إن كنت قادماً إلى «صور» من مدخلها الشمالي، فإن أول ما تراه بعد أن تجتاز مطعم KFC الشهير هو قوس النصر الذي أقامته حركة أمل وحزب الله لترحيب بالقادمين. أقيم القوس منذ ما يقرب العام وكتب عليه “بالوحدة تبنى الأوطان”، هذا أول درس في الوطنية تلقاه على مدخل المدينة. نمر بعدها بطريق رئيسية طويلة تصلنا بالمدخل الإداري للمدينة. ستلاحظ على هذه الطريق أن الأعمدة الكهربائية كلها من دون استثناء مزينة بأعلام حزبية من حزب الله إلى حركة أمل فالعلم اللبناني، هكذا بالترتيب الكمي للأعلام. ظاهرة تعليق الشعارات الحزبية على كل شيء أمر مألوف وشائع في لبنان بالمجمل، ولكنها هنا تحمل طابعا جدياً أكثر كما لو أن واضع العلم يعلن بأنه مالك المنطقة هذه ولا ينازعه عليها أحد.
على المدخل الرئيسي، يوجد ازدحام سير شبه مزمن. ويزيد الامر صعوبةً أن أفضلية المرور للجميع، على الأقل هذا ما يظنه السائقون. كما قد يحالفك الحظ بأن تشاهد إحدى العنتريات القيادية التي تشهدها المنطقة على مرّ النهار. على كلٍ فنحن لم ندخل المدينة بعد، على الأقل هذا ما يقولوه أهالي «صور» الغيارى اللذين تبدأ «صور» عندهم بعيد تجاوز منطقة العجقة مضافة إلى مخيم البص الفلسطيني، والذي يقع لوم عدم تنظيم المنطقة عليه. نصل إلى كورنيش «صور» الشمالي وهو أول كورنيش استحدث في «صور» على الطريقة الحديثة. وسرعان ما أصبح نصف الكورنيش هذا، وهو يقع بمحاذاة المخيم الفلسطيني، مكاناً يرتاده الفلسطينيين بكثر. ففضل اللبنانيون الإحتفاظ بالنصف الآخر فقط. حتّى تم لاحقاً الإنتهاء من ثلاث كورنيشات تقع تحت “السيطرة اللبنانية” المباشرة، أي تخلو من العناصر غير اللبنانية. على كل حال هذه “السيطرة” ليست أرقى حالاً في بعض الأحوال.
بالرغم من صغر مساحة المدينة وصغر شوارعها فإن ال»صور»ي لا تكتمل مواطنيته للمدينة من غير أن يمتلك سيارة من الموديلات الحديثة، والأفضل أن تكون مرسيدس أو BMW لكي يتمكن من المشاركة بالـ”كزدورة” الشهيرة على شارع أبو ديب المعروف هو الآخر، مسبّباً عجقة لا مثيل لها. والعجقة على كل الأحوال غاية الكزدورة هذه. كان أصدقائي الأجانب الذين يقدمون إلى لبنان للسياحة والتعرّف، دائماً يتعجبون من الكمية الهائلة للسيارات الحديثة التي تعج بها هذه المدينة الصغيرة والتي لا تبعد إلى بضع كيلومترات عن الجبهة المبردة حالياً. بالنسبة لي فالسيارات الحديثة أفضل من سيارات الفولفو القديمة لذلك فانني لا اشتكي منها.
منذ فترة كان يمكن أن تمر ب»صور» من دون ملاحظة استنفار سياسي. أمّا اليوم فإنك ستجد حرباً شرسة باللافتات ظاهرة خصوصاً بين حزب الله من جهة وحركة أمل من جهة أخرى، كما أنّك ستجد لافتات تهاجم قوى 14 آذار. ومنها اللافتة المعلقة على مبنى نقابة الصيّادين، وما تحويه من شتيمة بحق الحكومة وداعميها، ربما هي رد على كلمة “بالوحدة تبنى الأوطان” من قبل الطرف ذاته، يا لها من مهزلة. ميزة أخرى تتمتع بها اللافتات هذه، وهي أنها أبدية. نعم، أبدية لأنها ربما إلهية أو مقدسة، هذا هو الشائع في الأيام الحالية. لذا يمكنك أن تتخيل ماذا سيحصل عندما تتراكم اللوحات فوق بعضها البعض.
أمر طريف آخر في المدينة. في القسم القديم للمدينة يوجد جامعان أحدهما للطائفة السنية والثاني للطائفة الشيعية، ولا يبعدان عن بعضهما سوى 50 متراً. فيما سبق، كما أذكر لم يكن أحد يخطب في الجامع الشيعي نهار الجمعة، امّا وبعدما تمّ ترميمه وإعادته إلى حلته القديمة الجميلة، فقد أصبحت الخطب تتم. أمّا جامع «صور» القديم وهو التابع للطائفة السنية، فكانت الخطبة تلقى فيه دائماً لانه الأقدم والوحيد للطائفة السنية. فيما سبق كنت أستمع إلى الأخير ربما لأنني لم أملك خياراً، وكانت الخطابات كما أذكر معظم الوقت حادة، وأكثر ما كان يلفتني فيها، هو الدعاء لنصرة الإسلام والمسلمين أينما حلّوا من أفغانستان فالعراق إلى الشيشان والبوسنة مروراً بفلسطين بالتأكيد، وكنت دائماً اتساءل: هل يعقل أن المسلمين اللذين شملهم الدعاء كلهم مظلومون ومستضعفون؟ ألا يعقل أن يكون العكس في بعض الحالات؟ ولماذا لا يكون الدعاء للمستضعفين أينما حلّوا بدءاً من لبنان إلى العالم كلّه، وليكونوا مسلمين ومسيحيين ويهود وهندوس وغيرهم؟ على كل حال لم أعد أسمع هذه النبرة أو أنها خفت بعيد إغتيال الرئيس رفيق الحريري. ولكن في الوقت ذاته كان الجامع الآخر قد انتهت أعمال ترميمه وبدأت تصدح فيه خطبة الجمعة. صحيح أنه ينتظر، كما لاحظت لاحقاً، حتى ينهي الاول نصف خطبته فيبدأ عندها بالكلام. لكنه من المستعصي على أحد أن يفهم ما يقولوا بعد أن يبدأ الإثنان بالكلام. هكذا تمضي صلاة الجمعة.
سياسياً من المتفق عليه أن المدينة تتبع حركة “أمل”، بدءاً بالبلدية إلى المؤسسات الدائرة فيها، ولكن لا يُستبعد أن تجد الحركة نفسها في مأزق بسبب توغلات التي يقوم بها حزب الله رويداً رويداً. وها هي مراسم العاشوراء على الابواب وحزب الله لا يوفر مناسبة كهذه للإقتناص من شعبية الحركة في «صور». هذه المنافسة التي تظهر عند كل حدث ممكن. حتى على صعيد المواقع الإلكترونية في «صور» يوجد موقعان كل واحد مع طرف. من العجيب أن نت»صور» أن هناك هامشاً بين الحزبين يمكن لأشخاص أو مؤسسات التنافس عليه، إلا في «صور» فالهامش محسوس.
هذا الهامش قد يتمثل في إنفتاحية المدينة الإقتصادي والسياحي، ولكن ليس السياسي بالتأكيد. هذه الإنفتاحية التي تتعدى غيرها في جميع المناطق الواقعة جنوبي نهر الأولي باستثناء جزين ومرجعيون والقرى المسيحية عامةً. هذه الإنفتاحية خلقت مجتمعاُ مدنياً، رفاهياً، راغباً بالإستقرار. فهل ترغب القوى المسيطرة، أو التي تحاول السيطرة، أن تغير مجرى الأمور؟ صحيح أن الأوضاع ليست أفضل ما يمكن عليه، ولكن مواطني المدينة ما زالوا قادرين على التمييز ما هو جيد لهم وما هو قاتل لهم.
الحديث عن المدينة لا ينتهي، فلا يمكن لصفحة أن تقول الكثير. فكيف إذا كان الحديث عن “«صور»”؟ حاولت أن أضع مشاهداتي من «صور» وهي قد تعطي انطباعاً لا يعجب البعض لكنه لا يقدر أن ينفيه. أقول فقط أنني أكتب ليس حقداً على أحد إنما حباً بالمدينة التي يعانقها البحر كما لو أنه أحبها أيضاً.
fladi01@hotmail.com
مواقع عن “«صور»”:
http://www.tyrefestival.com/indexflash.html
http://www.sourcity.com/
“صور”، المدينة الضائعة بين المغامرات السياسية والإزدهار الإقتصادي
نص موضوعي وصريح، وتكمن أهميته في أن المشاهد والكاتب هو صوري، فخير لنا أن ننتقد أنفسنا ونعمل على التحسين، من أن ننتقد من الغير ونكتفي بلوم المنتقد، هذا إذا لم نتهمه بالعمالة. بورك لبنان، وبوركت صور …