جرى تقديم حكاية “الجميلة والوحش” في المسرح والسينما، ضمن سياقات واسقاطات مختلفة، لكن تبقى من أهم المعالجات السينمائية تلك التي قدمها جان كوكتو سنة، 1946 والفيلم الذي انتجته شركة ديزني سنة. 1990 وقد اعتمد كوكتو الرواية الاصلية التي تتحدث عن أمير كان يعيش في قلعه مع خدمه، وفي إحدى ليالي الشتاء الباردة جاءت عجوز الى القلعة، تطلب مأوى من البرد مقابل وردة، فاستهزأ بها ساكن القصر وطردها، ولكنها تحولت فجأة الى ساحرة شابة وجميلة، ولشدة غروره عاقبته وحولته الى حيوان بشع، ومسخت خدمه الى اثاث منزل، وأعطته مرآة مسحورة ليرى بها العالم الخارجي. أما الوردة فتبقى متوهجة لمدة 21 سنة، فإذا تعلم ان يحب ويلقى الحب من الطرف الآخر، قبل ان تسقط آخر ورقة من الوردة يفك السحر، ولكن إذا سقطت قبل ان يكسب قلب فتاة، فإنه يبقى وحشا الى الأبد، وهنا يأتي دور “بيل” (الجميلة) التي تحرره من الوحشية.
باريس – بشير البكر:
في رؤية ديزني، الشرير ليس الوحش نفسه، بل هو شخص آخر يتباهى بقوته يدعى “جاستون”، ويصمم على الزواج بأجمل امرأة في القرية “بيل”، لكنها ترفض ذلك المغرور بشدة، وعندما طرح السؤال على “روي ديزني” مالك شركة ديزني حاليا التي انتجت الفيلم، عن اكثر الشخصيات شرا في تاريخ ديزني، قال انه “غاستون المغرور”.
تعود الحكاية الى الفولكلور الايطالي القديم، لكن اول نسخة حديثة منها وضعت في فرنسا في منتصف القرن الثامن عشر، عصر الفلسفة والبربرية، وهي تتلخص بجملة واحدة يعبر عنها المثل العربي الشهير “المظاهر تغش”، أي أن الرؤية من الخارج قد تكون خداعة، ولا تعبر بالضرورة عن الدواخل، قد يكون الكائن بشعا، ولا يوحي بالطمأنينة، ولكن داخله طيب وعذب، والعكس هو الصحيح. قد يرتدي المرء قفازات بيضاء ولكنه قاتل محترف، فليس كل الحمائم وديعة، ولا جميع الوحوش كاسرة ومفترسة. هنالك استثناءات، وهناك ما يتجاوز الاستثناء، وهذا ما أرادت ان تقوله الرؤية التي تقف خلف العمل الفني، حينما اسندت الى “الجميلة” مهمة أنسنة “الوحش”.
ظلت هذه الحكاية خالدة، تعيد على مدى الزمن الإيحاء للناس بفكرتين بديهيتين: الأولى، إن الحب أقوى من الكراهية والغرور، وأسمى. والثانية، إن الحب هو السلاح الوحيد، الذي يقف في وجه الوحشية.
رويال: لعبة المرايا
لا شك ان سيغولين رويال حصلت على نسخ من الحلقات التلفزيونية، التي شاركت فيها منذ حوالي عشرين سنة، وراحت تتفحصها بدقة، ووجدت ان شخصيتها على قدر من الاتزان واللطف والرقة والخجل، غير ان مظهرها كان مرعبا بالنظارات السميكة وصدرية الصوف، كان مظهرها فلاحيا، وتبدو مثل سكرتيرة مكتب منسي في بلدة ريفية، ومن حولها تجلس مجموعة من النساء “جميعهن يردن ان يكن شهيرات”، على حد تعبير الاغنية الأمريكية.
كانت تبدو ساذجة حين يدور الحديث في السياسة، لكن من دون شك كانت تعرف انه في وسعها ان تلبس التاريخ نعلين جديدين، وكل شيء سوف يسير على قدم وساق، حين يجري الحديث بين الذات والصورة. وقبل ان تتشكل صورتها الجديدة، كانت تراودها صورة امرأة اخرى، سوف تذهب ذات مساء الى الاوبرا، وهي ترتدي ثوبا ابيض للمناسبة، وتتزيا بكل ما لديها من مجوهرات وحلي، وقد حجزت لها شرفة الى يسار المسرح، فتثير حمية الجمهور الباريسي، فيقف من في الصالة جميعهم، ويروحون يصفقون لها ويرشقونها بالقبلات. وفي اي حال تروي الصور الفوتوغرافية، تلك الاسرار التي تجبه النساء على طريق الفتنة، وهنا تكمن نشأة كل اسطورة.
حين بدأت مشوارها في مطلع الثمانينات الى جانب الرئيس فرانسوا ميتيران، كان مظهرها كالعاملة في سيرك، ولا شك انها ما كانت لتحلم ذات يوم ان تصبح فيه صورتها على اغلفة جميع المجلات. هل كانت تقدّر انها سوف تجلس لساعات امام مرآة الزينة، لكي تتفحص الأوضاع التي تبدو فيها صورتها اكثر نضارة وشبابا؟ يبدو انها استطاعت من خلال تأمل نفسها في المرآة ان تتجاوز الامتحان، وتكتشف انها جميلة. وبينما كانت تتابع درس شخصيتيها الاثنتين، وخصوصا شخصية المرأة القوية التي ستلعبها من الآن فصاعدا، كانت تعلم جيدا انها في تلك الليلة والليالي التي تليها، ستحلم كثيرا.
قبل ان تفوز في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بترشيح الحزب الاشتراكي لخوض الانتخابات الرئاسية، كان الكل ينظر اليها كطائر غريب، وحسب أنها ستقف أمام مرآتها وتنعق منفردة، لكن ضحكتها في لحظة الفوز كانت تنم عن غبطة مفرطة، وجهها لافت للانظار باستثناء ما قد يوصف بافتقاد قسماته أي تعبير، ربما كان في داخلها ما لا يراه الآخرون، مثلا انها على أهبة الاستعداد لأن تصبح اول رئيسة جمهورية في تاريخ فرنسا، وانها لاتليق بها سوى القمم مثل ساحرات السينما الكبيرات، من غريس كيلي الى مارلين مونرو. ولو كانت في الولايات المتحدة لما تركتها شركات السينما الكبرى، ولكانت تتدفق عليها العروض المغرية للقيام بأدوار للشاشة.
يبدو ان ولادة رويال في السنغال أرض السحر الافريقي التي ألهمت ليوبولد سنغور، منحتها قوة الحدس بالاشياء وادراك اسرار لعبة الاقنعة والمرايا، لذا حين ذهبت نحو السياسة، لم تعد تكترث كثيرا لفكرة ان الناس يعتبرونها رمزا انثويا جذابا، بل ان ما لديها في اعماقها هو روحها الجميلة، وحتى اولئك الذين لا يطيقون سماع اسمها سيضطرون في آخر الامر، للإقرار بأنها ليست مجرد دمية جميلة، ومن يزعم هذا كأنه يجزم بأن جاك شيراك كان من طينة ابراهام لنكولن. غير ان الفاتنات لا يكتفين بفتنتهن، فقد تكون المرأة جميلة لكن جمالها لا يجديها نفعا، إذا كانت لا تحس به.
وبالتأكيد، وسواء شاء المتعففون أم أبوا، فقد اعترفوا بأن رويال كانت على قدر من الذكاء، اكثر مما كانوا يظنون، وخصوصا بعد حوارها مع فرانسوا بايرو بعد الدورة الاولى للانتخابات، الذي أثار ارتياحا واسع النطاق بين بارونات وفيلة الحزب الاشتراكي، الذين حين فشلوا في إبعادها عن طريق الاليزيه، صار هاجسهم الاساسي هو السخرية منها. لقد تبين انها امرأة تلتزم الحذر في خطواتها، وهي ذات موهبة تفضل الاستتار على العلن، ولهذا السبب لا ترغب في ان تضيف الى مشوارها اكثر من عنصر واحد في المرة الواحدة، وتبين بوضوح أناتها وتمهلها، انها مثل ممثلة ترتعد خوفا من ان تمثل على نحو رديء، وذلك اجمل مديح طمحت اليه حين قال البعض عنها انها ادركت انه ليس في اعماقها اي شيء زائف، ومن دون شك ان قسطا كبيرا من نجاحها يعود الى انها ظلت طيلة الاشهر الثلاثة الماضية تحت رقابة شخص ذكي وذي موهبة هو مدير حملتها جان لوي بيانكو، ورغم ذلك يسود الانطباع احيانا حين تتحدث عن مشروعها، ان هناك من يزقمها مثل إوزة، فهي تتحدث باستفاضة عن يوتوبيات، في عالم يبدو كبالون على وشك الانفجار.
لكنها في مهرجانها الأخير مساء الأول من أيار/مايو، في ستاد “شارليتي” الذي حضره قرابة 40 الفا، وفي المناظرة الأخيرة بينها وبين ساركوزي في الثاني من الشهر الحالي، كان اداؤها موفقا جدا، لقد اجادت لعبة المرايا، وكانت تأخذ اشكالا مختلفة، مرة تشبه العصفور لتبدو خفيفة، ومرة اخرى تشبه الشجرة لتبدو رصينة تفرض حضورها بلا مبالغة، ومرة ثالثة تشبه لوحة زيتية مثقلة بالتعابير من الداخل، وفي مرة رابعة تبدو كلوحة أكواريل، رقراقة عذبة مثل جدول ماء. كان يخيل للمشاهد ان الكلمات تتشكل في رأسها قبل ان تقولها، فربما كان المطلوب هو الذكاء الفطري، ليرتقي الكلام الى شرط الفتنة النسائية التي تسير على جناحين في طريق الاليزيه.
ساركوزي: تجاوز الذات
ساركوزي القصير القامة، صارم المحيا، الذي تطبع سحنته علائم التعالي يبدو دائما كأنه يشّتم لدى الآخرين ما ينبغي الاعتراض عليه فورا، وبسرعة شديدة يترك لدى الناظر اليه انطباعا، انه من صنف الرجال الذين يستطيعون، ان يرموا بأنفسهم من سيارة منطلقة بأقصى سرعتها عند منعطف خطر، قبل ان تصطدم بشجرة وتقتلعها من جذورها.
حين يتحدث يبدو خطابه كأنه مكتوب لرجل آخر، أو هو مصمم وفقا لنظرية “التمثيل افضل من الواقع”، أي ان التمثيل يبدو واقعيا اكثر من الواقع نفسه، فالاسنان المستعارة قد تبدو افضل من الاسنان الطبيعية، وهذا ما ينبغي ان يفعله الممثل الناجح، فمن لا يرتقي إلى ما يتجاوز ذاته لاتعود لديه إلا ذاته، لذا درج في الايام الاخيرة من حملته، على استخدام قاموس مفردات أبعد من شخصيته الفعليه، حتى صار الناس يحتارون في أمره كثيرا، لقد تحول من رجل يخيف، الى مضطهد ومعتدى عليه من طرف رويال!. إن من لايعمل في حقل التمثيل يدرك صعوبة ذلك، قد يكون على الممثل ان يتقمص دورا ما لمدة عشرين دقيقة، أو ساعة اذا كانت المسرحية طويلة بعض الشيء، فالأجدر ان يقدر على التركيز، لأن اشياء كثيرة، سواء على المسرح، أو بين صفوف الجمهور، قد تطرأ وتفقده الاتصال.
يؤدي ساركوزي دوره كأنه مصنوع من معدن يجري صقله كل صباح، يتحدث وكأن الناس عمال ميكانيك في ورشته، أو كأنه يخاطب أحيانا باعة للملفوف والقرنبيط في سوق شعبي، وسط شعور لا شيء يضاهي إحساس المرء، بأنه أصبح قبلة أنظار الجميع.
رجل يعج بالمواهب، لكن تبدو مشكلته الوحيدة احيانا انه يثير الخوف، لا يتمهل كثيرا في اجاباته وردود افعاله، وقد لخصته رويال حين وجه لها السؤال: ماهي ابرز مزايا ساركوزي؟ كان ردها انه يمتلك الجواب لكل سؤال. وما هي اهم عيوبه؟ كان ردها هو انه يمتلك الجواب لكل سؤال!. يشعر المرء وهو يستمع اليه وكأن فراغا ما قد استقر في قرارة نفسه، ومن شأن الغرائز ان تجد فيه ملاذا. لا يختلف اثنان على انه مولع بشخصه، ويبدو ان ذلك يثير خياله، حتى ان التلفزيونات تقدم سيرته على نحو فاقع، حيث تصوره طفلا متوردا على الدوام، وذا سحنة جميلة، ذهبي الشعر، وسيما كما ينبغي ان يكون الفتى وسيما وذا كبرياء، أما الآن فيبدو كمن ابتلع كمية كبيرة من اقراص الفيتامين، حتى صار صوته مطبوعا بحشرجة جارحة.
رجل المخاطر، لا يكف عن استعراض العابه البهلوانية في كافة المنعطفات الخطرة، فيثير الخوف، إلى حد يشعرفيه المرء حياله، كما لو انه يهبط بطائرة يقودها بنفسه، وهو يسمع قرع طبول، ويرى البروق الحمراء لأسراب من الصواريخ المنطلقة، أو كأنه يجلس على الكرسي الكهربائي. إن ذلك مجرد تعبير للقول كم يبدو الامر كهربائيا، حتى ان بعض الفرنسيين لايتحرج في الاعراب عن نيته بمغادرة فرنسا، في حال وصل ساركوزي الى الحكم، مثلما حصل مع أمريكيين لم يطيقوا رؤية جورج بوش في البيت الابيض. إن الفرنسيين ليسوا من اولئك المعتادين على اداء التحية العسكرية، ولذا صاروا يحضرون انفسهم لخمس سنوات عجاف.
في الاسبوع الاخير حاول ان يبعد عن نفسه تهمة “الرجل الذي يثير الخوف”، وإن في رأسه مسدسا بدل الدماغ، فرد مثلا على الاتهامات الموجهة له بممارسة ضغوط على وسائل الاعلام بابتسامة رقيقة، وكأنه امضى طفولته لايأكل شيئا إلا العنب. لكنه تحدث بلغة نارية في سلسلة الخطابات الانتخابية التي القاها لاحقا، في “كليرمونت فيرون” و”روان” وباريس(مهرجان بيرسي). قال ببساطة، لا احد مثلي جلس في الاليزيه، بدت عليه سيماء من يريد ان يتجمل في عيون الآخرين، فأخذ يطلق شعارات في جميع الاتجاهات، لابد أن تصيب احدا في طريقها: “قليلا من الاخلاق”، “قواعد السلوك”، “الكرامة السياسية”، “ازمة الديمقراطية الفرنسية”، “سأطوي صفحة ايار 1968”، “الديمقراطية نظام يقوم على قواعد العيش المشترك”، “اليوم هناك من لا يريدون قبول الديمقراطية، لايريدون ان يقبلوا تصويت الفرنسيين، اتفهم آلام الفشل، ولكن هذا لايبرر الثأر”، “لن ادع احدا يسرق الحوار، وهؤلاء سيجدوني في طريقهم”، “كل الذين لايتفقون معهم هم فاشيست”، “لا اريد ان تكون الانتخابات الرئاسية موعدا ضائعا”، “محاكمات ستالينية، محاكمات موسكو”. وصار يقسّم الفرنسيين إلى أهل النهار واهل الليل، ويعلن انحيازه الى “فرنسا التي تصحو باكرا”.
شخص مفرط في توظيف العواطف الملتبسة، وكأن العالم الذي يحيط به ويعيش فيه، هو عالم المعذبين والمسحوقين والمحبطين. يبكي على فرنسيي المستعمرات “الذين عانوا كثيرا وهم يتركون بلادهم”، يريد حصد الاصوات من الشوارع بأي ثمن، حتى المصانع التي تعد معاقل للقوى اليسارية صار يزورها، ويبدي ودا للعمال، ويضع على لسانه عبارات منتقاة بعناية من خطابات زعماء الحركة الاشتراكية، مثل ليون بلوم وجان جوريس، ولم يبق له إلا أن يستشهد بلينين وكارل ماركس. ولكنه يعرف في اعماقه ان الممثل لا يستخدم إلا عبارات الآخرين.
ومهما يكن من أمر فإن خطاب “روان” سوف يصبح سابقة من طرف رجل سياسة فرنسي، وهو على عتبة الاليزيه، لقد تجاوز فيه كل الحدود التي كان قد وصل اليها اليمين المتطرف بصدد الاجانب، حتى جان ماري لوبان زعيم اليمين العنصري، لم يقل للفرنسيين المنحدرين من اصول مهاجرة “من لايعجبه الوضع فليحزم حقيبته ويرحل. أحبوا فرنسا أو غادروها”.
بدا ساركوزي في نهاية الشوط كأنه تسلق مرتفعا، متقطع الانفاس لكثرة ما تحدث خلال هذه الحملة، التي اظهر خلالها دينامية مدهشة، وكان في المناظرة الاخيرة مع رويال يشعر بنشوة عارمة، وارتياح يبدد الضيق الذي لازمه بسبب التركيز على شخصه في الايام القليلة الماضية، كانت تعابير وجهه تقول ان طريق الاليزيه معبدة بمتاعب لا تحصى، في حين ان عينيه تبرقان كنجمتين من فرط السعادة، وقد اشرق وجهه بانتظار أن يناديه الجميع قريبا: مسيو لو بريزيدنت.
bacha@noos.fr