الشفاف- خاص
القرار الايراني بنقل المفاوضات المرتقبة بين طهران ومجموعة (5+1) حول الملف النووي وملفات اخرى من الاراضي التركية او بالتحديد من استطنبول، “عاصمة الامبراطورية العثمانية”، الى الحديقة الخلفية لطهران في “بغداد” تحمل اكثر من دلالة ومؤشر على تدهور العلاقات بين البلدين الجارين. وتحمل ايضا اكثر من رسالة للدول الاقليمية بان طهران ما تزال تملك الكثير من المفاتيح في المنطقة في حال قرر البعض من هذه الدول ضرب خط تحالفاتها من خلال القضاء على النظام السوري برئاسة بشار الاسد، وقطع جسر تواصلها مع حلفائها في لبنان وفلسطين.
لا شك ان ايرن قلقة من التدهور الكبير الذي اصاب وضع حليفها الاستراتيجي في سوريا، وان سقوطه قد يزعزع استقرار منظومتها الاقليمية، ويخرج من يدها ورقة كان بمقدورها، في ظل التغييرات التي حدثت في المنطقة العربية بعد الربيع العربي والانتفاضات الشعبية، ان تجعل منها الرابح الاكبر، خاصة بعد سقوط الرئيس المصري حسني مبارك ونظامه نسبيا.
في المقابل، حاول بعض الاطراف الاقليميين توظيف الانتفاضة السورية وكأنها فقط منصة للنيل من الدور الايراني في المنطقة ومنطلقاً لتحجيمه وفرض التراجع عليه، بغض النظر عن معاناة الشعب السوري وما يكابده امام آلة القتل التي يمتلكها النظام الذي لم يتورع عن استخدام شتى الاساليب الدموية من اجل قمع هذه الانتفاضة والقضاء عليها.
وقد دخلت ايران منذ بداية الانتفاضة الشعبية في سوريا في صراع حاد ومكشوف مع الاطراف الاقليمية المعادية للنظام في سوريا، على اساس ان الدفاع عن نظام بشار الاسد هو دفاع عن النظام في ايران. وبعيداً عن الصراع، او التنافس غير المعلن او المعلن بين طهران والمملكة العربية السعودية على زعامة العالم الاسلامي وقيادة منطقة الشرق الاوسط ، فان الربيع العربي فجّر صراعا جديدا في المنطقة بين ايران وتركيا من جهة، وصراع مؤجلاً بين تركيا والرياض من جهة اخرى.
تفجّر الصراع التركي الايراني هذه المرة جاء على خلفية الازمة السورية والدور الذي تحاول ان تلعبه انقرة في هذا السياق. وهو ما اعتبرت طهران انه يستهدف دورها ونفوذها وموقعها في المعادلة الاقليمية، ما اسهم في ايصال حدة التنافس بينهما الى اعلى مستوياتها. اضافة الى محاولة تركيا استعادة دورها الريادي في المنطقة على انقاض الدور الايراني والدول الاقليمية الاخرى انطلاقا من ان تركيا وبعد وصول حزب العدالة والتنمية الاسلامي عام ٢٠٠٢ قدمت نفسها على انها داعية الاسلام المعتدل والعلماني علي اساس الديمقراطية الغربية. وبالتالي حاولت استغلال الصورة التي قدمتها عن اسلاميتها في لعب دور الوسيط بين الدول الاسلامية مع الدول الغربية. في حين فشلت ايران في بناء علاقات ثقة بينها وبين الغرب وتقديم نموذج اسلامي منفتح على الرغم من انها تبنت الايديولوجية الاسلامية كأساس للحكم الذي اقامته عام 1979 بعد انتصار ثورتها على انقاض الحكم الملكي.
وقد اثارت السياسة الخارجية التي اعتمدتها حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا، الحساسية الايرانية. وكذلك الايحاءات التي حملتها حول طموحات تركية باعادة احياء “العثمانية” من جديد، خاصة وان الحراك الدبوماسي التركي عمد الى توسيع وتعزيز العلاقات مع دول الشرق الاوسط في مختلف المجالات وسعى لحل النزاعات بين هذه الدول. وحاولت تركيا الدخول على خط عملية السلام العربي الاسرائيلي بقوة من خلال استضافتها للمفاوضات الفاشلة عام ٢٠٠٧ بين سوريا وإسرائيل، والتي عقدت عليها آمال بامكانية التوصل الي حل مسألة مرتفعات الجولان وتوقيع معاهدة سلام بينهما.
على الرغم من ذلك فان الطموح التركي بالدخول على خط الازمات الايرانية مع الغرب لم يكن جديدا ، بل بدأ منذ العام ٢٠٠٣ ، أي مع بداية الجدل حول الملف النووي الايراني وانطلاق عملية الحوار بين ايران والمجتمع الدولي. بدايةً مع الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) ومن ثم مع مجموعة الدول ٥+١ المؤلفة من الدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن مع المانيا.
فلقد سعت تركيا للدخول على خط الازمة النووية الايرانية بأساليب مختلفة. لاعتقادها بان اي حرب بين ايران والغرب سيكون لها انعكاسات طويلة الأمد من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها على تركيا كونها الدولة الاقرب جغرافيا الى ايران، وبينهما حدود مشتركة يصل طولها الى اكثر من الف كيلومتر. بالاضافة الى ان أنقرة تسعي من وراء هذا الى تعزيز وترسيخ دورها القيادي في منطقة الشرق الاوسط، وان تبرهن عن قدرتها على لعب هذا الدور امام العالم وخاصة امام الدول الغربية.
ايران من جهتها لم يحدث ان وافقت في اي وقت من الأوقات علي إعطاء تركيا دور الوسيط الفعلي في المسائل موضوع الجدل بينها وبين الغرب. وما يظهر من التصرفات واسلوب التعاطي الايراني في السنوات الاخيرة يكشف انها فضلت اعطاء دور الوسيط لدول صغيرة في المنطقة ترتبط معها بعلاقات جيدة ، مثل سلطنة عُمان او حتى العراق الضعيف الذي احتضنت ايران قبل عام 2003 قادته الجدد، بدلاً من اعطاء تركيا هذا الدور في الوساطة.
والمثال والدليل على ذلك، الوساطة التي قامت بها سلطنة عمان في اطلاق سراح الأمريكيين الثلاثة الرياضيين عام ٢٠١٠ الذين دخلوا الاراضي الإيرانية عن طريق كردستان العراق. وكذلك ما قام به الرئيس العراقي جلال طالباني عندما نقل رسالة الرئيس الامريكي باراك اوباما الى المرشد الايراني أية الله علي خامنئي مطلع هذه السنة ٢٠١٢.
كثير من المراقبين يعتقدون ان السبب الوحيد الذي دفع ايران في سنة ٢٠١٠ للموافقة علي توقيع علي بيان طهران الثلاثي مع تركيا والبرازيل لنقل ١٢٠٠ كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بدرجة ٣.٥ ٪ الى تركيا هو معرفتها بان قرار مجلس الأمن رقم ١٩٢٩ بفرض عقوبات جديدة بحقها سيصدر. بحيث اقتصرت فائدة هذا البيان على قيمته الإعلامية والدعائية لصالحها، بالاضافة الي ان التوقيع على هذا البيان كان سيرضي هذين البلدين اللذين تربطها بهما علاقات جيدة وكونهما عضوين غير دائمين في مجلس الامن، الى جانب انه يساعد في اظهار ايران على انها بلد يسعى الى التعاون والحوار حول ملفه النووي.
لعل المسلمة الابرز التي قد لا تغيب عن ذهن أي مراقب هي ان غالبية المسؤولين الإيرانيين لا يثقون بتركيا، ويردون السبب في ذلك الى كون تركيا عضو في الناتو وحليف لأمريكا وتدعو الى اعتماد “الاسلام الامريكي”. الي جانب ان الموافقة على او الاعتراف بأي دور لتركيا، مهما كان شأنه، حتى لعب دور الوسيط بين ايران والغرب، فانه يعني اعترافا بدور قيادي لتركيا في المنطقة. وهذا امر مرفوض ولا يمكن القبول به.
وهنا لا بد من التوقف عند التداعيات التي سببها “الربيع العربي” على العلاقة بين البلدين وما ادى له من سقوط أنظمة زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر ومعمر القذافي في ليبيا وعلي عبدالله صالح في اليمن، وموجة الاعتراضات الكبيرة التي تشهدها كل من البحرين وسوريا. كل هذه التطورات زادت من حدة المنافسة والاختلاف بين ايران وتركيا، وقد زاد من حدة الاختلاف او الخلاف بينهما ان كل منهما لديه أيديولوجية مختلفة عن طبيعة الدولة الاسلامية وحولها.
في العام ٢٠١١ انتهت جولة المباحثات بين ايران ومجموعة ٥+١ التي جرت في اسطنبول التركية من دون اي نتيجة محددة لتثبت من جديد فشل الوساطة التركية او لترهن عن الرغبة الايرانية في عدم وصول هذه المباحثات الى نتيجة محددة ، خاصة على الاراضي التركية.
وقد بذل وزير الخارجية التركي احمد داود أوغلو مساعي كبيرة لاقناع القيادة الايرانية بالموافقة على استضافة اسطنبول “عاصمة الامبراطورية العثمانية ” للجولة الجديدة للمباحثات بين ايران ومجموعة ٥+١. وقد قام بزيارات متعددة الي طهران، والتقى بالمسؤولين الإيرانيين، وكذلك مع كاترين أشتون مفوضة السياسات الخارجية في الاتحاد الاوروبي والمفاوضة الرئيسة عن هذه المجموعة مع ايران من اجل الحصول على موافقة الطرفين على ذلك. وقد حاول أيضاً رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان الحصول على موافقة القيادة الإيرانية عندما قام بزيارة ايران بعد مشاركته في قمة الأمن النووي التي عقد في سيول، وبعد اجتماعه هناك مع الرئيس الامريكي باراك اوباما الذي حمله من دون شك رسالة الي المرشد الايراني والقيادة الإيرانية. لكن اردوغان صدم خلال تواجده في ايران، وبالتحديد في مدينة “مشهد” شرق ايران التي سافر اليها للاجتماع مع المرشد الذي يمضي عطلة رأس السنة الإيرانية وأعياد النوروز هناك، صدم اولا بالرفض الايراني لتكون اسطنبول مكانا لاستضافة الجولة الجديدة من المباحثات بين ايران والدول الغربية، وايضا صُدِم بالقرار الامريكي بوضع تركيا علي جدول الدول التي تشملها العقوبات الامريكية في حال رفضت تطبيق سياسة العقوبات التي فرضتها واشنطن علي البنك المركزي الايراني وصادرات النفط! خاصة وان تركيا تستورد من ايران حوالي ٣٨٪ من احتياجاتها النفطية. وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين اكثر من ١٠ مليارات دولار فضلا عن ان تركيا قد تحولت بعد سلسلة العقوبات الدولية الاخيرة ضد ايران الى معبر لمعظم العمليات التجارية بين ايران والعالم.
وهنا لا يجب ان نسقط امكانية ان تكون العلاقات المتوترة أخيرا بين تركيا وفرنسا خاصة، والدول الغربية عامة، قد أثرت سلبا على امكانية ان تلعب تركيا دورا وسيطا بينها وبين ايران.
من هنا يمكن القول ان القرار الايراني بالطلب من العراق استضافة المرحلة او الجولة الجديدة من المفاوضات مع مجموعة ٥+١ علي اراضيه بديلا عن تركيا يحمل رسالة واضحة لتركيا بانها لا يمكن ان تحصل على شرف هذه الاستضافة. وقد يكون هذا ما سمعه اردوغان من خامنئي مباشرة في اللقاء الذي جمعهما، بالاضافة الى سماعه موقفا إيرانيا واضحا من الأزمة السورية التي تعتقد طهران ان تركيا تلعب دورا مشبوها في دعمها للأطراف المعارضة وانها تحاول النيل من حليف ايران الاستراتيجي في المنطقة وانها قد تكون شريكا في لعبة دولية وإقليمية تهدف الي تضييق الخناق على طهران وضرب تحالفاتها في المنطقة لصالح المشروع الامريكي والإسرائيلي. وهذا قد يكون السبب الذي دفع المرشد الايراني للحديث بحدّة مع ضيفه التركي، وكانه يريد إيصال رد واضح على الرسالة التي حملها من الرئيس الامريكي وتهديد ايران بسبب برنامجها النووي وكذلك عرقلتها لعملية إزاحة النظام السوري.
لكن الأهم في القرار الايراني نقل المفاوضات من اسطنبول التركية الي بغداد العراقية هو ان يكون لدي الجانب الايراني نية جدية في التوصل الي تفاهمات واضحة مع المجموعة الغربية حول الملفات الإقليمية ومنها الملف النووي من دون الحاجة الي وسيط تركي. وبحيث يمكن القول ان المباحثات جرت في منطقة تقاطع المصالح بين الطرفين الايراني والامريكي او على ارض مشتركة بينهما، وبالتالي توجيه رسالة واضحة وبتوقيع مشترك ايراني وامريكي الي الدول العربية المصرة على مقاطعة الحكومة العراقية لاعتبارات لا تخفي على احد بأنها تفاقم من حجم خسائرها من خلال تحويل العراق الى منصة لتصفية الحسابات مع طهران، مع ان القمة العربية كانت لتشكل مدخلاً لاستعادة على الاقل العراق مرحليا او جزئيا، او فرض شراكة عربية مع الهيمنة الإيرانية.
fahs.hassan@gmail.com
كاتب لبناني – دبي