الكاظمي عاد خيارا عراقيّا من دون أن يعني ذلك أنّ مستقبله مضمون مئة في المئة في ظلّ عودة الاتصالات بين الصدر والمالكي الذي كان يمثّل بالنسبة إليه خيارا مرفوضا تماما.
كشف الهجوم الإيراني بواسطة صواريخ باليستيّة على أربيل عاصمة إقليم كردستان العراقي أمرين أساسيين. الأمر الأوّل مدى الانسداد السياسي والأمني عراقيا والآخر العجز الإيراني عن إدارة اللعبة السياسية في العراق، خصوصا في ظلّ التجاذبات ذات الطبيعة الخطيرة بين القوى الشيعية المختلفة. لم تستطع “الجمهوريّة الإسلاميّة”، التي وصلت القوى السياسيّة الشيعيّة وميليشياتها إلى السلطة في بغداد على دبّابة أميركيّة، السيطرة على العراق كلّيا والتحكّم بمصيره.
لا يزال العراقيون، بمن في ذلك الشيعة، يقاومون النفوذ الإيراني ويرفضون أن يكون بلدهم مجرّد جرم يدور في فلك “الجمهوريّة الإسلاميّة”.
تعتبر الصواريخ الإيرانية التي استهدفت أربيل دليل ضعف وليس قوّة، خصوصا أن الذريعة التي لجأ إليها “الحرس الثوري” لتبرير إطلاقها في اتجاه “قواعد” إسرائيلية، تابعة للموساد تحديدا، لا يمكن لطفل أن يأخذها على مجمل الجدّ. هناك هجوم إسرائيلي استهدف قبل ما يزيد على أسبوع أهدافا إيرانيّة قرب دمشق. أدّى الهجوم إلى مقتل عنصرين إيرانيين من “الحرس الثوري” وثمّة من يقول إنهما ضابطان في “الحرس”.
حسنا، لماذا تردّ إيران على هذا الهجوم في كردستان وليس في إسرائيل التي توعّدت آلاف المرّات بإزالتها من الوجود بصفة كونها “غدّة سرطانيّة”؟
قد يكون الهدف الإيراني توجيه رسالة إلى الزعيم الكردي مسعود بارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي لديها حسابات تريد تصفيتها معه. نجحت في ذلك جزئيا عندما حالت دون وصول هوشيار زيباري إلى موقع رئيس الجمهوريّة. لكنّ ذلك لم يؤد، أقلّه إلى الآن، إلى إيصال كرديّ موال لإيران إلى الرئاسة العراقيّة.
يتبيّن كلّ يوم أكثر أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” عاجزة عن إدارة الأزمة العراقية على الرغم من دورها الأساسي في خلق هذه الأزمة وفي إيصال العراق إلى ما وصل إليه من فوضى على كلّ المستويات. لا تشبه الفوضى العراقيّة سوى تلك الفوضى السائدة في لبنان حيث تتحكّم ميليشيا مذهبيّة إيرانيّة بالبلد.
هناك أزمة إيرانيّة حقيقيّة، لكنّ هناك أزمة عراقيّة أيضا. لعلّ تصرّفات إيران في العراق أفضل تعبير عن عمق الترابط بين الأزمتين الإيرانيّة والعراقيّة في عالم دخل مرحلة
ما لا يمكن تجاهله، على هامش الصواريخ الإيرانيّة في اتجاه أربيل أنّها ساهمت في إعادة تعويم رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. قبل إطلاق الصواريخ في اتجاه أربيل، وهي صواريخ تعكس الأزمة الداخليّة في إيران والعجز الذي تعاني منه “الجمهوريّة الإسلاميّة” على كل صعيد، كان الكاظمي نفسه في حكم المنتهي سياسيّا. مضت ستة أشهر على الانتخابات التي أشرفت عليها حكومته والتي أسفرت عن تقدّم الصدريين (جماعة مقتدى الصدر)، لكنّ لا حكومة عراقيّة جديدة إلى الآن. الكاظمي نفسه، الذي يتبيّن مع مرور الأيّام أنّه عاد حاجة عراقيّة، بدا يائسا. وزع في الحادي عشر من شهر آذار – مارس الجاري تغريدة توحي بأنّه يودّع مواطنيه مرتاح البال بعدما قام بما عليه القيام به من أجل العراق. جاء في التغريدة “أدينا الواجب الذي اُستدعينا من أجله في خدمة شعب العراق العظيم. لم نتردد أو نتقاعس أو نساوم على حساب المصلحة الوطنية ولم نقدم مصالحنا على مصالح شعبنا كما لم ننجرّ إلى المساجلات والمزايدات. أوصلنا الوطن إلى انتخابات حرة نزيهة ووضعنا بصبر أسس تجاوز الأزمات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية الكبرى رغم العراقيل الداخلية والتحديات الخارجية وأعدنا العراق عزيزاً إلى المجتمعين الإقليمي والدولي، وفتحنا طريق مكافحة الفساد والمفسدين واستعادة الدولة من براثن اللادولة. أخرسنا الإرهاب وخلاياه وذيوله بعزم أبطال قواتنا العسكرية والأمنية والاستخبارية”.
أكد الكاظمي أن “القوى والأحزاب والشخصيات الوطنية التي أفرزتها العملية الانتخابية الديمقراطية تتحمل اليوم مسؤولية حماية المسار الوطني من خلال إنهاء الانسدادات السياسية وتشكيل حكومة تتصدى للاستحقاقات وتصون الوطن وتدافع عن وحدته ومقدراته ونبارك كل الجهود على هذا الطريق”.
استعاد الكاظمي حيويته. ردّ على الصواريخ الإيرانيّة بزيارة أربيل للقول إنّه ما زال موجودا سياسيّا. باختصار، عاد الكاظمي خيارا عراقيّا من دون أن يعني ذلك أنّ مستقبله مضمون مئة في المئة في ظلّ عودة الاتصالات بين مقتدى الصدر ونوري المالكي الذي كان يمثّل بالنسبة إلى الصدر خيارا مرفوضا تماما.
في ضوء إطلاق إيران صواريخها، من بعد نحو 300 كيلومتر، يظهر بكلّ وضوح أنّ ليس لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” ما تقدمه إلى العراق. كل ما في الأمر أنّ العراق بالنسبة إلى “الحرس الثوري” مجرّد “ساحة” تبعث عبرها رسائل في كلّ الاتجاهات، خصوصا في اتجاه واشنطن والعواصم العربيّة الفاعلة. لم يعد سرّا أن “الحرس” فشل في فرض شروطه على الإدارة الأميركيّة في محادثات فيينا. أفسد الغزو الروسي لأوكرانيا فرصة التوصّل إلى صفقة أميركيّة – إيرانيّة، أقلّه في المدى المنظور. بدا واضحا أن الروسي بات يمتلك حسابات خاصة به ولم يعد في موقع المستعدّ لدور يسهّل الصفقة بين واشنطن وطهران. فوق ذلك كلّه، كان لافتا إعلان إيران وقف المحادثات ذات الطابع الأمني التي تجريها مع المملكة العربيّة السعوديّة في العراق بإشراف من مصطفى الكاظمي نفسه الذي يرى في المحادثات السعوديّة – الإيرانيّة انتصارا شخصيا له. ما تكتشفه “الجمهوريّة الإسلاميّة” أن ليس في العالم، بما في ذلك بين العرب الجدّيين، من هو مستعد لإجراء أيّ محادثات أو مفاوضات معها بعيدا عن سلوكها في المنطقة وصواريخها الباليستيّة وطائراتها المسيّرة. لا فصل بين البرنامج النووي الإيراني من جهة والعدوانيّة التي تمارسها “الجمهوريّة الإسلاميّة” خارج حدودها في اليمن وغير اليمن.
هناك أزمة إيرانيّة حقيقيّة، لكنّ هناك أزمة عراقيّة أيضا. لعلّ تصرّفات إيران في العراق أفضل تعبير عن عمق الترابط بين الأزمتين الإيرانيّة والعراقيّة في عالم دخل مرحلة جديدة كلّيا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
إلى متى تظلّ الأزمة العراقية من النوع الذي يمكن التحكّم به في ظل وجود ميليشيات مذهبيّة يتحكّم بها “الحرس الثوري” الإيراني. يبدو أنّ على “الحرس” تأكيد أكثر من أيّ وقت أنّ اللعبة السياسية والأمنيّة في العراق تدار من طهران وليس من أيّ مكان آخر… مع إصرار على تجاهل وجود شعب عراقي يؤمن بأكثريته أن العراق هو العراق وإيران هي إيران.
في العقلية « الأسطورية » لنظام الملات، ربما كان ذا مغزى أن الهجوم على أربيل وقع صباح ١٣ مارس، في حين أن عيد ميلاد المقبور قاسم سليماني هو 11 مارس. خصوصاً أن مقتل عقيدين في « الحرس » في عملية قرب دمشق يبدو أقرب لعملية « تصفية » حيث أن القتيلين الوحيدين في العملية الإسرائيلية كانا ضابطين إيرانيين من الحرس برتبة عالية. أي ما يشبه « التكرار » لتصفية سليماني.