من هذه الكلمات التي كتبها لي جبور في إهدائه خرجت فكرة هذا المقال، وأنا لست بناقد او حتى بكاتب، بل ناشط تعلم التفكيرَ بصوت مقروء فامتد نشاطه إلى الكتابة. ولم اكن أعرف عن المطابع كثيرا قبل ان اضطر منذ ربع قرن لزيارة الكثير منها في بيروت وطرابلس عندما بدأت بطباعة بعض الكتب التي نشرتها maison des connaissances générales التي تملّكها بعض أشقائي “وأجبروني” على إدارتها مع المكتبة التي تحمل نفس الإسم مُعَرَّباُ. حتى أنني لطالما ترددت على مطبعة رفيقنا رئيس الجامعة اللبنانية الأسبق ابراهيم قبيسي، وربما هذا ساعدني في التجوال داخل مطبعة كرم التي استنسخها الدويهي في “طبع في بيروت” والتي يروي من خلال مسيرتها، على طريقة الحكواتي الطرابلسي، قصةَ المدينة التي فبرك أحداثها مستعيداً لهجة أغاتا كريستي تارة وحبكة نجيب محفوظ طوراً وأسلوب الدويهي دائما. وجبورنا أدمن السماع لمَرِوّيات بعض ظرفاء وحكماء الطرابلسيين، فضلا عن حكايات والدته.
ثم أنّ جبور الذي قضى جانبا من حياته الشبابية دارسا في بيروت وناشطا يساريا طائشا في شوارعها، يعرف المثل القائل “الكتاب يُؤلف في القاهرة ويُطبع في بيروت ويُقرأ في بغداد”، علما أنّه ورغم كل ما مرت به العواصم الثلاث من أحداث وأهوال وتغييرات (وهو قد اجاد بوصف الأحداث والعواصف والزلازل التي ضربت العاصمة صعودا وهبوطا في ثنايا روايته) إلا أنّ المثل ما زال يمتلك بعضا من حقيقة، رغم غلبة الكتب الدينية ومذاهبها وكتب الطبخ وكتب التواقيع والأشعار المكتوبة على عجل والتي لا تشبه ما كان “يتنبأ” به بطل الرواية فريد ابو شعر حين خطّ مخطوطته.
وفريد جبور يشبه غوباتشاف ليرمنتوف في”بطل من هذا الزمان“، وإن بالوجه الآخر للمرآة، وجه الوحي والأحلام. ورغم الخيبات التي رافقت مسيرته لنشر إنتاجه الوحيد ورغم الثمن الذي دفعه بسبب مخطوطته وخياله وهيامه وغرابته، الا أنه خرج سالما نسبيا ولو معتقدا بانه نبي في غير زمانه.
ثم أنّ جبور ترعرع في الجبل الشمالي الذي استورد رهبانُه الى “دير مار قزحيا” أول مطبعة في الشرق، كما درس في مدينة طرابلس التي أدمن مقاهيها وشوارعها ومكتباتها ودور السينما فيها ، وهي التي احتضنت شارعا للمطابع ونشرت الصحف والكتب والمجلات، وأرسلت خطاطيها ووراقيهاً وصحفييها ورسامي الكاريكاتير فيها وحتى بعض صحافتها ومطابعها إلى بيروت التي بدأت في القرنين التاسع عشر والعشرين تكبر وتتوسع وتتحضر لدور كبير يأخذ من حساب الجميع ومن الحاضرة الشمالية تحديدا، خصوصا في أعقاب فتنة الجبل وتداعياتها واستعدادات الأمم والامبراطوريات الأوروبية للتدخل في هذا الشرق الساحر والقلق، تحت ستار حمايات الطوائف والمذاهب تارة والمصالح المباشرة طورا، وقد تعاظم هذا التدخل منذ حملة ابراهيم باشا.
وكان طبيعيا ان تختار بيروت المتفرنجة عاصمة للبنان الكبير، تاركة الفيحاء حبيسة قلقها وهواجسها المستمرة فصولا حتى الآن، رغم تبوئها مركز الصدارة في مجموعة “شعار لبنان أولا” والذي رفعه ورثة الشهيد رفيق الحريري مع ملايين اللبنانيين من شتى الملل والفئات والمناطق.
فطرابلس التي حملت لقب دار العلم سابقا، أرسلت ابناءها (بما فيهم اسقف العربية جورج خضر وشيخها صبحي الصالح) الى بيروت الصاعدة بجامعاتها الخاصة ولاحقا بالجامعة اللبنانية التي بدأت تمتص الآلاف من أبناء الطبقة الوسطى الحديثة النشأة، وحتى أنها أخذت حصة من الجامعات الخاصة التي كانت تحتكر تلبية حاجات النهضة البيروتية كما حاجات لبنان المتصاعدة مع التحديث الشهابي، فضلا عن إعداد الكوادر للدول العربية والخليج بشكل خاص.
وكما في “شريد المنازل” حيث دار جبور “بنظام” دورة لبنانية كاملة من ميناء طرابلس مسقط رأسه الى إهدن في الجرد الماروني إلى بيروت أم الدنيا ومطبعتها، وأعاده الى الشمال جثة حائرة حيرة انتمائه العائلي والطائفي والكياني، فإن شخصياته الجديدة هم من الخليط الذي يدخل في نسيجه خيوط من المذاهب والطوائف والمناطق والكيانات والأنماط. وكانه يقول هنا في بيروت، سويسرا الشرق وباريس العرب، يتكثف هذا الشرق بمنوعاته ومؤامراته وبأفراحه واتراحه، وبيروت تشكل ممرا للحداثة الغربية المتسللة الينا تارة والزاحفة بكل سطوتها طورا على أنقاض الامبراطورية العثمانية المتهالكة رغم حشرجة السلطان عبد الحميد وانتفاضة كمال اتاتورك، والتي يحاول اردوغان لملمة بقاياها بانتفاضة مقلوبة وبماكيافيلية ممسوخة وبإيديولوجيا محكومة بالفشل.
لم ترث بيروت مجد طرابلس فقط، بل ورثت بعضا من المجد الشامي وأصبحت عاصمة العرب، أدبا وثقافة وعلما وصحة وتجارة وخدمات ومعارضة وتسكعا وأحزابا ومقاومة، كما أصبحت عاصمة الجواسيس على أنواعها، حتى انه في بار السان جورج كانت ترسم بعض الخطط للشرق الأوسط عامة، وفي بيروت تعملق ديفيد نيفن برائعة “أين يوجد الجواسيس”.
ولعل الجنرال غورو كان يقول لدمشق وداعا ريادتك للشرق العربي وهو يدوس مزهوا ومنتقما على قبر صلاح الدين قائلا: Saladin voici on est là.
ولاحقا انتقلت بعض الإنتلجنسيا السورية الى بيروت الجاذبة والأكثر قدرة بين الحواضر العربية على علك وهضم الأفكار والعادات والأنماط الغربية التي افرزتها الثورات الصناعية والاجتماعية والفلسفية، وإنتاج حداثة، وإن هشة وملبننة كما تشي الرواية.
ففي بيروت مر لامارتين وشاتوبربان وكورنيليوس فان ديك واستراح ديغول، وفيها أنشد مرسيل خليفة وابنة حليم الرومي روائع محمود درويش وأخرج كمال جنبلاط صادق جلال العظم من المعتقل عن “نقد الفكر الديني”(وقد غادرنا المفكر الصادق محتضرا بالتزامن مع احتضار الحاضرة الحلبية والتي معها احتضر ما تبقى من قيم عالمية ودجل اممي).
وبيروت استهوت الأبوات الفلسطينين وعتاة اليسار الدولي، ومنها خرجت جورجينا رزق ملكة الى الكون واليها عادت كنة لفلسطين وطرابلس منتقلة من أرملة الثائر الأنيق إلى زوجة مطرب بهية. ومنها خرجت اللؤلؤة فيروز واليها حج عبد الوهاب وأم كلثوم وثوار اليمن (وحوثيوها مؤخرا) و المعارضون العرب وبعض صناعيي حلب الهاربين من العبث البعثي. وفي مطابعها طُبعت الصحف والكتب والبيانات والمجلدات والبلاغات وحتى العملات التي أنقذت آل كرم من الإفلاس، كما تنقذ الحشيشة مزارعي البقاع ومافياتها.
وآل كرم بما فيهم سيفو زوجة عبد الله هم من الخلطة البيروتية الهجينة المتكونة من خيوط عربية وأجنبية كثيرة، ما يعطي للمدينة نكهة عالمية جذابة ويهيئها لحروب مدمرة.
وبيروت هي الحاضرة التي احتضنت الكاتب في سنواته تكونه الأكاديمي في كلية التربية وكافتيريا “أسعد”، ملجأ الشعراء والثوار والمصروفين من المعلمين النقابيين الذين تحدوا الرئيس فرنجية جار الكاتب وبطله الفعلي في روايته مطر حزيران.
ثمً ألا نشتم من ثنايا الرواية الجبورية، وإن استعارةً ، تباشيرَ الإنهيار، من زمان كلية التربية التي كانت تصدح فيها فيروز الى جانب عبد الحليم وأحمد قعبور والشيخ إمام، إلى “زمن اللطم في كليات الحدث” وإسكات سفيرتنا الى النجوم، ثم التطاول لإسكات إلمعترضين العلمانيين على محرقة حلب في الجامعة الأميركية، وللإنصاف فإن معظم الجامعات تتحول وإن بتفاوت لقلاع مذهبية وفئوية.
لقد أبدع الكاتب برسم حياتنا ومعاناتنا من خلال الوصف الجميل لأحياء وفئات وعائلات ومهن وهوايات وتناقضات الشخصية البيروتية. وبالمقارنة مع ما فعله زياد الرحباني في “بالنسبة لبكرا شو”، حين جعل الشاعر والتاجر واحدا، فإن صدق أبو شعر قلب مخطوطته وبالاً عليه، وان ساعدته، وللمفارقة، باقتناص أجمل لحظات حياته من جسد سيفو الجميلة والتي جدت في غرابته واستعصاء مخطوطته بعضا من غرابتها.
كما أنّ جبور يقوم بصدم ادعاءاتنا حين يلامس قضية التطرف و”يرمي” الراقص المثلي من البلكون كما رمى داعش مثليا من السطوح، وهي من صور هوليودية لطالما اقتبسها داعش، وربما اقتبسها جبور عن حادثة الراقص اللبناني الشهير كيغام أو عن غيرها من الحوادث التي تحصل مع المستخدمات أو المستعبدات الأجنبيات.
ونشير اخيرا الى أنّ جبور ورغم إطاره الإنهياري وحريق المطبعة المفجع والملتبس وسجن أبو شعر يبقي النافذة مفتوحة لدخول الأمل وإن مع العواصف الشديدة.
فقد اخرج آل كرم من ورطاتهم، وإن على الطريقة اللبنانية، وهم من طبعوا الدستور والبلاغات المرقمة، كما أنقذ عبد الله من الموت، وكأنه يقول للقتلة “الممانعين” أنّ لبنان المتنوع والمتعدد النكهات باقٍ رغم كل التباساته وإخفاقاته وهشاشة تركيباته! ثم أعاد طعم الحياة الى “ابو شعر” وإن بمرارة، علما أن جبور الروائي والمراكم لا يشبه “نبيّه التائه”، كما لا يشبه شاعر الأحزمة والجزادين في رائعة زياد، وهو يعيد صياغة يعيد أحلام التغيير بلغة عصرية وسهلة ومتمتعة بالنفس الطويل.
ورغم ما مر على بيروت من آلام وتراجع في الدور ورغم محاولات التدمير النفسي والإجتماعي والديمغرافي والعمراني والتراثي والتاريخي والإنساني الذي تتعرض له الحواضر العربية التي زخّمت دور بيروت، ورغم “ادارة التوحش” من قبل أوركسترا عالمية، يشكل داعش عازفا صغيرا فيها، وهو ما مر عليه قلم شريد المطابع، فإن الأمل بإعادة النهوض يبقى قائما والربيع سيعود مزهرا مهما طال الزمن.
فمع تغيير الازمنة ينتشر الرعاع والوحوش الضارية في الوقت الضائع، وما أكثرهم في كل العواصم الكبيرة والصغيرة.
talalkhawaja8@gmail.com
طربلس في 22-12-16