إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
طوَّقَنا “#حزب الله” بعد أن بنى من حولنا، بالإسمنت المسلّح، جدرانًا أربعة.
الجدار الأول، بناه بالتهديد والتخوين، عندما انتفض قسم كبير من شعبنا ابتداءً من 17 تشرين الأول سنة 2019. تصدّى “حزب الله” للانتفاضة بأهدافها الثلاثة: أوّلاً، تشكيل حكومة من شخصيات مستقلّة عن أحزاب السلطة، تُعطَى صلاحيات استثنائيّة لإطلاق ورشة إصلاح، خاصةً على المستوى المالي – الاقتصادي – الاجتماعي؛ ثانيًّا، إجراء انتخابات نيابيّة مبكرة؛ ثالثًا، وبطريقة غير مباشرة، إسقاط عهد ميشال عون أو تحييده على الأقلّ. نصر الله قال “لا” قاطعة للأهداف الثلاثة بعد أيام قليلة من انطلاق الانتفاضة، وكرّت سبحة التهديدات والغزوات على المنتفضين مصحوبة بتخوينهم.
محاولة إصلاح الحكم الفاسد والسارق أموالَ المواطنين فشلت، بعد أن وقف “حزب الله” في وجه جميع المحاولات لإسقاط السلطة القائمة، وأعلن بالقول والممارسة أنّه حاميها الأوّل.
ترنّحت الانتفاضة وكادت أن تخمد كلّيًّا، لولا تفجير المرفأ، الذي دلّ بالدم والنار، على تورّط السلطات جميعها، السياسيّة والعسكريّة والقضائيّة، في السكوت عن وضع النترات في المرفأ، واستخدامه ربما، من قبل النظام السوري في البراميل المتفجّرة على رؤوس شعبه المعارض. ضُبِطَت السلطة القاتلة بجميع أذرعها، بالجرم المشهود، وكان يمكن للقضاء أن يلعب الدور التي عجزت عنه الانتفاضة، أي إسقاط السلطة، من خلال استدعاء المتّهمين المعروفين ومحاكمتهم. وهنا أيضًا وقف “حزب الله” علنًا في وجه تحقيق العدالة، من خلال تهديده مباشرةً قاضي التحقيق، وفي عقر دار القضاء. ومع تهديد القضاء، ها هو الجدار الثاني يرتفع في وجه اللبنانيين وأهالي الضحايا وجميع المتضرّرين من الانفجار الكبير، الذي ألحق الدمار بما يقارب ثلث العاصمة.
عندما تسقط المحاولات لتغيير السلطة في الشارع أو لمقاضاتها قضائيًّا، يصبح اللجوء إلى آليات النظام الديمقراطي البرلماني، الوسيلة الفضلى المتبقيّة لإحداث تغيّيرات وإصلاحات ولو طفيفة في الوضع القائم، الذي تلاحقت فيه الانهيارات على المستويات كافة: الماليّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة. حصلت الانتخابات النيابيّة وانطلقت الحياة البرلمانيّة من جديد بتوازن دقيق بين سلطة ومعارضتها، لكنّها سرعان ما تعطّلت بسبب العجز عن انتخاب رئيس للجمهوريّة، نتيجة الانسحاب المتكرّر لممثلي “حزب الله” وحلفائه من العمليّة الانتخابيّة، بعد الدورة الأولى، في كلّ جلسة انتخابية. عن طريق هذه الممارسة بنى “حزب الله” جدارًا ثالثًا في وجه الحياة السياسيّة، معطلاً في آن واحد، العمل الطبيعي للحكومة وللمجلس النيابي بفعل عدم انتخاب رئيس. وقد ترافق ذلك مع تزايد التضييق على حريّة الرأي والتعبير، لا سيّما تلك التي تطال بالانتقاد “حزب الله” وحلفاءه. وهكذا احتلّ الفراغ الحياة السياسيّة بأشكالها كافةً، وانكفأ الناس أكثر فأكثر عن الشؤون العامة، في ظلّ تفاقم العجز المدنيّ والنقابيّ عن الدفاع عن الأجراء وعن معيشة المواطنين، بعد أن هيمنت أحزاب السلطة على النقابات والروابط.
مع ذلك بقي اللبنانيون يسيّرون أعمالهم بما عُرِفَ عنهم من “مبادرات فرديّة”، تعوّدوا عليها حتّى قبل زمن الانهيار، بسبب ضعف تدخّل الدولة التاريخي في مجال إدارة الشأن العام. لكنّ فسحة “المبادرة الفرديّة” راحت تضيق بعد عمليّة “طوفان الأقصى” وحرب إسرائيل على غزّة، التي قرّر “حزب الله” الانخراط فيها، من خلال فتح جبهة #الجنوب في “حرب مشاغلة” لإسرائيل أو “مساندة” ل#حماس، كما سُمّيت. وسرعان ما بدأت هذه الحرب في الجنوب تتوسّع ما بات يهدّد باندلاع حرب شاملة بين إسرائيل و”حزب الله”، تشير جميع التوقّعات إلى أنّ لبنان سيدفع ثمنها غاليًّا. تسبّبت هذه الحرب حتّى الآن بعدد كبير من القتلى، وبنزوح كثيف من الجنوب فضلاً عن الخسائر في الممتلكات، ناهيك عن القلق على المصير عند اللبنانيين، والاختناق المتزايد في الأسواق الماليّة والاقتصاديّة. وقد فاقم من هذا القلق ربط “حزب الله” الحرب في الجنوب بالحرب في غزّة، أي عملياً، بالمصير السياسي المهدّد، لنتنياهو ولحماس، وطبعاً وقبل كلّ شيء بمصير المفاوضات الأميركية –الإيرانية. هكذا إذًا ارتفع الجدار الرابع في وجه اللبنانيين، مضيفًا إلى المخاطر السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، خطرًا وجوديًّا محدقًا.
عندما ترتفع جدارنٌ أربعة في وجهك بدون منافذ أو نوافذ، لا بدّ أن تدرك أنّك في سجن. فهل من إرادة للخروج من هذا السجن؟
لا خروج من السجن من دون تحييد سلاح “حزب الله” عن المعركة السياسيّة معه، فهذا السلاح وليس غيره، هو ما سمح لـ”حزب الله” ببناء هذه الجدران في وجه معظم اللبنانيين. ولا إمكانيّة عمليّاً لذلك إلّا من خلال مطالبة السجناء، أي معظم الشعب اللبناني، بحصر استخدام السلاح بالدولة، وتالياً، باستراتيجيّة دفاعيّة تضعها وتقودها هذه الدولة، ويكون “حزب الله” وسلاحه جزءًا منها.
إنّ المطالبة بحصريّة السلاح بيد الدولة، لن يحصل إلّا عن طريق معارضة واسعة وفاعلة “لحزب الله”.
وهذا لن يتمّ إلّا إذا تجاوزت بعض “المعارضات” مواقفها تجاه المعارضة البرلمانية لـ “حزب الله”، بحجج لم تعد تصلح في السجن الذي نحن فيه، من مثل “نحن لا مع 8 ولا مع 14 آذار”، أو “نحن ضدّ الاصطفافات” أو “نحن ضد كلّن يعني كلّن”. فهذه الحجج، لا تصمد أمام واقع الجدران الأربعة التي بناها “حزب الله” في وجهنا بالإسمنت المسلّح، وقد أصبحت هذه الحجج، غطاءً للخوف من المواجهة مع هذا الحزب.
وإذا كان ذلك متعذّرًا، ولم تتشكّل معارضة واسعة في وجه سياسات “حزب الله”، تصبح المطالبة بنظام فيدراليّ المخرج الوحيد من السجن الذي وضعنا فيه “حزب الله”. والمطالبة بالفيدراليّة ليست في واقعنا، انتقالاً من المركزيّة إلى اللامركزيّة، كما يتردّد على الألسن ببّغائيّاً، بل هو انتقال من حالة تقسيمية إلى اللامركزيّة. ذلك أنّ “حزب الله” قد أنجز ما يشبه التقسيم الفعليّ على الأرض، من خلال ممارسته للاستقلاليّة التامّة عن الدولة، على المستوى الماليّ والأمنيّ والمذهبيّ والعقائديّ، وكذلك على مستوى العلاقات الخارجيّة، بما فيها الحقّ بإعلان الحرب. وهو لم يكتفِ ببناء “دويلته” باستقلاليّة تامّة عن الدولة، بل هو يفرض هيمنة “دويلته” على الدولة على المستويات الماليّة والأمنيّة والعقائديّة، وعلى مستوى العلاقات الخارجيّة.
وإذا كانت الفيدراليّة لا تصلح، كما هو معروف، إلّا إذا حصل توافق بين مكوّناتها، على السياسات الماليّة والأمنيّة والخارجيّة، فهذا التوافق معدوم أيضًا في الإطار المركزيّ. ولعلّ الطرح اللامركزي الموسّع يدفع جميع الأطراف في اتّجاه التوافق عليها، بدل الاستسلام للأمر الواقع.
هذان الطريقان للخروج من سجن “حزب الله”، يمكن أن يمهد واحدهما للآخر، أو أن يرجّح أحدهما طرح الآخر، إذا ترافقا بشكل استراتيجيّ. لا أعتقد بأنّ هناك خيارات أخرى أمام اللبنانيين، للخروج من سجنهم الوطنيّ الخانق.