قال عنه أحد أصدقائه : أفكاره في رأسه كالمسامير في فم اسكافي ماهر، ولا تحتاج الفكرة لأكثر من ضربة واحدة من شاكوش عقله ، حتى تنغرس في قلب الحقيقة. إنه يستحضر أفكاره الكثيرة مثلما يستحضر الإسكافي مساميره الكثيرة في فمه، ولا يتوقف عن غرز أفكاره إلا حين يتأكد من تثبيت الحقيقة كما يثبت المصارع خصمه بالكتفين.
… ولأن أفكاره شديدة القسوة وموجعة حين تنغرس، ولأن حقيقته مرة مثل كل حقيقة ، فضل أصدقاء له أن يحتفظوا بمحبتهم له ، وتجنبوا أفكاره وتكاليفها الباهظة. انفض بعضهم عن أفكاره “المرعبة” وحفظوا حبهم له في حياته وبعد مماته.
***
جملة واحدة تخرج من فم محدثه تكفيه ليفكك حقل المفاهيم المختفي وراءها. شعاره السجالي هو: قل لي ما مفاهيمك أقل لك من أنت. فهوية المفكر جهازه المفاهيمي، والويل لمن يقع جهازه بين يديه. كان يفككه كمن يفكك آلة أو جهازا إلكترونيا ليكتشف عطله الداخلي، فيستبدل الأجزاء المعطلة ثم يعيد تركيبه ويسلمه لمساجله آلة جديدة لا علاقة لها بالأولى، فيستغرب صاحبها استخدامها.
والويل لمن يطرح عليه سؤالا، يبتسم قائلا: سؤالك غلط ! وقصده أن كل سؤال يخفي الجواب في طياته، أي أن صياغة السؤال هي التي تحدد منحى الإجابة عليه. السؤال هو طريقة في طرح الإشكالية، ولا بد أن تكون الإجابة مغلوطة إذا كانت الإشكالية مغلوطة. إذن هو يبدأ من إعادة صوغ السؤال على طريقته ويمضي فيالتفكيك والتركيب وتقليب الموضوع على جوانبه كلها حتى يتعب الموضوع والسائل على السواء من زحمة المحاججة.
***
روى رفعت السعيد أن محاورته معه طالت ست ساعات في أحد فنادق بيروت ولم ينتهيا إلى اتفاق على تحليل الظروف السياسية والمواقف حولها، وكلاهما ينتمي إلى الماركسية سلاحا نظريا. وكان تقدير حسن حمدان أن الاختلاف ناجم عن تنوع في قراءة ماركس. فهو يدعي أنه قرأ ماركس من مصادره باللغة الفرنسية في حين قرأه الآخرون بعين سوفيتية.
والصحيح أن حسن حمدان الفيلسوف الذي قرأ ماركس حقا من مصادره الأصلية ، كان على تناقض مع حسن حمدان المناضل الذي قرأ السياسة الحزبية بأحرفها السوفيتية، من خلال تجربة الحزب الشيوعي اللبناني، وله على هذا الصعيد حكاية طريفة مع قادة الحزب. ففي لقاء ضمه معهم إلى مأدبة ، اخترق حاجز المهابة وقال لهم : أنتم قادة مبدعون في نضالكم السياسي ، لكنكم تجهلون الأساس النظري الذي تستندون إليه، ومهمتي هي بالتحديد صياغة النظرية الفلسفية للخط السياسي الذي تعتمدونه في برنامج الحزب.
***
حين عاد من تحصيله العلمي أحيط انتسابه إلى الحزب الشيوعي اللبناني بحذر الحرس الإيديولوجي ، بحجة تتلمذه على أستاذ فرنسي هو ألتوسير الذي حجر الحزب الشيوعي الفرنسي على أفكاره، واستنكر اجتهاده الفكري القائل بإمكانية الاستفادة من البنيوية ، أي بإمكانية أن يكون الماركسي بنيويا دون أن يسيء إلى ماركسيته، في حين كانت المدرسة الرسمية الحزبية ترى في الماركسية خاتمة العلوم، وترى في أي اكتشاف علمي أو فلسفي جديد، بما في ذلك البنيوية الصاعدة في حينه، عدوانا صارخا على صرح علم الطبقة العاملة.
غير أن الحرس اللبناني كان أكثر تسامحا من شقيقه الفرنسي ، وصار حسن حمدان البنيوي الماركسي عنصرا فاعلا في عملية الصراع الإيديولوجي التي كان يخوضها الحزب، ثم صار لاحقا عضوا في اللجنة المركزية، في حين انتهى ألتوسير نهاية بائسة ومأسوية بسبب جفاء الحزب، فأصيب بالجنون وقتل زوجته، وحين قررت الشرطة اعتقاله، لم يجد من يحتضنه غير الحكومة الفرنسية المنعوتة يمينية، والتي قال ناطق باسمها: عيب على فرنسا أن تعتقل عقلها. هذه نقطة مضيئة في حرية الرأي تسجل للحزب الشيوعي اللبناني في فضاء الأحزاب المظلم.
***
داخل الفيلسوف الجريء مهدي عامل كان يقيم شاعر خجول. وحين قرر نشر ديوانه الأول بعنوان : تقاسيم على الزمان، طلب من الأصدقاء المساعدة على توزيعه بعد أن نسبه إلى شاعر “جزائري” اسمه هلال بن زيتون. وحين اكتشف الأديب محمد عيتاني لعبة صاحبه الفيلسوف أجابه بطلب مماثل: المساعدة على توزيع رواية لصديق عربي اسمه بدر بن ليمون.
عند أول مناسبة قرر فيها إعلان نفسه شاعرا، راح يتلو على مسامع أصدقاء له إحدى قصائده، وكان طبيعيا أن يدور النقاش حولها من الحاضرين المهتمين بقضايا الشعر والأدب، وحين جاء دور الشاعر عباس بيضون في الكلام قال ملاطفا: هذه قصيدة كان يمكن تفاديها. لكن هلال بن زيتون أهمل النصيحة وخلع القناع وأصدر ديوانه الثاني، فضاء النون، باسم حسن حمدان، أي من دون اسم مستعار.
***
من يقرأ كتبه يتخيله شخصا شديد القسوة ، وذلك بسبب صرامة المنطق في طريقة تفكيره. والصرامة هذه في تعامله مع الأفكار جعلته يدخل علينا مرة ونحن متحلقون حول جهاز الراديو نستمع إلى أخبار حرب تشرين في لحظاتها الأولى، وهو لم يكن بعد على علم باندلاعها ولم يكن قد استمع إلى أخبارها في جهاز الراديو. كانت تظهر على وجوه المجتمعين ملامح الفرح بانتصار قريب، لا تتوقف ملامحه عند حدود سيناء بل تتعداه إلى تحرير فلسطين ونهاية المشروع الصهيوني! وذلك لأن البلاغات كانت تزودنا بأعداد الطائرات الاسرائيلية المتساقطة في سماء مصر، وهي بالمئات. غير أن حسن حمدان زم شفتيه، غير مصدق ما يجري . وحين سألناه ، تأفف لأن المقام لا يتسع لتحليله الطويل ، ثم قال : يستحيل على أنظمة كأنظمتنا أن تنتصر، وما علينا إلا الانتظار لنرى ما سيؤول إليه خبر سقوط الطائرات.
تكرر ذلك يوم انفجرت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 ، واغتبطنا، نحن مراهقي اليسار، بقرب التغيير والثورة، فأطفأ غبطتنا قائلا: إنها طويلة طويلة أكثر مما تتصورون.
انتظرنا، وما كان علينا غير أن نقرأ كتبه عن نمط الإنتاج الكولونيالي وعن التناقض وعن تمرحل التاريخ وسواها، لكي نعرف الأساس النظري الصارم الذي استند إليه ليعكر صفو أوهامنا. أو كان علينا أن ننتظر نكبة فلسطين الجديدة لنتأكد من أن صرامة الفكر من ضرورات التقدم ، ولا يمكن أن تنوب عنها خطابات حماسية كالتي تصم آذاننا هذه الأيام.
***
صرامة التفكير والمنطق في كتاباته أساءت لجانب من شخصيته لا يعرفه إلا معاشروه عن قرب. ففي غمرة نهوض الأصولية وانتشار تقاليدها وطقوسها، ومنها تعميم الحجاب على النساء، باعتباره أهم مظاهر الإيمان، عزمت ابنته الصبية ياسمين على الدخول في هذه التجربة الجديدة، فكان هو الذي يهيئ لها بنفسه عدة الطقوس هذه ، فيستيقظ لنحضر لها طعام السحور في رمضان، ويعد لها مائدة الإفطار نيابة عن زوجته الفرنسية الرائعة التي لم تكن تحسن ممارسة طقوسنا، لكنها ، لفرط حبها له ولعائلتها وللبنانيتها، لم تقبل أن ترحل إلى فرنسا بعد اغتياله، والتي كان يطيب له أن يناديها “لين” تحببا ، وهو تصغير وترخيم لاسمها الأصلي إيفلين.
جاءها يوما حاملا معه نشرة أصولية وترجم لها مقطعا قرأ فيه قرار اغتياله، عرضت عليه الرحيل ليحمي حياته، لكنه عزم على البقاء تجسيدا لصمود الفكر الثوري، وحماية لما تبقى من أحلام الشيوعيين في تحرير الوطن وإعادة بنائه حرا عربيا ديمقراطيا وعلمانيا. لم يمض شهر حتى نفذ الأصوليون قرارهم. انتابنا الحزن ، وتذكرنا كيف أحجمت فرنسا عن اعتقال عقلها، وكيف يقدم الجهل في بلادنا على قتل المفكرين، من غير أن يرف لجاهل جفن ، وكيف يعاتب القاتل من ينعته بالظلامية ، وهو نعت لا يكفي لوصف الوحش الكامن في العقل الميليشيوي.
***
حسن حمدان أصولي ماركسي بامتياز. وهو مفكر ثوري أصيل بامتياز. ولئن كانت الأصولية الماركسية تشبه كل أصولية بما هي عودة إلى أمهات الكتب لفك رموز الحاضر، غير أن اجتهاد مهدي عامل في الحقل السياسي أنتج نظرية نمط الإنتاج الكولونيالي، على غرار اجتهاد سمير أمين حول التطور اللامتكافئ في حقل الاقتصاد، واجتهاد سواهما على صعد أخرى، وهي اجتهادات تتوخى دفع عجلات التاريخ إلى الأمام لكي تمضي البشرية نحو مستقبلها التقدمي. أما الأصوليات الأخرى، بما في ذلك أصوليات ماركسية ، فهي تمضي في شد التاريخ إلى الوراء.
***
نحن الذي أحببناه لأسباب تفيض عن السياسة والنضال الحزبي والانتماء الإيديولوجي، خيم علينا الحزن غداة اغتياله. كان اغتياله سببا كافيا للحزن الرابض على صدورنا في زمن الرويبضة (الرويبضة ،حسب بعض الصحابة، هو زمن يسوس فيه العامة سفهاء العامة)، ورحنا نشكو آلامنا، ونلملم أحلامنا ، ونجمع في العتمة بعضا من حطامنا، ومن بين الركام كنا نرفع شارة النصر التي رسمها مهدي عامل.
نظمنا كل الطقوس لتكريمه شهيد الفكر والحرية. وتهيأ لنا أننا كرمناه، ولم نبخل عليه بكل صنوف البلاغة . وقد آن لنا أن نعتذر منه مرتين: مرة لأننا صفحنا عن القتلة وصافحناهم وسميناهم حلفاء النضال في تحرير الوطن من الاحتلال. كان علينا أن نفعل ذلك، ولكن بعد أن يرف جفنهم، أي بعد أن يعود الصواب إلى رأس تجوف يوم قتله إلا من الحقد على حلفاء النضال من الشيوعيين. ومرة أخرى لأن بعض الذين يكرمونه يمعنون في قتله وفي اغتيال نضال حزبه وكل اليسار، بأساليب الأصولية التي قتلت حسن حمدان، أي بتكفير الآخر وحظر الاختلاف.
تكريمه يعني تجديد الفكر الذي انتمينا معا إليه، يعني فتح باب الاجتهاد من أجل حزب جديد ويسار جديد ووطن جديد
moukaled47@hotmail.com
• كاتب وجامعي لبناني