بالكاد مرّ أربعون يوما على الاستفتاء حول التعديلات الدستورية في مصر في آخر مارس، حتى توالت الطعنات التي تجعل من اللازم أن يعاود المتفائلون النظر في التمسك بتفاؤلهم بكون المادة الأولى المعدلة (حول المواطنة) تمثل نقلة إلى الأمام. نعرض هنا لأهم، وليس كل، تلك الطعنات.
***
جاءت الطعنة الأولى ضد تلك المادة الدستورية عندما ثبَّتت محكمة القضاء الإداري مفهوم الردة إذ حكمت (25 أبريل) “بعدم أحقية المسيحي الذي يعتنق الإسلام ثم يعود إلي المسيحية مرة أخرى في إثبات تغيير ديانته بالبطاقة الشخصية”. وإذ اعتبرت مثل هذا التحول “تلاعبا بالأديان”، أكدت في حيثيات الحكم “إن ذلك يمثل خروجا علي الدستور والنظام العام” (كذا!).
لاحظ أولا أن الأمر لا يتعلق بتغيير المسلم بالولادة لديانته، فهذا موضوع آخر (أكدت المحكمة استحالته!)؛ ولاحظ ثانيا أن الكثير من المدعين في القضية (45 شخصا) الذين تناولهم الحكم مباشرة، لم يدخلوا الإسلام أصلا، أو بإرادتهم؛ بل إن البعض منهم اكتشف “إسلامه” عندما توجه لاستخراج بطاقة هوية ووجد أنه أصبح هكذا بالتبعية نتيجة تحول أحد الوالدين سرا.
وهكذا أثبتت المحكمة الموقرة أن الدستور كله يتلخص في المادة الثانية (الشريعة). أما بقية صفحاته ومواده فلا تصلح سوى لاستخدامات أخرى لا نريد ذكرها هنا…
يمثل الحكم أيضا، بكافة أركانه، استهانة فاضحة بمواثيق حقوق الإنسان التي من المفترض أن تلتزم بها مصر ـ في نفس الوقت الذي تجد فيه الجرأة لترشح نفسها لعضوية “مجلس حقوق الإنسان” التابع للأمم المتحدة!
***
وجاءت الطعنة الثانية عبر “أحداث العنف” التي وقعت في قرية بمها، مركز العياط بالقرب من الجيزة، حين خرج المئات من الهائجين، عقب صلاة الجمعة 11 مايو في مسجد القرية، يحرقون ويحطمون العشرات من بيوت الأقباط ومحلاتهم التجارية ومزارعهم، بتهمة العزم على تحويل بيت إلى كنيسة. وبعد انتصارهم في غزوتهم عادوا لبيوتهم صائحين “الله أكبر”، ثم حضر رجال الأمن للمساعدة على استتباب الأمن، وقُبِض على متهمين “من الجانبين” تأكيدا على قيم العدالة والمساواة بين الجناة والمجني عليهم!
طبعا لا نعرف لماذا يزداد هياج الهائجين بعد أداة الصلاة، فهو سؤال يقع خارج دائرة المقال. المهم في الاعتداءات أنها، مرة أخرى، لا تقوم بها جماعات إرهابية منظمة، بل مواطنون عاديّون، أحيانا جيران؛ سكنت أذهانَهم فكرة أن بناء كنيسة، أو تحويل بيت إلى مكان صلاة للمسيحيين، يعد من الأعمال المحرمة شرعاً التي تستوجب الحرق والهدم والقتل.
المهم أيضا هو تكرار مثل هذه الحوادث التي يأخذ فيها الرعاع، بعد التحريض اللازم، “القانون” في أيديهم ويمارسون ترويعهم وهمجيتهم بلا رادع، عبر أنحاء الوطن.
***
أما الطعنة الثالثة فكانت عندما قضت محكمة جنايات الأقصر (12 مايو) ببراءة المتهمين الأربعة في الأحداث الطائفية بقرية “العديسات” بمدينة الأقصر، التي جرت في يناير 2006 إثر قيام بعض الهائجين بمهاجمة الأقباط لسبب يشابه ما جرى الآن في قرية بمها: وهو “شكُّهم” في قيام هؤلاء “بتحويل مضيفة إلى كنيسة بدون الحصول على التراخيص اللازمة” (!!) مما نتج عنه مصرع وإصابة 15 شخصا.
جاءت البراءة بعد “إقناع” المجني عليهم بالصلح و “التنازل” عن القضية. وهذا أمر عجيب حقا: ففي مفهوم العدالة بالدول المحترمة، تأتي الإدانة والعقوبة استيفاءً لحق المجتمع (الذي تمثله النيابة العامة) من الجاني، بهدف ردعه ورع أمثاله عن الإتيان بمثل تلك الجرائم. ولكن في أعاجيب العدل المصري، يتحول الأمر إلى المفهوم القبلي البدوي للثأر الشخصي الذي يمكن فيه أن تحل “الدية” محل العقوبة، أو أن “يتنازل” المجني عليه عن حقه وحق المجتمع برغم إدانة مرتكبي الجريمة. وهو في هذه الحالة تنازل لا يزيد عن كونه “إجبارا” نتيجة الابتزاز وليّ الذراع والتهديد بعواقب أسوأ.
وبمعنى آخر، فحتى الحالات النادرة التي يُحال فيها مرتكبو “أحداث طائفية” للقضاء، ينتهي الأمر ببراءتهم بصورة أو بأخرى. وهذا لا يشكل سوى تواطؤا من الدولة مع الإرهاب، ودعوة مفتوحة لتكرار الجرائم.
***
أما الطعنة الرابعة (القاتلة؟) فهي صمت “كبار المسئولين” المطبق بعد حادث “بمها” برغم مرور أسبوع على وقوعه. فقد كنا نتصور أن “مفهوم المواطنة” الذي نُصَّ عليه حديثا في المادة الأولى من الدستور، يفرض عليهم أسلوبا جديدا في التعامل بشفافية وعدالة مع “المواطنين الأقباط” ومع الجرائم التي ترتكب ضدهم (إضافة إلى سائر ممارسات التفرقة المعروفة…).
إننا لا نلوم الهمج الهائجين على همجيتهم وهياجهم، فربما كانت هذه طبيعتهم، خصوصا بعد عقود من الشحن عبر الإعلام والتعليم الحكوميين.
ولا نلوم حتى من حرضوهم، فهؤلاء عادة ينفذون ما يظنون أنه مشيئة آلهتهم.
ولا فائدة في لوم أجهزة الأمن، إذ قد ثبت المرة تلو الأخرى ضلوعها ـ إن لم يكن بالتآمر فعلى الأقل بالتستر أو بالتهاون.
ولا فائدة من لوم مجلس الشعب والتساؤل لماذا لا يقوم بدوره في هذه المآسي المتكررة، إذ نعلم أنه من ناحية لا يتحرك إلا بأوامر الرئاسة وأنه، من ناحية أخرى، خاضع لسيطرة وتوجهات الفاشية الدينية سواء من هذا “الحزب المحظور” أو ذاك “الحزب المحظوظ”.
لكن السؤال الملح والمؤرق يبقى: لماذا يصمت كبار المسئولين، وفي مقدمتهم السيد رئيس الجمهورية، هذا الصمت المريب؟
هل لأن مثل هذا الحادث المتكرر أصبح أمرا عاديا كحوادث السيارات، لا يستحق أن يعيره الرئيس اهتمامه؟
هل لأن الرئيس عندما أقسم اليمين على المحافظة على الدستور، كان يفهم ـ كما فهمت محكمة القضاء الإداري أعلاه ـ أن الدستور يتلخص في “مادة وحيدة”؟
أو لعل الرئيس لم يسمع أصلا بما جرى في تلك القرية لأنه يتلقى مثل هذه المعلومات عادة من جريدة الأهرام؛ التي لم تنشر حرفا واحدا حول الحادث، وكأنه جرى على كوكب آخر! وهو مثير حقا من جريدة يقال أنها تمثل توجهات “مؤسسة الرئاسة” فيما تنشر وما لا تنشر؛ بدءا من درجة كثافة الجرعة الدينية، وانتهاء برفع أو خفض مستوى الهجوم اليومي على أمريكا؛ لكن فاتها أن تنشر خبرا حول ما جرى في القرية التعيسة!
من ناحية أخرى قد تكون الصحيفة الكبرى معذورة ـ بسبب ضيق المساحة!! فقد انشغلت عبر الأسابيع الماضية بأمور شتى بالغة الأهمية والحيوية من وجهة نظرها، مثل إرجاع “أسباب انتشار التطرف وسط المجاميع المسلمة في أوروبا” إلى “تحرشات غبية تـأتي من كتاب وفنانين غربيين ضد الإسلام والمسلمين” (21 أبريل)؛ ومثل انتخاب الرئيس “المسلم” عمر أرادو في نيجيريا (27 أبريل)؛ ومثل الولولة ضد “انفراد أمريكا بإدارة شئون العالم تحت معايير وقيم اليمين المحافظ والأصولية المسيحية الصهيونية بكل مفرداتها المعادية للإسلام والعالم العربي (..) وبكل أساطيرها المجنونة عن إسالة دماء المسلمين” (28 أبريل ـ صفحة الاقتصاد!) ومثل كشف “خطة أمريكا” في أن “يصبح العرب ضد إيران، ثم السنة ضد الشيعة ثم الإسلام ضد الإسلام، ثم إقامة دويلات إسلامية، وهي بوليصة تأمين إضافية لإسرائيل” (29 أبريل)، ومثل إدانة “الهجوم الأوروبي الأمريكي الهائل منذ أحداث سبتمبر2001 علي الإسلام كدين” (9 مايو). ومثل مساندة نضال حكومة الإسلاميين في تركيا ضد أعدائها العلمانيين (تقريبا كل يوم عبر الأسابيع الثلاث الأخيرة). الخ الخ الخ.
معذورة إذن هي الجريدة فلم تجد مكانا، ولو لخبر في سطرين حول تعرض مواطنين مصريين أبرياء لهجمات همجية مدبرة؛ حتى لو كان يقول ـ كالعادة ـ ربع الحقيقة، ويخترع الثلاثة أرباع الأخرى. (وإن تذكرت أخيرا، بعد ستة أيام كاملة، أن تبشر القراء “بتصالح أهل القرية وطي صفحة الفتنة”!)
قد يكون الرئيس إذن معذورا، إذ لم يقرأ في جريدته المفضلة شيئا حول ما يجرى “لرعاياه” القبط!
معذور هو السيد الرئيس أيضا بسبب مشاغله التي يحملها على كاهله وهو في عامه السادس والعشرين من تحمل مسئولية الحكم الثقيلة: مثل التفاني في حماية النظام السوداني من الإدانة الدولية بسبب مذابح التطهير العرقي التي يمارسها في دارفور، والاهتمام بمنع تذابح الأشقاء الفلسطينيين والأشقاء الصوماليين، وبإصلاح العلاقات الليبية السودانية الخ.
في غمرة كل هذه الاهتمامات هل يجد الرئيس الوقت للاهتمام بشئون الوطن؟
وإن وجد الوقت فهل يستحق رعاياه القبط أن يضيع جزءا منه عليهم؟
التاريخ يثبت أنه لم يحدث مرة واحدة عبر أكثر من ربع قرن أن خرج السيد الرئيس بعد حادث اعتداء على الأقباط لينطق بكلمة مواساة للمعتدَى عليهم أو بأمرٍ بتعويض المتضررين أو بكلمة حق يَفهم منها الهمج الهائجون أن هناك دولة مسئولة عن النظام العام وعن كل مواطنيها بلا تفرقة.
لم يحدث هذا في الماضي، ولم يحدث هذه المرة (برغم صداع التعديلات الدستورية) وغالبا لن يحدث في المستقبل.
ألا يعلم السيد الرئيس (أم لعله يعلم جيدا ؟!) أن صمته يعطي المبرر القوي لكي يمارس الهمج همجيتهم؛ ولكي يستقوي المحرضون في القيام بالمزيد من تحريضهم؛ ولكي تتفنن أجهزة الأمن في تواطئها، بدون أن يشك أحد منهم جميعا في إمكانية مساءلتهم؛ ولكي يتضامن الجميع، من أجهزة الدولة إلى الإعلام، في امتهان الأقباط ومواطنتهم وسلامتهم؟
***
صمت الرئيس هو صمتٌ صارخ.
هو كصوتٍ صارخٍ في برية مصر: أعِّدوا طرق العنف، ومهدوا سبل الدماء.
الويل لك يا مصر مما هو آت!
adel.guindy@gmail.com