بين خدر الجراح البليغة والإغفاءة الأخيرة، استعاد جورج حاوي شريط حياته الحافلة بالأحداث الجسام والمحطات الهامة، التي امتزجت فيها حياته الخاصة بتاريخ بلده الصغير(لبنان) وأمته العربية والعالم.
استعاد تفاصيل حلم عمره:عالم يسوده العدل وتظلله المساواة، واستعرض عمله من أجل إنصاف الفقراء والمحرومين.
كان حلما كبيرا تضفي عليه الرؤى وهجا وضياء،رحبا مثل أحلام البسطاء،واسعا مثل مسيرة الإنسانية. كان عريضا على امتداد العالم واتساعه. كان حلما بعالم تسوده المحبة والأخوة الإنسانية.
لم يكن حلما معلقا في الفراغ. كانت أسسه حياة كريمة ترتكز إلى المساواة في فضاء العدالة، تنصف الفقير وتمنحه حق العيش بعزة وكبرياء بعد أن تحرره من أصناف العبوديات وتحطم القيود التي تحد من قدرته على الاختيار فتضيق مساحة إنسانيته.
مرت صور معركة عمال التبغ مع الريجي والصيادين واستشهاد معروف سعد،تظاهرات العمال وتشكيل النقابات،معركة الأجور وساعات العمل…الخ.
تساءل عن أحلام نبتت مثل فطر بليل حالك السواد، أحلام حدودها طائفة هنا أو حصة هناك أو إمارة هنالك. تأوه بحرقة لمّا صغرت أحلام هؤلاء إلى هذا الحد. لماذا غدت قابلة للاحتضان مثل بوابة هذا الجرح والأحشاء التي اندفعت منه بقوة المتفجّرة الغادرة؟
عاد بعد جولة قصيرة على صور الرفاق والأحبة ،الشهداء منهم والأحياء، وعلى المشاهد الجديدة في عالم اللبنانيين والعرب، إلى شريط حياته وصفحاتها المفتوحة أمام ناظريه كأنها لم تبرح مكانها منذ سنوات. تذكر كيف قاده إيمانه بالعدل والمساواة بين البشر إلى احتضان جرح فلسطين. فالعدالة والمساواة والأخوة الإنسانية، تستدعي أن تكون فلسطين جزءا من الهم، من الجهد، لتكون دولة فلسطين جزءا من مستقبل البشرية الميمون. فالعدل مجوف ومنخرم ما لم يشمل شعب فلسطين. تذكر كيف وضع يده بيد الفلسطينيين واقتسم معهم الخبز والماء والملح واقتسم الدم والجراح. لم تخدعه الدعوات العصبوية والوطنية الضيقة ولا حرفت بوصلته دعاوى الطفولة اليسارية والرفضاوية الجاهلة، فبقي بجانب الكوفية التي جسدت فلسطين. لقد كان الشهيد عرفات بنظره عنوانا لفلسطين، وكفاحه دربا لنصرة شعبها، لذا بقي معه وإلى جانبه رغم المغريات والصعاب التي تنوء بحملها الجبال.
لم يعش حاوي ليرى حلمه الفلسطيني وقد أغارت عليه إمارة حدودها غزة وأداتها إتلاف كتب الثقافة الشعبية وإغلاق دور السينما والمقاهي العامة ومقاهي الانترنت وضرب النساء السافرات ونعتهن بأبشع الصفات، المنكرة في ثقافتنا وموروثنا الاجتماعي، والقتل الوحشي لأبناء الجلدة والأهل والأصحاب لأنهم وقفوا تحت راية أخرى . إمارة “مجاهدي” أيامنا، حوّلته إلى مزق مثل غيوم شتتها الريح.
تدافعت الصور متزاحمة. سيارة عين الرمانة،حرب السنتين،القتل على الهوية،انفلات الغرائز البغيضة،المقاومة الشعبية ،نصرة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية وكمال جنبلاط ،الحرب على المخيمات التي شنتها حركة أمل. استوقف الصورة، دقق في تفاصيلها وثناياها، هز رأسه بأسى وتساءل، كيف اجتمع كل هؤلاء في هجمتهم الوحشية على المخيمات. رجال حركة أمل وأموال أحمد الجلبي مجهولة المصدر وسلاح السوفييت ، قدمته دولة شقيقة، ورعاية إقليمية ودولية لعملية الذبح؟ وهل رضي الإمام موسى الصدر توظيف ثمرة نضاله لإنصاف المحرومين في قتل محرومين مثلهم؟
لم يمتد العمر بالشهيد حاوي ليرى ” أبطال” الحرب على المخيمات وقتل الفلسطينيين بالجملة “يدافعون” عن مخيم نهر البارد ويعتبرونه خطا أحمر، كي لا يصبح الجيش اللبناني سيد أرض الوطن وحاميه الوحيد، وكي يغطوا عصابة تحظى بالحماية.
عادت الصور تتدافع. ليطاني1 ،اجتياح عام1982، المقاومة الفلسطينية واللبنانية تتصدى، أعلام فلسطين ولبنان متعانقة على سيارات المقاومين،انشقاقات فلسطينية برعاية شقيقة فتح الثورة ،فتح الانتفاضة،تشكيل جبهة المقاومة الوطنية لطرد الاحتلال الإسرائيلي. تأمّل اللحظة بكل بطولاتها وآمالها. مرّ على الرفاق، عدّد الحواجز التي على المقاومين عبورها قبل الوصول إلى الهدف(قوات العدو الإسرائيلي): حاجز الردع على مداخل صيدا، حواجز حركة أمل وحزب الله على مداخل صور ومحيطها، وحاجز القوات اللبنانية عند مدخل جزين. قتل المقاومين،إلزام الشيعي بالعودة إلى حظيرة الطائفة والانخراط إما في حركة أمل أو في حزب الله،اغتيال المثقفين حسن حمدان وحسين مروة،تحويل المقاومة إلى مقاومة إسلامية لإخفاء الهوية الشيعية.
لم يحضر الشهيد حاوي لحظة انكشاف هدف اللعبة عام2007 في مخيم بيروت وإضراب آذار وحرائق بيروت المستباحة.
لم تكن بيروت يوما بمثل هذا الأسى والسواد، قال في نفسه. اتفاق الطائف لم يأخذ طريقه إلى التنفيذ، وأرض لبنان وحدها بوابة نار، والوصاية تزداد قسوة وتجهما فتمدّد لرئيس فاشل فترة فشله ليقدم لها فرص البقاء. التفجيرات والمتفجرات الغادرة تحصد الأخوة والرفاق والزملاء. مشهد تمزيق رفيق الحريري يخيم على الصورة، يسكنها، يرفض المغادرة قبل إجلاء الحقيقة، وقوافل الشهداء تمتد على طريق كشف الحقيقة ومعاقبة الجناة.
لم يعد قادرا على متابعة مسلسل الصور المتدافعة والجرح فاغر فاه والدم يتدفق ليغمر حفلة الوداع بأريج الحرية.
قبل إحكام خدر الجرح سطوته وإسبال العينين للمرة الأخيرة وعبور الروح إلى ملكوت الرحمن، لمح بين المتحلقين حوله وجها غريبا لا يعرفه، وجها ليس من أهل الدار. سأل سؤاله الأخير قبل أن يفارق الحياة، لمَ جاء هذا الوجه الغريب، أللتأكد من نجاح المهمة؟
*كاتب سوري.
ali.a1950@gmail.com