يكثر الصينيون من ترديد شعار ضرورة “حل الخلافات بالوسائل السلمية” فيما هم يستفزون جيرانهم من الدول الآسيوية الصغيرة التي لا تستطيع مواجهة جبروت التنين الصيني
منذ عام 2009 أي حينما بدأت صحيفة “غلوبال تايمز الصينية المملوكة للدولة بالصدور في طبعة باللغة الانجليزية وأنا اتابعها يوميا، من باب التعرف على المستجدات في هذا البلد العملاق ومحاولة فهم سياساتها حيال القضايا الإقليمية والدولية. ومما قرأته مؤخرا إفتتاحية خصصت للحديث عن العلاقات الصينية ــ الفيتنامية التي عاد التوتر ليخيم عليها من بعد أن تفاءل الكثيرون بتحسنها وزيادة فرص التعاون المشترك والثقة المتبادلة بين قيادتي البلدين والحزبين الشيوعيين الحاكمين فيهما، خصوصا في أعقاب الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الفيتنامي “تران داي قوانغ” وعقيلته إلى بكين في مايو المنصرم.
ولعل أحد شواهد عودة التوتر إلى علاقات البلدين هو قيام رئيس أركان الجيش الصيني بقطع زيارة كان يقوم بها لفيتنام والعودة إلى بلاده دون عقد لقاء مع نظيره الفيتنامي لبحث قضايا حدودية، علما أن البلدين يتنازعان السيادة على مجموعة من الجزر الصغيرة في بحر الصين الجنوبي، يقال أنها غنية بالنفط والغاز والمعادن، بل كثيرا ما كان البلدان قاب قوسين أو أدنى من تكرار الإشتباك العسكري بسبب حقوق الصيد ومرور السفن واحتجاز صيادين أو بسبب تركيب منصات للتنقيب عن النفط والغاز. ونقول تكرار الإشتباك العسكري لأن للبلدين تاريخاً حافلاً في تصادم قواتهما، حيث دارت حرب بينهما في مطلع عام 1979، وغزت القوات الصينية فيتنام كرد على تدخل الأخيرة في كمبوديا ضد حلفاء بكين من الخمير الحمر. ولئن كان هذا بات شيئا من الماضي الذي لا يريد أي من البلدين العودة إليه، إلا أن التنافس السياسي والاقتصادي والعسكري لا مفر منه بسبب جملة من العوامل.
فمن الناحية السياسية يكثر الصينيون من ترديد شعار ضرورة “حل الخلافات بالوسائل السلمية” فيما هم يستفزون جيرانهم من الدول الآسيوية الصغيرة التي لا تستطيع مواجهة جبروت التنين الصيني بفرض الأمر الواقع عبر بناء المنشآت والمنصات وإقامة البنى التحتية فوق جزر متنازع عليها بين سبع دول. ومن جهة أخرى فإن بكين التي تطالب بحل الخلافات بالطرق السلمية هي نفسها التي ترفض التفاوض الجماعي مع الدول المعنية وتشترط التفاوض الثنائي المباشر كما لو أنها تسعى إلى سياسة “فرق تسد”.
وبالمثل يستفز الصينيون جيرانهم بتخصيص الميزانيات الضخمة للتسليح وتسيير السفن وحاملات الطائرات في مياه بحر الصين الجنوبي، وإجراء المناورات العسكرية بالقرب من المياه الإقليمية لدول الجوار، بينما يغضبون ويولولون إذا ما أقدمت أي من دول الجوار على تعزيز قوتها البحرية بشراء غواصات او لجأت للتعاون العسكري مع قوى عالمية أو قامت بمناورات عسكرية في المياه القريبة من الصين أو نفذت خططا للتنقيب عن النفط والغاز في تلك المياه أو غير ذلك من الخطوات التي قامت بها فيتنام بالفعل فكان نصيبها التهديد والوعيد والإتهام بالتعاون مع الولايات المتحدة للإضرار بالصين. بل أن الصين ــ طبقا لما سمعه ديفيد شامباو مدير برنامج سياسات الصين بجامعة جورج واشنطون الامريكية من مسؤولين في دول جنوب شرق آسيا ــ حذرت هذه الدول من مجرد مناقشة قضية الجزر المتنازع عليها بين بعضهم البعض.
ولموضوع حديثنا هذا شق إقتصادي. فالصين، التي كانت رائدة في آسيا والعالم على مدى سنوات طويلة لجهة معدلات النمو الاقتصادي والتي وصلت في ذروتها إلى 10 بالمائة، تشعر بالغيرة والحسد من فيتنام التي يتوقع البنك الدولي أن يصل معدل نموها الإقتصادي خلال السنوات الثلاث القادمة إلى 7%. وهذا يعني أن فيتنام (بفضل خططها لجذب نحو نصف تريليون دولار خلال الفترة 2017 ــ 2020 في صورة استثمارات خارجية، ثم بفضل انفاق نحو 5.7% من حجم ناتجها المحلي على تطوير البنية التحتية والخدمية) سوف تتساوى في نموها الاقتصادي مع الصين إن لم تتجاوزها بقليل. ويعتقد على نطاق واسع أن التصدي الصيني الحازم لأي خطوة من قبل فيتنام للتنقيب عن النفط والغاز في جزر بحر الصين الجنوبي الأقرب إليها هدفه الحيلولة دون حصول هانوي على مصدر دخل إضافي يعزز موقعها الاقتصادي الحالي والمستقبلي.
كما أن للموضوع شقاً استراتيجيا ذا صلة بالتنافس الهندي ــ الصيني. فنيودلهي دخلت قبل فترة وجيزة على الخط باتفاقها مع الحكومة الفيتنامية على إقامة محطة أرضية في هانوي لتتبع الأقمار الصناعية بكلفة تقديرية تصل إلى 23 مليار دولار. وهذه المحطة ستكون مشابهة لتلك التي تملكها “المنظمة الهندية لأبحاث الفضاء” المملوكة للدولة الهندية في جزيرتي أندامان ونيكوبار الهنديتين، وفي بروناي، وشرق إندونيسيا، وجزيرة موريشوس. وسوف توفر المحطة لهانوي تكنولوجيات متطورة للإستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وفرص الإطلاع على كافة الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية الهندية للصين ولبحر الصين الجنوبي، من تلك التي يمكن استخدامها لأغراض عسكرية. وعن هذا الموضوع تحدث “كولن كوه”، الخبير الأمني بكلية “راجاراتنام” السنغافورية للدراسات الدولية، فقال ما معناه أن التعاون الهندي ــ الفيتنامي له أهمية كبيرة على الصعيد العسكري لأنه يعود بالفائدة على الطرفين، فهو من جهة يملأ ثغرات مهمة للفيتناميين، ومن جهة أخرى يفتح آفاقا أمام الهنود في منطقة الهند الصينية.
ومما لاشك فيه أن لجوء هانوي للتعاون مع نيودلهي في هذا الحقل الحساس زاد من غضب بكين وحنقها على الفيتناميين.
وأخيرا فلا بد من المرور على الموقف الأمريكي حول ما يحدث في هذه المنطقة. فواشنطون تريد تأكيد نفوذها في المنطقة في مواجهة النفوذ الصيني المتعاظم، وذلك عبر مساندة دول آسيان صاحبة الحق في جزر بحر الصين الجنوبي وخصوصا الفلبين وفيتنام. وهي في هذا لئن دعت إلى ضرورة إجراء محادثات بين الصين ودول تكتل آسيان لتسوية كافة المشاكل، فإنها من المستبعد ألا تدعم موقف الطرف الأخير (خصوصا سياسات ومواقف عدوتها الفيتنامية السابقة) لاسيما في ظل ما يعتري العلاقات الامريكية ــ الصينية من توترات ومتاعب متصاعدة منذ فوز الرئيس دونالد ترامب بالرئاسة.
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
Elmadani@batelco.com.bh