا فإن ما جاء في صحف إبراهيم هو ما جاء في ألواح موسى هو ما جاء في بقية التوراة، و في المزامير، و هو ما جاء في القرآن، و الاختلاف بينهم اختلاف سببه زمان كل دين و لغته و مستواه المعرفي و معارف ناس ذلك الزمان و عاداتهم و تقاليدهم و ظروف بيئتهم التي يجب أن يتناسب معها ليكون مفهوماً، و ما عدا ذلك فكلها تتفق على معان أساسية، توحد أكثر مما تفرق، لكنها مرة أخرى مشيئة العقل الإلهي الذي أراد هذا التعدد ليجعلنا شعوباً و قبائل و أمماً لنتعارف و ليس لنتحارب و يقتل بعضنا بعضاً، بتهمة لم تكن في القاموس المفهومي للدين، تهمة الكفر.
القاهرة
ظاهرة التكفير في ميزان العقل والدين
الطيب — lluuaayy2009@hotmail.com
شكرا دكتور سيد على كل كلمة نور تكتبها فأنت ممن يحرص على غزارة المعلومات التي تقدمها للقارىء و على طبق من فضة…. نحن سعداء لأننا في زمن فيه الدكتور سيد
ظاهرة التكفير في ميزان العقل والدين
Bassel
Great performance. Thanks Mr Al Kemni. Waiting for more.
ظاهرة التكفير في ميزان العقل والدين
Great performance.
Thanks Mr Al Kemni.
Waiting for more.
ظاهرة التكفير في ميزان العقل والدين
— el_mahmoudi@hotmail.com
شكرا سيد القمني على هذه المقالة العلمية الرائعة ،ولكوني عاجز عن تقييمها كما هي غزارتك العلمية فاني اكتفي بالدعاء لك ان يحفظك الله ويرعاك.
ظاهرة التكفير في ميزان العقل والدين
وليد
أخي أسامه أذا كان هناك لغة أساءة للأدب سافله وكاذبة وتشهيريه فهي لغة الأسلاميين.
ظاهرة التكفير في ميزان العقل والدين أسامه عسكر — asker9@yahoo.com أقول لسيد القمنى من فضلك قبل أن تنشر ماتكتبه على الناس أعد قراءته جيداً وأنا عادة أقتبس فقرات من المقالة أستشهد بها قبل أن أقوم بالتعليق عليها ولكن مقالتك هذه المرة تمثل حالة خاصة فلن أستطيع الاستشهاد بأي من جملها لأنها في مجملها تحتوي على الكثير والكثير جداً من إساءة الأدب عند التحدث عن الله سبحانه وتعالى وإنني لأرجو أن لا تكون قد كتبت هذه الإساءات عن عمد وإنما أن تكون نتيجة أن يدك تسبق تفكيرك وبرهان ذلك أن تقوم بالاستغفار العلني ونشره استدراكاً لذلك الزلل أو تصر على ما… قراءة المزيد ..
ظاهرة التكفير في ميزان العقل والدين
/ خادم المزمار — mearaj2@hotmail.com
يعتبر هذا الكاتب من العمالقه التنويرين المجددين في الوعي و الثقافه العربيه و تراثها الاسلامي … .. جزيل الشكر على الموضوع . . . و نحن ينقصنا هكذا ثقافه متجدده تتماشى مع التطور الانساني العلمي . . . المزيد عزيزي من هذه المواضيع العقلانيه . .. . شاكر لك عطائك و شجاعتك . …
بالتوفيق . .. . و دمتم بخير
ظاهرة التكفير في ميزان العقل والدين
كمال ياملكي — KAY332TELUS.NET
ما أروعك يا دكتور، قلمك رائع، وفكرُك رائع، ومناقشاتك رائعه، وكل ما فيك رائع، لذا أحبُك يا رائع، لو أردت أن تشرفني بزيارتك الى كندا، فسأكون من أسعد خلق الله