فيما يتّسم مدخل صور الشمالي بالعجقة الشبه دائمة، فمدخل صور الجنوبي، للقادم من جهة الناقورة أو قانا يبدو حديثاً وراقياً. تبدو المدينة من بعيد عبارة عن مجموعة أبنية حديثة العهد ومرتفعة البناء وذات منظر لافت للقادم إلى المدينة. الطريق المتفرع من الطريق الدولية – ولو أنها لا تشبه بتاتاً أي طريق دولية بالمعايير التي هي فيه بل بالكاد يمكن السير عليها، والحالة كذلك من مفرق “القليلة” حتى صور – باتجاه المدينة، وهو طريق متواضع لا تتوقع أن تصل منه إلى مدينة ما. على الطريق يوجد بعض المنشآت الحديثة والمعروفة كـ”سبينيس” و”ماكدونالدز” بالإضافة إلى أماكن لهو ورقص، بالمقابل يوجد موقع للجيش اللبناني استحدث بعيد حرب تموز 2006. نكمل فنصل إلى الشاطىء الرملي الشهير الذي تمتاز به المدينة ويشكل مدخولاً كبيراً لها وللمواطنين. بمحازاته يوجد يوجد كورنيش كبير وهو بداية جادة الرئيس نبيه برّي التي تمتد إلى مقام النبي إسماعيل تقريباً حيث شيّدت الجامعة الإسلامية، وهو بناء مخالف للمخطط التوجيهي الذي وضع لصور حفاظاً على تراث المدينة والذي على اساسه حصلت المدينة على دعم مالي من البنك الدولي. وأذكر يوم بدأت أعمال البناء أن قامت بعض الجمعيات الأهلية برفض هذا التعدي على المخطط التوجيهي للمدينة وبالتالي على التراث، في اليوم التالي كان هناك بيان يوزّع في صور يهاجم الجمعيات أعلاه ملحقاً بإتهامات منوعة كالتي تحضر دائما في كذا مناسبات، والمضحك أن البيان كان موقعاً من عشرات الجمعيات والنقابات المحلية أكثريتها وهمية ولا تسمع بها على الإطلاق وعددها غير معقول لمدينة صغيرة كصور، واستمر البناء. هذه حادثة ليست فريدة بل هي مثال لطريقة سير الأمور في العهد السوري وما بعده في بعض المناطق الجنوبية وغيرها في لبنان.
يتميّز الكورنيش الجنوبي للمدينة (جادة نبيه برّي) بأنه شارع سياحي بامتياز ويحوي على عدد كبير من المطاعم ةالملاهي والإستراحات، وقد ازدادت بعد الحرب الأخيرة بسبب مجيء عدد من المنظمات الإنسانية الدولية مع طاقمها البشري، فكان لا بد من التوسع لاستيعاب هؤلاء وتوفير مكان مناسب لراحتهم، خصوصاً أن عدم وجود موانع إجتماعية تذكر في صور جعل من الأمر ممكناً ومرغوباً. فاصبح للمدينة حوالي 5 فنادق والعديد من الأماكن الترفيهية تجذب اللبنانيين والأجانب على حد سواء. هذا الأمر أدى إلى ازدحام كبير في المدينة لا حل له حتّى الآن، وارتفاع ايجارات الشقق بشكل جنوني، إذ تبلغ ابسط شقة الآن نحو 600 $ كحد أدنى الى 1200$ وأكثر أحياناً، وايجارات المحال الواقعة على الكورنيش مثلاً تبلغ نحو 4000$- 5000$، ايجارات خيالية.
ومن الشوراع السياحية النابضة بالمال والناس والحياة نصل إلى القسم القديم من المدينة. وهذا الجزء من المدينة هو الأفقر وهو ينقسم فعلياً إلى حارة النصارى وحارة الاسلام، مع وجود بعض الاستثناءات البسيطة. مشكلة هذه الاحياء أنها كانت وما زالت بمنأى عن اهتمامات المسؤولين، مما جعل بعض أجزاء من حارة الاسلام منطقة مضطربة ومرتع للمشاكل بين الصبية، عاداك عن تصدير هذه الاضطرابات إلى خارج المنطقة، واستعصاء الدولة عن دخول المنطقة. هذه المشكلة انخفضت إلى حدّ ما بعدما باشرت البلدية بانماء المنطقة رويداً رويداً وجعلتها مكاناً يمكن الولوج إليه، وموخراً تم افتتاح مكتبة عامة في أحد القصور القديمة بعد تأهيله علّ يساعد هذا المكان على ابعاد الأجيال الصاعدة عن المتاعب.
أمّا حارة النصارى فهي تتسم بالهدوء وهي سياحية بدرجة عالية حيث تستقبل ضيوف المدينة في نزل الحارة الشهير وحتّى في بعض البيوت المضيفة للذين يريدون توفير بعض المال لزيارة المطاعم والحانات المطلة من الحارة على المرفأ القديم العبقة رائحته بالبحر الكهل والذي تسهر عليه العذراء الواقع مكانها في وسط الپور كما يقال بالعامية.
“صور” ككل مدينة لبنانية يمكن أن تكون مدينة سعيدة ومزدهرة لكنني للأسف أجد أننا اصبحنا في زمن عاود فيه العد التنازلي نحو العصور الوسطى الجديدة، حيث تتحول أي مناسبة كانت إلى غاية لإقفال المدينة وتعطيل الحركة فيها لساعات ونشر مكبرات صوتية بين الأبنية، فلم يعد حاجة عندك للذهاب إلى الحدث فهو يأتي إليك شئت أم أبيت. وعليك أن تركن سيارتك في مكان بعيد عن الحدث لضرورات أمنية لم تكن يوماً موجودة وهي في صور غير مبررة، وعليك أن تشاهد ناشطين حزبيين مع أجهزة اتصالاتهم وعندها تبدأ بالتسأول كالكثير من غيرك، أين أنا؟ أهذه هي مدينتي؟ لقد انتشرت ثقافة الدرجات النارية كالنار في الهشيم، لقد تفرقعت قلوب الناس من المفرقعات القاتلة، النفايات كثيرة على الطرقات، واللامبلاة تجاه كل هذه الأمور لا تساعد إلا بنحو الأمور نحو الاسوأ، لقد ضعفت المناعة عند المواطنيين والمدنيين، وقويت شوكة تيار “الفوضى للجميع”.
fladi01@hotmail.com
الحلقة الأولى:
“صور”، المدينة الضائعة بين المغامرات السياسية والإزدهار الإقتصادي
علي شرف الدين