إبراهيم حميدي من دمشق:
إنها المرة الثانية التي ينجح فيها الجانبان السوري والإيراني في التوصل الى «بيان مشترك» يلخص النقاط المشتركة بعد أربع قمم تعقد بين الرئيسين بشار الأسد ومحمود احمدي نجاد منذ وصول الأخير الى الرئاسة وقيام الأسد بتهنئته بالفوز في نهاية العام 2005.
ولعل القراءة المتأنية وتفحص كل كلمة وترتيب الكلمات والفقرات في»البيان المشترك» بعد قمة الأسد – نجاد في دمشق في 19 من الشهر الفائت، تساهم في الاقتراب من فهم العلاقة الاستراتيجية بين نظامين يختلفان عقائدياً بين علماني في سورية وديني في إيران تجمعهما مصالح سياسية في الشرق الأوسط، ومدى الندية التي يجادل خبراء في انها لم تعد موجودة على اساس اعتقاد ان «القرار السوري بات في طهران».
بعدما يعرب الجانبان عن «الارتياح للمستوى الرفيع» الذي وصلت اليه العلاقات التي تجددت بعد فوز نجاد وتعرض سورية لضغوط هائلة في العام 2005 على أساس البناء على تاريخية العلاقة منذ فوز «الثورة الإسلامية» في 1979، نجح المفاوضون السوريون في ان يبدأ «البيان المشترك» بالحصول على «تأييد» إيراني واضح غير ملتبس لـ «حق الشعب السوري في استعادة الجولان السوري المحتل الى خط 4 حزيران (يونيو) 1967».
وتكتسب أهمية هذه الفقرة، في أنها المرة الأولى التي تسجل في بيان ثنائي باعتبار ان طهران تعارض العملية التفاوضية مع «الكيان الصهيوني». لكن الأهم ديبلوماسياً ان المفاوض «الشامي»، نجح في تحديد الدعم باستعادة الجولان الى «خط 4 حزيران»، ما يعني اعترافاً ضمنياً بحدود العام 1967 في بيان صدر باسم نجاد، في وقت قال الرئيس الإيراني المحافظ اكثر من مرة إن إسرائيل «في طريق الزوال». وعليه، فقد طرح ديبلوماسيون غربيون في دمشق أسئلة عما اذا كانت الموافقة الايرانية «اعترافاً بإسرائيل».
وكالعادة لم يخل البيان من ربط المسألة السورية بالقضية الفلسطينية، فتضمن تأكيد الجانبين السوري والايراني «مجدداً حق الشعب الفلسطيني في العودة وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس»، مع «إدانة الانتهاكات الاسرائيلية (وليس الصهيونية وفق الخطاب الإيراني) المستمرة لحرمة المسجد الأقصى ومحاولة تقويضه وطمس هويته العربية والإسلامية والتاريخية لمدينة القدس».
وتأتي ضرورة ملاحظة هذه الفقرات باعتبار انها جاءت بعد خطاب الرئيس الأسد إثر أدائه اليمين الدستورية، الذي وضع «خطاً احمر» لعملية التفاوض مع إسرائيل، فربط اي مفاوضات مستقبلية بالحصول على «ضمانة خطية» من إسرائيل بالانسحاب الكامل من الجولان قبل بدء الاتصالات مع «طرف ثالث» وصولاً الى «مفاوضات ثنائية» تتناول عناصر السلام او ما يعرف بـ «أرجل الطاولة الأربع»: الترتيبات الأمنية، عناصر السلام، الجدول الزمني للانسحاب، المياه.
يجوز فهم البيان بعد قمة مشتركة، ان ايران – احمدي نجاد تدعم سورية – الأسد بوضوح في سعيها لاستعادة الجولان الى خطوط 4 حزيران بعد كلام خبراء من ان فجوة تقوم بين الطرفين في شأن العملية التفاوضية. كما يجوز الفهم ان تضمين هذه الفقرة في البيان، بمثابة رد مزدوج على دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت ان «ثمن الجولان» سيكون في أحد أبعاده القطيعة مع إيران ودعم سورية في شأن احتمال حصول حرب مع إسرائيل باعتبار ان احمدي نجاد رحب بـ «صيف اكثر سخونة لأنه يعني مزيداً من الانتصارات لشعوب المنطقة والهزائم لأعدائها».
الملاحظة الثالثة، التي تمكن الإشارة اليها بعد ربط الفقرات المرتبة، انه تضمن رداً على ما قيل من ان دمشق استغنت عن الربط بين المسارين التفاوضيين السوري والفلسطيني وأنها مستعدة للتفاوض ثنائياً مع اسرائيل من دون الالتفات الى ما يحصل على المسار الآخر: الفلسطيني.
وجاءت في البيان «مناشدة» لكل من «فتح» و «حماس» كي تعودا الى «نهج الحوار والتوافق للحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني». يعني هذا فهماً سورياً – إيرانياً مشتركاً بأن التقدم في المسيرة التفاوضية على المسار الفلسطيني يتطلب وحدة الصف الفلسطيني لا ان تمضي «فتح» والسلطة الوطنية بعيداً مع الجانب الاسرائيلي تاركة قطاع غزة وفق مبدأ «الضفة الغربية أولاً»، خصوصاً ان زيارة نجاد تضمنت لقاءات في القصر الرئاسي السوري مع قادة «حماس» و «الجهاد الاسلامي» وبقية المنظمات المعارضة لـ «فتح»، وسط الاعتقاد بأن القضية الفلسطينية هي احدى نوافذ الإطلالة الإيرانية على النفوذ في الشرق الأوسط.
ولدى التقدم في قراءة «البيان الصحافي المشترك» والانتقال من الملف الفلسطيني الى العراق، تكون الحاجة اكثر الى امتحان معاني الكلمات وأولويتها. ليست صدفة ان تبدأ الفقرة العراقية بأن «يعبر الجانبان عن دعمهما الحكومة العراقية» برئاسة نوري المالكي وإن كان اسمه لم يذكر.
هذا نجاح إيراني، لأن المالكي لا يروق كثيراً لدمشق. كما ان طهران بذلت مساعي عدة كي ترتب زيارة له الى سورية، بحيث ان مستشاره علي الدباغ زار دمشق سراً قبل اسابيع، لكنه عاد الى بغداد بخفي حنين ومن دون موعد رسمي. بل كان مقرراً ان تستقبل دمشق نائب الرئيس العراقي عادل عبدالمهدي في 7 آب (اغسطس) قبل طلب بغداد تأجيل الموعد، وسط اعتقاد خبراء ان عبدالمهدي بين الأكثر حظاً لأن يكون مرشح «الائتلاف الشيعي» الى رئاسة الحكومة في حال حزم المالكي حقائبه خارجاً من رئاسة الحكومة.
يرجع «الاعتراض» السوري على المالكي الى عدم التزامه إجراء مصالحة وطنية ونبذ الطائفية والغاء «قانون اجتثاث البعث». لذلك، حصل المفاوض السوري في المقابل على ان يتضمن البيان المشترك «الحفاظ على هوية العراق العربية – الإسلامية».
صحيح انها المرة الثانية التي تذكر فيها «الهوية العربية -الإسلامية» في بيان سوري – إيراني بعد نجاح معاون وزير الخارجية السوري احمد عرنوس في ضم هذه العبارة في البيان السابق بعد زيارة الأسد الى طهران في شباط (فبراير) الماضي، لكن يجب عدم التقليل من مغازي هذه الفقرة، باعتبار ان كل كلمة كانت تخفي وراءها خلافاً سورياً – إيرانياً إزاء العراق. وليس سهلاً ذكر هذه العبارة باعتبار ان دمشق المشبعة بالفكر القومي تعطي اولوية لـ «الهوية العربية» وطهران المحكومة بنظام اسلامي تعطي الاولوية لـ «الهوية الإسلامية»، فكان الحل الوسط ذكر الهوية المزدوجة، مع أولوية كلمة «العروبة» على «الاسلام» باعتبار ان البيان صدر في دمشق «قلب العروبة النابض».
وكان هناك اعتقاد بأن القلق من تفتيت العراق ومن نظام فيديرالي فيه هو في دمشق اكثر مما هو في طهران، لذلك لا يفوّت الجانب السوري فرصة للمطالبة بـ «مراجعة» الدستور والفقرة المتعلقة بأن العراق فيديرالي، ولا تتردد سورية في اي مناسبة بمطالبة دول الجوار بعدم الاعتراف بأن العراق فيديرالي. كما ان سورية لم تشارك في مؤتمر «العهد الدولي في شأن العراق» الذي عقد في شرم الشيخ في ايار (مايو) الماضي لأن المؤتمر قام في وثائقه على فيديرالية العراق. لذلك تضمن البيان تأكيداً لـ «وحدة العراق، أرضاً وشعباً، وسيادته واستقلاله» ولـ «ضرورة خروج قوات الاحتلال منه» من دون ذكر عبارة «جدول زمني لانسحاب القوات المتعددة» او «اتفاق إطار» لخروج هذه القوات، كما جرت عليه العادة في بيانات سابقة.
وفي مقابل «دعم» حكومة المالكي، كان «الثمن» المدفوع إيرانياً الى سورية دعم احمدي نجاد «المصالحة الوطنية بين جميع مكونات الشعب العراقي ونبذ الفتنة الطائفية» مع مناشدة مشتركة لـ «الشعب العراقي كي يتمسك بوحدته الوطنية».
يعني هذا عملياً ان إيران باتت مقتنعة اكثر بالرأي السوري في ان «الحل في العراق هو سياسي وليس أمنياً»، ومقتنعة بـ «الرؤية العربية» التي صاغتها الديبلوماسية السورية بعد لقاءات الرئيس الأسد مع قادة جميع أطياف الشعب العراقي بضرورة ان تقوم المصالحة بمشاركة «جميع مكونات الشعب العراقي»، بمن في ذلك «البعثين» وقادة العشائر والكتل السنية في العراق، وإن كانت طهران لا تزال غير متحمسة لتعبيد الطريق أمام العودة السياسية لـ «البعثيين» الى العملية السياسية في بغداد.
وكان لافتاً ان البيان لم يتضمن إشارة الى موضوع «تفكيك الميليشيات» بالتزامن مع «تشكيل مؤسسات الجيش والأمن على أسس وطنية وليست طائفية»، وهي الأمور التي ترى دمشق أنها ضرورية لحل المأزق العراقي. كما انه تضمن «إدانة الإرهاب الذي يستهدف الشعب العراقي ومؤسساته كافة»، ذلك بعد تردد معلومات عن ان إيران تعبر أحياناً عن عدم الارتياح لدعم سورية المقاومة العراقية، وبالتزامن مع إلغاء مؤتمر للمعارضة كان مقرراً في 25 من الشهر الماضي وتحديد موعد للجنة الأمن لدول جوار العراق في 8 الشهر الجاري.
صحيح ان البيان لم يتضمن تطابقاً في موقفي البلدين إزاء العراق، لكنه تضمن تقدماً بالغ الأهمية، خصوصاً اذا قورن بمرات سابقة لم يكن ممكناً فيها الوصول الى بيان مشترك، وبعد توتر ضمني أعقب لقاء وزير الخارجية السوري وليد المعلم والاميركية كونداليزا رايس في شرم الشيخ حيث ظهر اقتراب سوري من الرأي الاميركي والعربي إزاء العراق وحل أزمته من «نبذ الطائفية وتفكيك الميليشيات وشروط المصالحة» اكثر من الموقف الايراني الذي كان يختصر بـ «دعم» حكومة المالكي والائتلاف البرلماني الحاكم.
وما ساهم في ردم الفجوة ومنع تدحرج كرة الخلاف، اللقاء الصريح في دمشق قبل أسابيع بين المعلم ونظيره الايراني منوشهر متقي بحضور معاون نائب الرئيس السوري اللواء محمد ناصيف، ذلك ان الطرفين تحدثا بصراحة وسجلا «نقاط المصالح المشتركة» ووسعاها.
إزاء ذلك، يبدو التفاوض حول الفقرة المتعلقة بلبنان اقل عناء وان كان هذا الموضوع تتفاوت حساسيته ومدى استعجاله. ذلك ان البيان نص على ضرورة «تعزيز الوحدة الوطنية والوفاق الوطني، ودعمهما لما يجمع عليه اللبنانيون كافة».
وكان الأسد زار طهران في شباط (فبراير) الماضي بعد بدء مبادرة سعودية – إيرانية لحل الازمة اللبنانية، وعاد «مرتاحاً لنتائج قمة كانت الأفضل بين سابقاتها». لذلك فان الحديث عن «دعم ما يجمع عليه اللبنانيون كافة» يعني ربط حل الازمة بـ «التوافق»، ما يعني اقتراباً ايرانياً من موقف دمشق.
وتضمن البيان أيضاً التشديد ثنائياً على «أمن لبنان واستقراره وسلامة أراضيه» و «حق الشعب اللبناني في مقاومة الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة ضد السيادة اللبنانية واستعادة ما تبقى من أراضيه» مع «دعوة الأوساط الدولية المسؤولة لاتخاذ الاجراءات اللازمة لوقف العدوان الصهيوني (وليس الإسرائيلي وفق المصطلح السوري) اليومي المتكرر ضد سيادة لبنان»، اي ربط أهداف «حزب الله» وسلاح المقاومة بضرورة وقف إسرائيل انتهاكاتها سيادة لبنان وتحرير مزارع شبعا وليس النقطة الاخيرة فقط، وسط كلام عن مساع لنقل وصاية المزارع الى الأمم المتحدة مقابل ربط دمشق ترسيم الحدود في شبعا بـ «تحرير الجولان».
وكان هذا النص بمثابة رد على كلام وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير من ان إيران «تريد التهدئة» في لبنان وإشارته الى ان سورية «تعرقل ذلك». وتكمن أهمية هذه الفقرة في انها جاءت بعد زيارات الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى وجان كلود كوسران مبعوث زير الخارجية الفرنسي، وباعتبار ان احمدي نجاد التقى خلال زيارته سورية الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله.
يجوز الذهاب في قراءة معاني البيان المشترك الى القول ان طهران ودمشق وضعتا ثلاثة أسس للمبادرات الدولية والعربية لحل الازمة اللبنانية تتضمن «التوافق» و «الاستقرار» و «المقاومة» فيه، وان هذا التنسيق سيعمل به مع موسى الذي لم تصل جهوده بعد الى طهران، ومع كوسران الذي كان يراهن على استبعاد دمشق من اتصالات الحل، بل انه لم يزرها قبل الحوارات اللبنانية في سان كلو مقابل زيارته إيران، ما فسر ان الديبلوماسية الفرنسية باتت تعتبر طهران وصية على المحور السوري – الإيراني في مجال البعد الإقليمي لحل الازمة اللبنانية.
ومقابل تطلب الحنكة التفاوضية والحرفة السياسية الفائقتين ازاء ملفات العراق ولبنان وعملية السلام وتبادل التنازلات اللفظية والسياسية، تبدو عملية صوغ مواقف مشتركة من بقية المسائل قضية اقرب الى الهواية، فيكون سهلاً ان يتفق الطرفان على دعوة «زعماء العالم الاسلامي» الى العمل معاً لمواجهة مساعي «زرع الفتن»، اي عدم تحويل الصراع في الشرق الاوسط من سياسي بين «مقاومة» و «احتلال»، وبين «العرب» والاسرائيليين بحسب سورية و «الصهاينة» بحسب ايران، الى «صراع سني – شيعي» يضعف الموقف الايراني في الشرق الأوسط ويهمش أولوية القضية الفلسطينية واستعادة الجولان بصعود نزاعات أخرى.
وفق هذا السياق، توافق دمشق على النظر الى المسألة النووية على اساس «الحق الثابت لإيران وفق معاهدة حظر الانتشار النووي في الاستخدام السلمي للطاقة النووية» مع لفت انتباه المجتمع الدولي الى ما تنطوي عليه الاسلحة النووية الموجودة لدى «الكيان الصهيوني من تهديد للسلام والامن الدوليين والإقليميين» بحسب البيان.
(الحياة)