بدأت المطالبة بمحاكمة المسؤولين عن جريمة قتل العسكريين اللبنانيين بزخم كبير يتناسب والحدث الجلل، وبدعسة ناقصة بعد ابرام صفقة تهريب المجرم الأصيل، ومن ثم السعي لرمي المسؤولية على مجرم بديل حتى يقال ان الدولة الفاشلة قامت بواجباتها بعد وقوع الواقعة وفوات الأوان.
البحث جارٍ عن شخصية جسمها لبّيس لمثل هذه الجريمة. ويبدو ان المروحة واسعة. فمَن تابع طرابين الحبق، الذين يدورون في دارة الممانعة، وهم يتنقلون بين محطات التلفزة في استغلال مفضوح لمأساة العسكريين، يلمس لمس اليد انهم يلعبون “طاء… طاء… طاقية”، مستهدفين لغايات مكشوفة مَن يجب ان تُلصَق به تهمة التقصير والتواطؤ في هذا الملف الدامي.
اللعبة لمَن فقد طفولته او استبدل طفولة أولاده بالأجهزة الالكترونية، تتطلب حلقة مقفلة من الأطفال الجالسين، وحولهم حامل منديل يدور ويغني “طاء… طاء… طاقية”، ليجيب الأطفال: “رن… رن يا جرس”. وما إن يختار ضحيته ويرمي خلف ظهرها منديله، على المستهدف ان يسارع الى ملاحقته، والامساك به قبل جلوسه، وإلا ابتلي بالمنديل وخسر مكانه في اللعبة.
يبدو ان اللعبة لا تزال على حالها، مع ان الشيب غزا رؤوسنا، الا ان المناديل أصبحت ملطخةً بدماء الأرواح التي يجب ان تزهق لينجلي المشروع ويصبح واقعاً وأمراً مبرماً.
مع التمرس والخبرة منذ تحميل البريء المفقود أحمد أبو عدس منديل جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كثرت المناديل وسالت الدماء غزيرة وتطورت المشاريع وتعدلت، وتوفرت الخيارات بعدما فلت ملقّ القانون والامن، فاستطاب البعض التشبه بأصحاب فائض القوة بعدما وجدوا مَن يوسوس لهم بالخروج عن الدولة واستبدالها بالأمن الذاتي الطائفي، لتزدهر ظواهر من قماشة أحمد الأسير وأمثاله ممّن حملوا مناديل الدم ثأراً لمظلومية طائفتهم على يد الدويلة، والخير لقدّام.
العسكريون لن يكونوا آخر مسيرة الشهداء، ما دام الخط البياني للقتلة على حاله من الوقاحة والاستهتار بأيّ مساءلة او عقاب. المطلوب، اليوم، امتصاص غضب أهالي العسكريين وغالبية اللبنانين معهم، وتوظيف المأساة في السيناريو المتجدد وتصفية الحسابات وشحن النفوس الممتلئة أصلاً بالضغينة على الآخر في الوطن وفقاً لطائفته الكريمة.
المطلوب ايضاً وأيضاً ان يتوفر أكثر من حامل للمنديل الملطخ بالدم تبعاً للفئة، سواء أكانت الاتهامات في السياسة أو في الأمن أو في الجغرافيا والديموغرافيا. لذا توجَّه السهام تارةً الى رئيس الحكومة سعد الحريري، كون المطلوب تلطيخ صورته وابتزازه واضعافه، بمناسبة او بغير مناسبة، الى ان يحين موعد الحصاد.
ولا يسلم قائد الجيش السابق جان قهوجي من السهام، ولا سيما لمَن يعتبر ان استمراره في منصبه عطّل وصول صهر عزيز الى حيث يصبو.
ولا بأس باستهداف الرئيس السابق ميشال سليمان الذي سعى الى ندّية مع بشار الأسد حين قال انه ينتظر اتصاله لتوضيح اعترافات ميشال سماحة في شأن مشروع تفجير لبنان بالدم والفتن، عن تورط مباشر للاسد في المسألة.
ووصل المنديل الى الرئيس السابق تمام سلام، الذي أرغم على الرد ليطالب بكشف محاضر جلسات مجلس الوزراء آنذاك، وكأنه يقول لمَن يتهمه: اللي اختشوا ماتوا.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر في زمن النسيان المقدس، فقد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي ذكريات قريبة تصبّ في صلب الموضوع، ولا بأس بنبش الذاكرة بالصوت والصورة مع حديث لرئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون عندما قال في الخامس من آب 2014، أي بعد أيام على خطف العسكريين: أحذّر وانبّه من أي تفاوض مع الإرهاب. من لا يحكي مع سوريا لا يفاوض داعش في لبنان. الموقع الذي وقعت فيه المشكلة يدعو للتفاهم مع سوريا حاليا من أجل أمن البلدين وكل الذين يرفضون كانوا في أحضان سوريا. لا أحد يربّح جميلة.
ولا ننسى في السياق نفسه حديث النائب في “حزب الله” محمد رعد الذي قال بدوره: لن نخضع لمنطق المقايضة والمبادلة ونُسقط كل ما لدينا من هيبة الدولة والمؤسسة العسكرية ونلغي طابعنا اللبناني.
حينها لم يكن قد رنّ الجرس. تالياً، لم يكن محور الممانعة ليفوِّت على نفسه تجنيد رجاله ليطالبوا بالملفّ الأهم وهو التطبيع مع سوريا وليس انقاذ الجنود المخطوفين، لابقائهم ورقة لمقايضة من سيخطف او تضيع رفاته كما تبين لاحقاً.
حينها كان يجب الاكتفاء بتحرير العكسريين الذين خطفتهم جبهة “النصرة” التي ربما تملك ادارتها الذاتية رغم تنسيقها مع محور الممانعة لقتل الثورة السورية بعكس “تنظيم الدولة الإسلامية” المرتبط كلياً بالنظام الاسدي على ما يبدو.
اليوم، بعدما أصبح التفاوض مع “داعش” مباركاً ومباحاً، ولصرف النظر عنه، عادت اللعبة الى “طاء… طاء… طاقية”. وقد لا يكون مصير “أبو طاقية” الا في هذا السياق. تالياً لم يعد مطلوباً غض النظر عنه، ربما انتهى دوره.
فالرجل ترافق ظهوره مع انخراط الحزب الإلهي في معركة القضاء على الثورة السورية بعد تطهير المناطق السورية المتاخمة لعرسال والقاع ورأس بعلبك من سكانها وتهجيرهم الى عرسال لشيطنتها ورجم اهاليها بالإرهاب.
وبقيت شخصية “أبو طاقية” لغزاً يتراوح بين روبن هود وجاك السفاح. يتعامل معه الحزب الإلهي والأجهزة الأمنية اللبنانية عندما تحتاج مفاوضات اطلاق أسرى او معرفة مصير مفقودين، ما أشعره هو أيضاً بفائض القوة والاستعصاء على الحساب والعقاب. الغريب انه لم يقع في قبضة الأجهزة الأمنية، مع ان للرجل منزلاً محددة اقامته فيه، ومعروف وجوده في مسجد، لتكتمل صورة الاعتماد على الامن الذاتي الطائفي. كذلك اللقاءات التي جمعته بمَن يطالب اليوم برأسه كانت مقبولة حتى عشية طي ملف الجرود.
فهو الى فترة قريبة بقي “رجل المرحلة”. وفي 28 تموز الماضي نشرت صحيفة “الأخبار” أن التفاوض بين “حزب الله” و”جبهة النصرة” في جرود عرسال يتم عبر وسيط لبناني هو الشيخ مصطفى الحجيري، الملقّب بـ”أبو طاقية”، لا عبر قطر
واضافت الصحيفة ان هذا الوسيط سبق أن أنجز أكثر من مهمة تفاوضية بين الأمن العام والإرهابيين.
وأكدت المعلومات دور الرجل الذي شارك مشاركة فعالة مع من يلاحقونه الآن. وعلم اللبنانيون بعد ذلك ان الصفقة مع “النصرة” وبوساطته أدت الى استعادة “الحزب” كل من حسن نزيه طه، ومحمد مهدي شعيب، وموسى كوراني، اضافة الى محمد جواد ياسين وشملت الصفقة ايضاً استعادة جثامين عدد من المقاتلين المفقودين.
أما ماذا استعاد الحزب من صفقته مع “داعش” فالامر لا يزال غامضاً، ربما تسليم دير الزور كما بدأت التباشير، ولا سيما بعد شبه تأكيد لمعلومات مفادها ان مصير العسكريين كان معلوما ومكان دفنهم ايضاً في وادي الدب.
ولا نعرف أي دور لـ”أبو طاقية” مع هذا التنظيم الإرهابي. لكننا عرفنا ان النظام الأسدي استعاد 113 مقاتلاً “داعشياً” ليلتحقوا معززين مكرمين بجيشه بعد أدائهم قسطهم للعلى ونجاحهم في القضاء على الثورة السورية.
وفي إطار التنسيق والتعاون ليس مستغرباً ان يتكاتف هؤلاء مع مقاتلي الحزب الإلهي في مهام آتية. وكله في سبيل محور الممانعة مباح.
لكن صرف النظر عن هذا “المباح”، ومع فورة الدم وتشييع العسكريين الشهداء، ومع انتهاء الحاجة الى التنسيق مع “أبو طاقية”، ومع الحديث عن تصميم الجيش على توقيفه والسبب “أمر تورّطه بملفات إرهابية عدة”، بحسب مصادر أمنية، ومع “الاعترافات التي أدلى بها عبادة الحجيري، نجل أبو طاقية بعد توقيفه على حاجز للجيش في عرسال الأسبوع الفائت”، بدأ العمل على إلصاق منديل الدم به وبمن يستطاع اليه سبيلاً، ولا سيما بعد تسهيل هروب الايدي الملطخة بالدم من دون حسيب او رقيب او مساءلة على هامش النشاط الحالي لحلقة المناديل.
وحتى نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في كيفية تحميل المسؤولية ومدى الاستنسابية المرتقبة في تحديد هوية الذين قصروا او تورطوا عبر الإهمال والتقاعس في قضية الشهداء العسكريين، فليدفع متأخراً “أبو طاقية” ومعه “أبو عجينة” وغيرهم من الأبوات، الذين تُركوا ليمعنوا في خروجهم عن القانون، ضريبة مناديل الدم التي من شأنها ان تعمي بغبارها وضجيجها العيون عن أصل الجريمة، ولنواصل كلنا التصفيق وكعادتنا للرابح في لعبة “طاء… طاء… طاقية… رن…. رن يا جرس”.
sanaa.aljack@gmail.com
المصدر: “النهار”