طرابلس: بين تلة “المون ميشال” وهضبة قبة النصر

0

بقيت تساؤلات بعض النخب ترن في أذني حول صوابية إختيار موقع المون ميشال المتاخم للبحصاص والواقع على مدخل الكورة الخضراء في رأس مسقا، كمكان لتشييد المدينة الجامعية، لجهة تداعيات إنتقال فروع الجامعة اللبنانية من القبة. ذلك أن المنطقة تحولت لإعتبارات متعددة من منطقة للطبقة الوسطى (وهو ما يفسر انتشار مدارس خاصة مهمة فيها سابقا، كالأميركان والراهبات والروم والآباء البيض) إلى منطقة شعبية بفعل موجات النزوح الريفي والحروب الأهلية المتكررة منذ 1958 حيث دفعت أثماناً مضاعفة، وفي السنوات الأخيرة كان لها نصيب وافر من جولات العنف العبثية التي اندلعت بعد أحداث 7 أيار وتعاظمت مع تحول الإنتفاضة السورية إلى ثورات مسلحة وحروب أهلية ومذهبية.

لم تكن هذه التساؤلات لتغيب عن ذهننا حين أطلقنا هذا المشروع الحلم منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي بموازة بناء المدينة الجامعية في الحدث، خصوصاً أننا كنا نواكب بناءها كأعضاء شماليين في الهيئة التنفيذية لرابطة أساتذة الجامعة اللبنانية. فقد جاء إختيار الموقع نتيجة التداول المكثف بين رئيس الحكومة آنذاك رفيق الحريري مع لجنة المتابعة الأولى ومجلس الإنماء والإعمار، وأعيد تثبيت الإختيار في لجنة المتابعة الثانية الواسعة التمثيل، نقابيا وأكاديمياً وثقافياً والتي تشكلت كنتيجة لانتفاضة علوم الشمال سنة 2000-2001، تلك الإنتفاضة الواسعة التي حولت المباني المتداعية في الكلية إلى مركز جذب للفعاليات والمؤسسات والهيئات الشمالية من مختلف الإتجاهات والأطياف والتي أدت لإعادة إطلاق مشروع البناء الجامعي الموحد بعد توقف خلال الحكومة الحصية، ما أثار حفيظة سلطة الوصايا السورية واجهزة مخابراتها آنذاك.

شكل المشروع رافعة للمجتمع المدني الشمالي، فأقيمت اللقاءات والندوات والمؤتمرات والتي انخرط فيها الجميع، وتوحد حول المشروع مجمل الأطياف والفعاليات السياسية وغير السياسية الطرابلسية والشمالية بشكل عام رغم انقساماتها الواسعة والتي قاربت حدود الإنشطار. ومع أن البعض حاول تثمير الإنجازات فئويا، إلآ أن لجنة المتابعة استطاعت تجاوز كل الصعوبات بما فيها، زلزال الإغتيالات و خسارة الداعم الرئيسي ودخول البلد عموماً وطرابلس خصوصاُ بمرحلة حرجة.

لقد هدف اختيار المون ميشال لإعادة ثقة كل الشماليين من كل الأطياف بالفروع الشمالية التي تمذهبت، على الأقل طلابيا، بنسبة كبيرة، بما فيها ثقة الطرابلسيين أيضاً، ومع أننا نقر ببعض التداعيات الاجتماعية والاقتصادية الحتمية على قبة النصر، إلا أننا نسجل الملاحظات التالية.

أولاً: لم تستطع الفروع المفككة إيجاد حيز إقتصادي واسع، إذ اقتصر التأثيرعلى إنتشار بعض مقاهي “البلاستيك” و بعض محلات التصوير والتجليد، فضلا عن بعض المكتبات الصغيرة لتوفير المقررات.

وقد تقلصت مؤخرا بعض هذه النشاطات نتيجة دخول بعض السياسيين على خط تصوير المقررات مجانا لكسب الشعبية.

ثانياً: لم يكن ممكنا تحويل الكليات المبعثرة في القبة إلى صرح أكاديمي موحد يستطيع تكوين مناخ مختلف يؤدي لتحولات اجتماعية واقتصادية مؤثرة، لإعتبارات كثيرة، بينها اللوجيستي والعقاري والديمغرافي.

ثالثا: لقد أدت تداعيات جولات العنف في السنوات الأخيرة، ومن ضمن أسباب أخرى طبعأ، لإعراض الكثيرين عنها، خصوصا من بعض الأقضية ذات الغالبية المسيحية، كما من بعض فئات الطبقة الوسطى الطرابلسية، ما جعلها تفقد ميزات كثيرة. وما شهدناه مؤخرا من تحرك شعبوي، بنكهة مذهبية، أمام مبنى إدارة الأعمال اعتراضا على تعيين مدير يصب في هذا السياق، بغض النظر عن طريقة التعيينات التي تبدأ الفئوية والزبائنية والمحاصصة فيها من “الإنتخابات” في مجالس الفروع وصولا إلى إدارة الجامعة.

رابعا: إن إنشاء مدينة جامعية في المون ميشال وسهولة الوصول إليها من كل الأقضية، بما فيها بلاد جبيل سيكون له تداعيات إقتصادية وإجتماعية وثقافية وتوحيدية على طرابلس وعموم الشمال، خصوصا إذا أنشأنا مركز الأبحاث والتكنلوجيا، ذلك أن طرابلس ستستفيد، من ضمن ميزات أخرى، من موقع الألياف البحرية، ما يساعد شركات التكنولوجيا الناعمة كما شركات الأدوية ومواد التجميل وبعض الصناعات الخفيفة، كما سيساعد على الطرح الجدي لقضية إستقلالية الفروع الشمالية والتي تكاد تختنق من مركزية شديدة وقاصرة.


لم نكد نحقق بعض الإنجازات في المون ميشال كنقل ملكية الموقع وتوسيعه بإستملاكات أخرى وإنجاز دراسات الكليات الثمان في ربيع 2004 حتى خرجت فكرة بوزار إلى النور. بدأت الفكرة على أساس ترميم جدار كلية العلوم المتداعي في القبة و إنجاز جداريات عليه، كتحية للكلية الرائدة أولاً وللمنطقة المتداعية ثانياً، خصوصاً أن العلوم الحالية تحتل الموقع الذي كان مركزاً لقيادة الجيش الفرنسي ثم مهنية متطورة، أدارها الآباء البيض واستقطبت خليطا متنوعا عكس التنوع الشمالي ومنطقة قبة النصر قبل أن تتوقف في الحرب الأهلية ومن ثم تحتل الموقع القوات السورية ببداية انتشارها في أعقاب حرب السنتين، قبل أن تبدأ كلية العلوم بقضمه ومن ثم إشغاله كاملا. تجدر الإشارة إلا ان أطراف المنطقة شكلت خطوط تماس في بداية الحرب الأهلية، كما تمدد جزء من هذه الخطوط مع نشوء وتصاعد مشكلة تبانة- بعل محسن الذائعة الصيت والتي عادت وانفجرت في أعقاب أحداث 7 أيار 2008 كما بات معروفا، مظللة المدينة العريقة والقلقة بغمامة سوداء.

استقطب جدار بوزار أهم الفنانين و النحاتين كوجيه نحله وعدنان خوجة وفضل زيادة والياس ديب ومحمد عزيزة وحسام حاطوم وسامي بصبوس وعلي العلي والألمانية كلوديا فالديه والسوري عبد المحسن خانجي والمصري جمال عبد الناصر، حيث عملوا سنوات على إنجاز جدار بوزار المتميز كما أقام عدنان خوجة في المكان نصب بوزار للتواصل الثقافي والإجتماعي.


أطلقت حركة بوزار موجة تحديثية وفنية كبيرة في المدينة، خصوصا بعد اغتيال الحريري وانتفاضة الطرابلسيين ضمن شعار لبنان أولا، وبادرت بحملة ترميم كلية العلوم والبنايات المقابلة، كما انعكست حركة الترميم على معهد طرابلس الفني ومجمع الآداب والحقوق، وقام أصحاب المقاهي بتحديث وتجميل مقاهيهم بما يليق بشارعهم الذي لبس مع بوزار حلة مميزة تكاد تكون سوريالية فشعر الأهالي ببعض الأمل، خصوصا ان بوزار تعاونت مع البلدية والجامعة وجمعيات ومؤسسات رسمية ومدنية كثيرة. وتطرح الآن تحويل مباني العلوم إلى مركز إنمائي وثقافي وإجتماعي يحتضن المنطقة التي ما زالت تضم تنوعا، وإن صغيرا، يلخص العائلة الشمالية إلى حد كبير، وهذا لا يتم بدون التعاون مع الفرنسيين مالكي المكان وربما الأمم المتحدة ومؤسسات طرابلسية ولبنانية رسمية وغير رسمية، كما أن الشارع يضم كليات ومؤسسات تربوبة ومباني عسكرية وأمنية وهو “شريان رئيسي مهمل” في المدينة التي كادت تصبح عدة مدن في السنوات القاسية الأخيرة، ما يعني أن الشارع يمكن أن يلعب دورا في لملمة أجزاء المدينة، الفقيرة منها خصوصا، كما في تحسين تواصلها مع بعض أقضيتها.

لم يقتصر إنعكاس حركة بوزار على القبة فقط بل إمتد إلى أحياء المدينة وبعض الشمال حتى “أصبح لكل شارع جداره و لكل قرية بوزارها”. كما أن بوزار تحولت إلى جمعية مدنية وتمددت في أماكن مختلفة وتعاونت مع مؤسسات وجمعيات وناشطي المجتمع المدني لوقف التدهور المريع للمدينة، وذلك في مواجهة العنف والمطالبة بالإستقرار الأمني وتفعيل العمل البلدي والإداري والخدماتي وإنجاز المشاريع الإنمائية والإقتصادية خصوصاً التي تنتج فرص عمل وتهيأ المدينة لدور لاحق في الإعمار في سوريا. والجمعية تحاول إستعادة شعار “بوزار تمحو خطوط التماس الطرابلسية” والذي شكل عنواناً لكتيبها الأول الذي أصدرته في إحتفال مهيب أقامته في الرابطة الثقافية تكريماً للفنانين الكبار الذين أهدوا مدينة طرابلس جداريات بوزار الرائعة، والتي أكسبتها لقب “مدينة الجداريات”رغم ما يلفها من بؤس وغضب وحرمان، قبل أن يجتاحها التوتر والفوضى وصولا للإستباحة. كما ينبغي الضعط لتسريع العمل في البناء الجامعي في المون ميشال واللذي تعثر وطال أمده بعد أن شكل بارقة أمل للمحبطين الطرابلسيين والشماليين عموما.

alalkhawaja8@gmail.com

طرابلس- لبنان

Comments are closed.

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading