كان علينا أن نرى وجه شارل شيخاني، أن نتعرف عليه فقط ساعة موته. إنها مرة واحدة وأخيرة نرى فيها شارل شيخاني لكنها كافية لنعرف من هو البريء، البريء الذي يمر في حياتنا مرة واحدة. يحضر في الغالب بدون أن يتكلم، لا يحتاج بالطبع إلى دفاع، هو الذي تساوي حياته كلمة فقط. كلمة قد تكون مفتاح حياتنا، كلمة تحتاج الى وجه شارل شيخاني الجميل، الجميل لماذا لا، فهذا أيضا وجه البريء، وهذا أيضاً ما نحتاج الى أن نراه لنعرف أن أمام هذا الشباب، أن أمام هذا الجمال ما من محاكمة ممكنة، لا يستطيع الاثنان أن يقفا معا أمام القاضي، القاتل و… الشاب. لا أستطيع أن أقول القتيل، لا أريد أن أقول الشهيد. القتيل كومة من لحم وثياب، وشارل شيخاني رأيناه يبتسم جنب الدعوة الى مسيرته. الشهيد حياة بالأجرة، شيء ككلاكيت على وجه القتيل، وسام على ثيابه الممزقة وغالبا ما ينتهي الأمر هنا. لقد وجدنا اسماً آخر للجريمة، أبعدنا القاتل عن مشهد فيه الكثير من الزهور. ربما بعد هنيهة سننسى أنه فعل ذلك، ربما نظن أننا سلبناه ما يوازي جنايتة.
ربما نقول إنه فقد يد المجد. لا أريد أن أقول الشهيد، لم تصنع الملائكة ذلك وفي حضور الملائكة أيضاً يبقى القاتل موجودا. ربما يفكر أن يحلّق معها، ربما لا شيء يمنع ما دامت الجريمة بدون يد. ما دام الدم هو تقريباً إكليلنا. لا شيء يمنع ما دام القبر أيضا يحلق والزفاف السماوي موعودا. نقول إن شارل شيخاني جاء على الموعد. إن وسامته تستحق هذا الكمال في الأبدية، لكن القاتل كان موجوداً أيضا، وربما في المسيرة، ولا يستطيع أحد أن يقرر أنه يشبه الله. لقد حصل هذا بيننا. بيننا نحن ولم يكن القدر ثالثنا. بيننا نحن، المجرم والجميل ولم يكن هناك ملاك على الباب. بيننا نحن والجمال تحطم ولم يكن هذا زفافاً. الجميل تترب بالتأكيد واحترق ولم تتحرك السماء. الجميل انطفأ كله ولم نسمع تسبيحاً. كان هذا في أرض عزلاء موحشة، كان ذلك وسط الخراب والحجارة وليس سوى الرماد والسخام ولن يمرق عصفور هنا قبل جيل ولن تنبت عشبة. حصل ذلك هنا في هذه الوحشة ولم نسمع مصاريع المجد تتشرع ولا باب القيامة. لم نجد أرزة هنا يا شارل ولا حتى عرق ياسمين. لقد حدث العكس يا شارل. انخسفت السماء في الغالب نزلت الأرض طبقات، سقطنا جميعاً على جباهنا. ظهر عليها حرق، وشم لا ندري لأي تقليد، لأي عبودية. سقطنا على وجوهنا يا شارل. إذ هذا الجمال الذي تمرغ باسمنا كلنا سيجعلنا الى الأبد بشعين ومكروهين وعقيمين أيضاً يا شارل لأن الموت أتانا على سبيل الإهانة. جاءنا كالعار، لقد تركنا هنا مع مذلتنا، ومع الرماد والعطش. تركنا مع أدونيسنا القتيل وأنياب الخنزير، مع ينابيعنا الجافة ومع صخورنا المتفحمة. مع الجروح الجافة التي لن يسيل منها ماء ولا دم. لن يكون هناك ربيع. لقد هجرتنا الآلهة والطيور وهذا المتلفع بالسواد جنبنا ليس إلهاً ولا قدراً إنه فقط الغراب الذي يكمل النبوءة. هجرتنا الآلهة والطيور وهذا الجدار الهاوي أرزة محترقة أيضا. لدينا الكثير من الرماد لنصنع جدارية للسرطان، لدينا هذا الجمال المحترق لنصنع قدحاً من الرماد. ولا نحتاج الى هذا الكوكب، لن نستسقي أحداً بموتانا المرفوعين على المناكب، لن يسمعنا أحد في الأعالي. اللهم إلا ذلك الغراب الذي سيتكلم بحكمة غريبة، إلا ذلك التراب الذي سيقع في أعيننا. لن نستمطر شيئاً، سنبقى هنا مع هذا الجسد الذي لن تنبت له أجنحة، سنبقى مع هذا الجسد الذي لن يزهر، سنعيد زرعه مرة بعد أخرى، سنعيد زرعه في داخلنا ولن يزهر. سيكون معنا دائماً، تلك الكلمة التي انفصلت عن السماء، تلك الصخرة التي انفصلت عن السماء. سيبقى معنا ولن نعرف كيف نهديه ثانية للأرض، كيف سنزين به إقامتنا القصيرة هنا، لن نعرف إلا تلك المشيئة التي تحجرت، إلا ذلك الأمر الذي تصدع. إلا ذلك الحريق الذي حلّق مكاننا. لن نعرف يا شارل كيف يكون كل ذلك وطنا. هل يكفي أن نضع أسماءنا ونرحل. لن نعرف يا شارل كيف يكون ذلك بيتا، هل نصلي في الشارع، أم نقع على وجوهنا هنا، هل نرسم على الأكفان ونوقع فوقها. هل ستكون هذه رسالتنا الى الله أو إلى الأيام. ونقول يا شارل إننا نستطيع أن نبكي لأننا وحدنا مع الصورة جنب الدعوة. نستطيع أن نبكي لأن الصورة لا تبكي وستظل تبتسم. سنبكي لأننا وحدنا ولن نبقى مع أحد ولا مع صورة، لأنها وحدها ستظل تبتسم، ستكون أجمل لكنها لن تفعل ذلك من أجلنا. ولا من أجل أي إنسان بعد. ستكون وحدها على الصفحة ثم لن تكون في أي مكان. سنقول إنها صارت بيضاء. سنقول صارت في الهواء الذي يبقى خفيفاً رغم الحطام ويجمع الابتسامات عن وجوه الصحف، عن صور الحيطان المتروكة أيضا. إنها إشراقات لا تدوم طويلاً، الحطام سيمكث وقتاً أطول، الحريق والجثث تعيش كثيراً حتى في المقابر الجماعية. الانفجارات تستمر وثمة عبوات لم تنفجر بعد في نفوسنا، إنها تنتظر الساعة حتى تأتي وسيحدث ذلك بالتأكيد. بعد أن نبتعد قليلاً سيحدث ذلك، وسط سهرة، في منتصف كأس أثناء الحب، الابتسامة التي كدنا ننساها ستنفجر، الذكرى اللطيفة ستنفجر، الفكرة الحكيمة ستنفجر، سينفجر البؤبؤ في عينك، لسانك في فمك، والصلاة على روحك ستنفجر أيضاً. ربما وسط سهرة سيحدث، ربما في نصف الكأس، أكيد أننا لا نستطيع أن نلقي الناس في الشوارع هكذا. شيء سيحصل يا شارل، لن نعد أنفسنا لكننا لا نستطيع أن نصلي. لا نستطيع أن نحملك إلى نهاية المسيرة، لا نستطيع أن نكمل الصلاة. وأنت يا شارل لن تحتمل أن نظل نبتسم على الصفحة أو على الجدار. ينبغي أن يحصل شيء يا شارل لنستطيع أن نخرج من هذا الشارع، لقد رميناك هناك ولم نكمل، لا تصدق أزهارنا، جنّدَنا الموت يا شارل، جنّدنا الخوف، وتآمرنا مع الحظ عليك، على كل الذين خذلتهم الصدفة ونلنا مكافأتنا الصغيرة يا شارل. يوماً آخر فقط، بعناك بيوم آخر يا شارل، يوم لنراك تبتسم في الصورة لنوزعك على الحيطان، يوم لنغمرك بالأزهار ولأنك لن تشكو يا شارل ولن تتكلم. الغراب وحده يتكلم في هذه الساعة يا شارل. ونحن لا نزال هناك، وقعنا على وجوهنا وانتهى الأمر. ليس عليك إلا أن تخاف من بسمتك في الظلام، لكن غدا يوم آخر ولن تعيش أكثر من يوم، غدا يوم آخر وسيكنس الهواء كل البسمات، كل الإشراقات التي تفيض عن وقتنا. كل الذكريات، كل الصلوات، يا شارل غدا يوم آخر وسنعيش. سيحشوننا صحفاً وسنعيش يا شارل، لن نحتاج من أجل ذلك الى صلاة.
عام مضى على الأطفال الذين قتلوا في الرمل العالي. كانوا أيضاً يبتسمون في الصور. صلاة قصيرة لكن الاحتفال طال أكثر. الابتسامات زالت لكن الخبر لا يزال موجوداً، استبدلناها بأبواب متينة إذ لا بد أن يوضع طفل في أساس البناء. طفل بعدة قطع لتكون الجدران قوية، لا بد من دم فتي لهذا الحساء السحري الذي يسمونه الدولة، لهذا الرصد الذي يسمونه القانون. لا بد أن نجد طفلاً قتيلاً في مغارة علي بابا، لكن أحداً لن يبالي، إنه يوم آخر.
الأطفال الذين أخرجوهم من تحت الأنقاض في الضاحية لم يؤثر الموت فيهم لقد حماهم التراب الشفاف، كانوا رائعين وكدنا نؤرجحهم الى الأعلى، كانت بسماتهم كبيرة كالرغيف وقد عاشت يومين لكن هذا آن أن ينتهي وسيدفن هؤلاء مع ملائكتهم في يوم. سيرفعون الأنقاض ولن يكون أحد ابتسم تحتها. ثم لن نعول أن الصلاة تليت بكاملها تحت الأحجار.
الجميع في المسيرة، أطفال الرمل العالي، أطفال الضاحية وشارل شيخاني الذي وصل متأخراً لكن بسمته شقت له طريقاً الى المقدمة، الأزهار ستنتهي أسرع. الابتسامات تتبعها، الصلاة ستبقى وقتاً أطول لكنها ستختفي مع كل البخور والتسابيح. الملائكة سيصعدون ومعهم الغراب الذي يلحقهم متأخراً. الأبواب تنفتح ولا نسمع مجداً بالطبع. إنها تنفتح وسننضم نحن الى المسيرة صوب الجبل، لكن القمة ستختفي أولاً ونحن أيضاً سنختفي.
السفير