لا جرم أن وثيقة “جميعا من أجل الخلاص” ترجمة مباشرة لثوابت الجماعة كما حددها الشيخ ياسين في كتابه “المنهاج النبوي” وما تلاه من مؤلفات. ورفعا لكل لبس أو التباس حمل كثيرا من المهتمين بالجماعة على الاعتقاد أو حتى الجزم بأن الوثيقة صادرة فعلا عن الدائرة السياسية للجماعة وليس عن المرشد؛ الأمر الذي جعلهم على “يقين” من أن الجماعة تعرف ديناميكية داخلية أهلتها لتصبح هيئة ذات مؤسسات تمارس صلاحياتها بإرادة الأعضاء واستقلاليتهم، رفعا لهذا الالتباس، يكفي التذكير بإقرار أحد قياديي الدائرة السياسية ـ عمر أحرشان ـ بالتالي (إن وثيقة “جميعا من أجل الخلاص”.. كل أفكارها وخلاصات تشخيصها ومداخل الحلول التي تقترحها تنطلق من مرجعية فكرية واضحة، وبناء نظري متماسك وآلة تحليلية نسقية وجهاز مفاهيمي متكامل يتمثل في “المنهاج النبوي” الذي يحمل لواءه الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، والذي بسطه في عشرات المؤلفات على امتداد أكثر من ثلاثة عقود من الزمن. لذلك فالوثيقة بعيدة كل البعد عن الالتقاطية، ولكنها “منتوج” منهاجي منسجم مع مبادئ ومواقف وثوابت هذا المنهاج، والأكيد أن فهم هذه الوثيقة لن يتم بالشكل المطلوب ما لم يفهم هذا المنهاج في كلياته وتفاصيله، وهذا أمر لن يتحصل لأي باحث ما لم يطلع عليه من أصوله بدون وسائط مشوشة أو مشوهة تبتر الكلام عن سياقه أو تلوي عنقه ليخدم أهواءها ). وهذا ما ترومه مساهمتي المتواضعة التي تقرأ الوثيقة على ضوء كليات الجماعة ومبادئها وثوابتها التي صاغها المرشد وأسس لها. فهل حقا تحمل الوثيقة “خلاصا” للوطن وللقوي الحية؟
لنعرض الأمر إذن على ثوابت المرشد وعقائده والمبادئ التي أسس عليها جماعته
. 1 ـ التحالف شروطه وأهدافه: إن التحالف الذي يدعو إليه الشيخ وتعيد الوثيقة الترويج له، هو تحالف مرحلي محكوم بالشروط التي وضعها الشيخ ومنها:
أ ـ أن تكون القيادة لجماعة العدل والإحسان: فالشيخ يرى في جماعته القوة الوحيدة الفاعلة في المجتمع والقادرة على إحداث التغيير المنشود. أما الأطراف الأخرى فهي “معزولة” وتسعى لاستغلال التحالف مع الإسلاميين لصالح مشروعها. وحتى تكون هذه الأطراف على بينة من أمر تحالفها مع الشيخ، يصارحها هذا الأخير بالتالي (تحاولون لف الإسلاميين الشعبيين، وهم القوة “الوحيدة” بشهادتكم، في مشروع أسئلتُه من هناك وأجوبته ملفقة مما أعطته العالميـة الديمقراطية ومما تطمحون إليه من تسييرنا في قافلة اللحاق بذلك الركب السائر في التيه. ومتى كنا بجنبكم، نواه شعبية مُوَجَّهة، فقد اكتملت لكم بالقوة العضلية الإسلامية مقومات الحركة السياسية التي تخرجكم من عزلتكم وتعيدكم من منفاكم!). وقطعا لحبال الوهم التي قد تتعلق بها هذه القوى الحية يحسم الشيخ شروط التحالف كالتالي( ندعوكم أن تدخلوا معنا الميدان على شرطنا وهو شرط الإسلام.هذه هي الوسيلة الوحيدة للتفاهم، حتى لا تكون فتنة ويكونَ الدين كلـه لله ). والأمر لا يتعلق فقط بالقوى السياسية الحية، بل يسري على المثقفين كذلك حيث ينبههم الشيخ ( فإذا دعوتمونا – معشَرَ الفضلاء المثقفين- لجبهة ديمقراطية نكون فيها النواة الشعبية المَسوقة فنحن ندعوكم إلى مراجعة أصولكم الثقافية ذات النـزعة التوفيقية المرتبكة في معضلة الجمع بين الأصالة والمعاصرة ). إذن فالشيخ ينفي بشكل قاطع أن يكون وجماعته في حاجة إلى القوى الحية السياسية أو الفكرية ؛ كما يرفض أن تتحول جماعته، التي أسسها على ثوابت الطاعة والتقديس لشخصه، إلى قوة دفع أو رافعة تستغلها القوى الحية في تسلق لمواقع.
ب ـ أن تكون سلطة القرار للشيخ: فما دام الشيخ يعلن نفسه “قائما” و”شيخا ربانيا”، فقد قرر ألا مصالحة مع النظام ولا انخراط في مؤسساته. ومن ثم فما على القوى الحية التي تريد التحالف مع الشيخ سوى مجاراته في “قومته” وتنفيذ مخططاته التي يحكمها الثابت التالي ( لا تفن عمرك في التأسف على الثمار السامة، بل اقطع شجرتها يفن معها السم. لا يمكن أن ننتظر من الأفراد، ولا الجمعيات، أن تقوم بواجبها في الأمر والنهي، ولا أن يكون لذلك معنى، ما دام روح المنكر وجسده، وينبوعه، ولحمته وسداه بيننا، ألا وهو الحكم الفاجر الكافر )(ص 394 المنهاج). لهذا يرفض الشيخ الانشغال بقضايا التنمية والتحديث التي هي من صميم اهتمام القوى الحية التي يقول عنها الشيخ ( النخب المثقفة ممتلئة بقضايا مصيرية هي: التنمية، والتحديث، والتطور، والتحرر من التبعية الاقتصادية، وتحقيق العدل الاجتماعي. هي ممتلئـة بتغيير يُصَوِّرنا على شكل النموذج المتفوق في نظرهم، ويلحقنا بركبه). ولما كانت القوى الحية تنشد التغيير لتسريع وتيرة التنمية والتحديث بهدف اللحاق بالركب الحضاري الذي تقوده الشعوب المتقدمة، فإن الشيخ له وجهة مغايرة هو موليها. إنها وجهة الماضي السحيق الذي تميز بتأليه البشر وتقديس الأشخاص. إنهما توجهان على طرفي نقيض. وأي تحالف قد يحدث بين الشيخ والقوى الحية فلا بد أن يكون قائما على ثوابت الشيخ الذي يجعل الديمقراطية نقيض الإسلام (ومعنا نحن الإسلاميين اهتمام بالقضايا المصيرية لاذع. هُمْ يرَوْنها من زاوية الديمقراطية، لا حَلَّ عندهم إلا الديمقراطيةُ، ولا مفتاح ولا مدخل. ونحن نراها من زاوية الإسلام، لا حل لها ولا مفتاح ولا مدخل إلا شورى الإسلام..)(591ط3 العدل).
وعلى هذا الأساس قرر الشيخ رفعا لكل التباس لدى القوى الحية (مشروعنا أيها الأعزاء أن تدخلوا الميدانَ على شرطنا). أما الأهداف التي حددها الشيخ للتحالف مع القوى الحية فلا تخرج عن خيارين:
ـ الأول: المساهمة في إضعاف النظام الملكي عبر مقاطعة مؤسساته. ذلك أن الشيخ يعتبر الأحزاب السياسية، خاصة الديمقراطية، هي سند النظام والعقبة التي تحُول دون زحف جماعة الشيخ على الحكم بقوله (في طريق الحركة الإسلامية الصاعدة، الغادية الرائحة من نصر إلى نصر بإذن الله، تتمثل هذه الذهنية المغربة العلمانية عقبة في سبيل بناء النموذج الإسلامي في الحكم على أساس الفطرة وإسلام الوجه لله عز وجل) (ص16 العدل). لهذا سيظل الشيخ يحكم على هذه القوى الحية، إن لم تسند مخططه الانقلابي، بأنها “طبقة واحدة مع المستبدين”. وما دامت كذلك فسيكون لها نفس المصير الذي أعده الشيخ للنظام الملكي وكل مؤسساته.
ـ الثاني: الانخراط في “القومة” التي لا تنتهي إلا بالزحف على السلطة. ذلك أن الشيخ وضع أمام أتباعه الخيارات الثلاثة التالية للوصول إلى الحكم: إما الانتخابات الديمقراطية أو الانتفاضة الشعبية أو التمرد المسلح. هكذا نقرأ للمرشد (أثناء القومة ننزل مع الشعب إلى الشارع، نقوض الباطل إن لم تفتح لنا أبواب المنافسة السياسية لنصل إلى الحكم عن طريق ممارسة الشعب حقه في اختيار حكامه. وقد أعطت قومة المسلمين في إيران النموذج، حيث واجه الشعب الأعزل قوى الطاغوت ومدافعه ودباباته بالصدور العارية، حتى انتصر الحق وزهق الباطل. لكن إذا اجتمعت شروط مثل التي يعيشها المؤمنون في سوريا، بحيث أعلن الحكام كفرهم الأصلي، وحاربوا المسلمين، فحمل السلاح واجب.)( العدل ص309).
للحديث بقية.
selakhal@yahoo.fr
* المغرب