ليس من اليسير أن يجزم المرء في أيّ القولَين أشدّ، أو أقلّ، طعناً في الصميم: عبارة “أشباه الرجال” التي أطلقها بشار الأسد في أعقاب حرب تموز 2006 الإسرائيلية ضدّ الشعب اللبناني عموماً و”حزب الله خاصة”، في وصف بعض الزعماء العرب من غير الممانعين وغير المقاومين؛ أو عبارة “عديمي العقل” التي اطلقها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في وصف الذاهبين إلى ملتقى أنابوليس (حيث ينبغي أن يشمل التوصيف الاسد نفسه، بافتراض أنّ المندوب السوري إلى الملتقى، نائب وزير الخارجية فيصل المقداد، يمثّل الرئاسة السوريةأايضاً، قبل تمثيل رئيسه المباشر وليد المعلّم). اليسير، في المقابل، هو ما نقلته وكالة الأنباء الإيرانية “إرنا”، من أنّ نجاد اتصل بالأسد عشية أنابوليس، وأنهما «اتفقا» على أن المؤتمر “تافه” أوّلاً، و«محكوم بالفشل» ثانياً.
السؤال البسيط، الذي ينتمي إلى طراز الأسئلة التي تصير مكرورة من فرط طرحها دون أن تفقد الكثير من مغزى إعادة طرحها في كلّ سانحة ذات صلة، هو التالي: لماذا شارك النظام السوري، إذاً، في مؤتمر “تافه” و”محكوم عليه بالفشل”، لا يحضره إلا “عديمو العقل” أو، وفي صيغة أخرى رسمية لعبارة أحمدي نجاد: “أدعياء لا يتمتعون بالذكاء السياسي”؟ الإجابة من طينة السؤال في ما يخصّ التكرار واستمرار المغزى: لأنّ هذا النظام لم يتوقف عن ممارسة الدجل والديماغوجيا في كلّ ما يتصل بعلاقته بالولايات المتحدة والدولة العبرية من جهة، وكلّ ما يتصل بأكذوبة الممانعة والمقاومة والصمود والتصدّي من جهة ثانية. وإذا كان رأس النظام قد تنصّل من حرج التعليق على مسخرة المشاركة في أنابوليس، واقتدى به وزير خارجية النظام، فإنّ المقداد امتشق كلّ ما تعلّمه من أحابيل دبلوماسية ـ لفظية ـ بهلوانية خلال سنوات عمله في الأمم المتحدة، لكي يقول التالي عن هذه المشاركة: «خطوة إضافية من جانب سورية، للمساهمة في صنع سلام عادل وشامل»… وكيف كان له أن يقول أكثر، أو أقلّ!
والحال أنّ أحمدي نجاد أصاب تماماً هذه المرّة، على ندرة ما يفعل عادة، حين استخدم صفة التفاهة في تشخيص ملتقى أنابوليس: تفاهة التحضيرات مثل تفاهة الإستعراض، وتفاهة الأدوار التي أنيطت بشهود الزور (أكثر من 45، يمثّلون دولاً مستقلة ومنظمات وهيئات دولية)، وصولاً إلى تفاهة ما توصّل إليه اللاعبان المدللان، الرئيس الفلسطيني ورئيس الوزراء الإسرائيلي. وفي ما يخصّ خطبة محمود عباس، لا يُعاب على المرء أن يتذكّر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، أياً كانت مثالبه الشخصية والسياسية والتفاوضية، وشتّان بين هذه الذرائعية الهلامية التي انتهجها عباس في أنابوليس، وذلك التمسّك الحرون بأبجديات الحقّ الفلسطيني التي لم يحد عنها “الختيار” حتى في أقصى مراحل الضغط الأمريكي والدولي والعربي.
وحين بلغت تفاصيل التسوية حافة الخطوط الحمراء ما قبل حقوق الشعب الفلسطيني الأساسية، خصوصاً القدس وحقّ العودة والإستيطان وحدود الدولة الفلسطينية، قال عرفات “لا” مدويّة ثابتة راسخة و… مدهشة، في الواقع، لأنها صدرت عن رجل مولع بـ “سلام الشجعان” دون سواه! ولقد استحقّ سخط واشنطن مذاك، ثم تكفّل المجتمع الإسرائيلي بانتخاب أرييل شارون لكي يذيق عرفات المزيد من ألوان الضغط والمهانة والعزل والحصار (وربما الاغتيال البطيء)، وفي غضون السيرورة بأسرها كان النظام العربي يُجْهز على ما قد يتبقى في نفس الرجل من علائم أمل ومظاهر صمود. قال “لا” حين كانت الـ “نعم” هي المنجاة والإجابة الوحيدة في آن، ولو أحنى الهامة فلعلّنا ما كنّا أبصرناه ميتاً محمولاً على نقّالة طبيّة فرنسية، وما كان سيلزم المقاطعة محاصَراً، والأرجح أنه كان سيواصل تجواله في عواصم العالم، على متن طائرة أفضل وأحدث، معززاً مكرّماً مدللاً أكثر بكثير من كلّ أقرانه الحكّام العرب، الذي مسحوا أرقام هاتفه في رام الله، راغبين أو مُكرهين!
وإذا كانت الأمور تفصح عن مخبوئها من مطالعها، وبالتالي لا يحتاج المرء إلى انتظار الخواتيم، فإنه ليس من الصواب اعتماد نسق التفكير الآلي الذي يقول إنّ الوقت مبكر للحكم بالفشل على نتائج ملتقى أنابوليس، لا لشيء إلا لأنّ فكرة النجاح أو الفشل لا تبدو وكأنها اقترنت بهذا الإجتماع في الأساس (إلا، بالطبع، إذا اعتبر البعض أن احتشاد ممثّلي 16 دولة عربية، فضلاً عن الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، للاستماع إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزيرة الخارجية تسيبي ليفني، هو في حدّ ذاته نجاح باهر). كان الحشد بصفته هذه ـ ومعه، وفي سياقاته، احتشاد رموز الصورة واللفظ ولغة الجسد، وكسر المزيد من محرّمات التطبيع ـ هو المطلوب أوّلاً في أنابوليس، وهذا ما تحقّق… دون كبير عناء في الواقع، ودون أخذ وردّ ممّا يترافق عادة مع لقاءات كهذه (باستثناء تمنّع النظام السوري الذي تبيّن سريعاً أنه إلى التمنّي أقرب!).
كذلك ليس من المبكّر، في الحال هذه، الحكم على لقاء أنابوليس بالتفاهة في مقاربة المسائل الكبرى التي تحكم المسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي (وهي التي استقرّت في المصطلح السائر تحت مسمّى “قضايا الوضع النهائي”)، سواء في جولة الإنطلاق الإبتدائية الإستعراضية هذه، أو في تباشير الجولات اللاحقة التي يلوح أنّ بعضها يولد ميتاً، وبعضها يسير كسيحاً، وبعضها الثالث في مكانه يراوح. وفي المقابل، على الصعيد الإسرائيلي، ليس من المبكر استشراف ما ستنجح الدولة العبرية في اقتطافه من نتائج لاحقة، متكئة على هذا التفويض الدولي الواسع الذي تغنّى به الرئيس الأمريكي جورج بوش مراراً في خطبته (ثمة مَن يتحدّث، منذ الآن، عن خطة إسرائيلية متفق عليها مع عباس، لإعادة اجتياح غزّة وتصفية “حماس” عسكرياً، تمهيداً لتطويقها سياسياً).
المقابل على الصعيد الأمريكي هو قرار تسمية الجنرال المتقاعد جيمس جونز، القائد الأعلى السابق لقوات الحلف الأطلسي في أوروبا، موفداً دائماً إلى الشرق الأوسط لمراقبة الشؤون الأمنية، كما يقول العنوان العريض لمهمته. أمّا جوهر المهمة فقد أوضحه شون ماكورماك، الناطق باسم وزارة الخارجية، حين أعلن أنّ الجنرال سوف يشرف شخصياً على أداء أجهزة الأمن الفلسطينية وحسن تفاعلها مع أجهزة الأمن المجاورة (بما في ذلك الأجهزة الإسرائيلية) في كلّ ما يخصّ مجابهة “المنظمات الإرهابية” ونزع السلاح غير المرخّص. ورغم وجود جنرال أمريكي آخر، كيث دايتون، يتولى مهامّ ضابط الإرتباط بين أجهزة الأمن الإسرائيلية والفلسطينية، فإنّ رايس لم تتحرّج من تناسي هذه الحقيقة أثناء تقريظ الجنرال الجديد: “أعتقد أننا بحاجة إلى قائد مجرّب يستطيع التعاطي مع التحديات الأمنية في المنطقة، بشكل شامل وعلى أعلى المستويات”… وكأنّ دايتون كان يؤدّي وظيفته في أخفض المستويات!
الجانب الثالث في تفاهة المقدّمات، وهو في الآن ذاته يصف تفاهة ما ستسفر عنه من نتائج، هو أنّ الأجندة المضمرة لملتقى أنابوليس، كما أشارت وتشير معطيات عديدة، تتضمن بنداً رديفاً، أو لعلّه أساسيّ، هو تقديم رشوة شكلانية ـ ولكنها صاخبة إستعراضية بهلوانية ـ للإعتدال العربي الذي تمثّله أنظمة التبعية والعجز والإستبداد. وبغية الراشي، الأمريكي، هي توفير التغطية الديماغوجية (وما أفضل من القضية الفلسطينية لاستيلاد الخطاب الديماغوجي!) لتجنيد زعماء العرب، أشباه الرجال وعديمي العقل سواء بسواء، في الصفوف الخلفية، قبيل اتخاذ أيّ قرار أمريكي بالتعاطي العسكري مع إيران. غير أنّ أية عملية عسكرية ضدّ إيران لن تُدفع أثمانها الأولى في أمكنة أخرى غير بغداد وبيروت وغزة، لكي لا يتحدّث المرء عن فتنة سنّية ـ شيعية هنا وهناك في مناطق الخليج العربي، الشرقية منها خصوصاً.
ومن هنا يمكن تأطير الإتصالات السعودية ـ الإيرانية على أعلى المستويات، بين الملك عبد الله بن عبد العزيز وأحمدي نجاد، التي جرت قبيل انعقاد أنابوليس، حيث بدا إصرار الرئيس الإيراني على إحراج زميله السعودي (في التصريح، علناً، بأنّ المملكة لا تنوي اتخاذ أيّ إجراء تطبيعي مع الدولة العبرية، ويهمّها إعلام إيران بهذا) بمثابة كشف استباقي لما قد تحمله الأيام القادمة من كيل أنظمة الاعتدال العربي بمكيال الولاء لأمريكا وصداقة إيران، في آن معاً. ذلك لأنّ الملفات التي صارت في عهدة إيران، أو تكاد، في العراق ولبنان وفلسطين، ليست مرشحة لنهايات قريبة تشهد إغلاقها كليّاً أو جزئياً، بل تشير المعطيات إلى أنّ أيّ إغلاق لأيّ منها لن يتمّ بمنأى عن عواقب وخيمة كارثية.
وفي هذا الصدد، بخصوص جانب رابع في تفاهة أنابوليس، هو مبدأ إشاعة الديمقراطية عن طريق التصدير أو الإيفاد فوق ظهر دبابة او قاذفة او حاملة طائرات، بدا خطاب الرئيس الأمريكي في استئناف الكليشيهات العتيقة المكرورة الجوفاء، وكأنه لا يكترث حتى بتبديد ضجر مستمعيه! أفضل ما أنتجته هذه الإدارة، بمعنى أنه الأكثر نفاقاً ورياء وزيفاً، كانت كوندوليزا رايس قد قدّمته قبل أكثر من سنتين، ضمن محاضرة شهيرة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. آنذاك مزجت رايس بين الفكر والفلسفة والسياسة والتبشير، وبين نقد الماضي والرجم بالغيب عن المستقبل، وبين الترهيب والتغريب سواء في ما يخصّ الحاكم العربي (والحلفاء في القاهرة والرياض تحديداً) أو ما يخصّ شعوب المنطقة إجمالاً.
وكانت بعض فقرات تلك المحاضرة قد انطوت على كلمات وعبارات من النوع الوردي الزاهي الباسم المشرق، الذي ردّد بوش الكثير من أصدائه في خطبته أمام حشد أنابوليس: «إنّ الخوف من الخيارات الحرّة لا يمكن أن يكون بعد الآن مبرراً لرفض الحرية»، أو: «هناك مَن يقولون إنّ الديمقراطية تقود إلى الفوضى والصراع والإرهاب، والحقيقة أنّ العكس هو الصحيح: إنّ الحرية والديمقراطية تشكلان الفكر الوحيد الذي يملك قوّة التغلّب على الكراهية والإنقسام والعنف». وإذا كانت رايس قد بدأت من الانتخابات الحرّة النزيهة (التي سرعان ما انقلبت الإدارة ضدّها في فلسطين!)، فإنها أبرزت “سلسلة حقوق أساسية لجميع المواطنين، بينها الحقّ في حرّية الكلام، والإجتماع، والعبادة كما يشاء المرء، وتعليم الأبناء، ذكوراً وإناثاً، والتحرّر من زوّار منتصف الليل التابعين للبوليس السرّي»!
وتبقى هذه الفقرة ذات المغزى الكبير: «طيلة 60 سنة بحثت بلادي، الولايات المتحدة، عن الإستقرار على حساب الديمقراطية في هذه المنطقة، هنا في الشرق الأوسط، ولم ننجز أيّاً منهما. الآن نحن نتخذ مساراً مختلفاً. نحن ندعم الطموحات الديمقراطية لكلّ الشعوب (…) ويمكن العثور على هؤلاء الوطنيين المتعطشين للحرّية في بغداد وبيروت، في الرياض ورام الله، في عمّان وطهران، وهنا في القاهرة تحديداً». رايس أغفلت، آنذاك، ذكر عاصمة بلد عربي لا يقلّ أبناؤه تعطشاً للحرّية عن مواطني العراق ولبنان والسعودية وفلسطين والأردن وإيران ومصر، العاصمة السورية دمشق، وبوش اليوم أغفل ذكر الجولان السوري المحتلّ، وكأنه ليس محتلاً، أو ربما ليس على خريطة التفاوض. ولماذا تفعل رايس، ويفعل بوش، إذا كان النظام السوري ينضوي، لاهثاً، في ركب المهرولين إلى أنابوليس… حتى من دون رشوة!
s.hadidi@libertysurf.fr
* كاتب سوري – باريس
حقاً الشعب السوري متعطّش إلخ…؟ نرى التظاهرات في اوكرانيا، وفي بورما، وفي شاطئ العاج، وفي روسيا بوتين، وفي باكستان مشرف، وفي لبنان المحتلّ ونصف المحتلّ/نصف المحرّر من سوريا، وفي فلسطينَتَي غزة والضفة، وفي مصر مبارك، وفي واشنطن أمام البيت الأبيض، وفي عراق المالكي ضد الأمريكيين، وفي تونس، وفي نيجيريا، وفي جورجيا، وفي تركيا، وفي جامعة طهران على مرأى ومسمع البهلوان الالهي، وفي اسرائيل، وفي الصالون الذي أخصصه لقططي الثلاث حيث تتظاهر بيرلا وماجنتا وسالا ضدي حين تقل نوعية المأكل او حين أهمل المرحاض أو حين ابالغ في السهرات مع الاصدقاء… لكني لم أرَ، ولم أسمع، ولا شبه مرة واحدة، خبر… قراءة المزيد ..