إتصل بي أخي. سألني: “ماذا كتبت عن اليمن؟” فحرت جواباً.
لم أكتب عن اليمن حتى الآن. لا لعدم رغبة، بل لإن الكلمات تأبى أن تطيعني. ألجأ إلى الكمبيوتر، اضع اصابعي على لوحة المفاتيح، ثم أنتظر. أصابعي تنظر إلي من خلف، تنتظر هي الأخرى، لكني أتجمد. فتكف هي عن التوقع، ثم تهمد. فأعود لأتابع الأخبار، أقرأ وأسمع وأشاهد.
رأسي حبلى بالأفكار، لكنها ترفض أن تلدها في كلمات. كأنها تغيضني.
مخاض. مخاض. مخاض.
و لست وحدي في هذا المخاض.
اليمن أيضا تعيش واقعاً قد يتمخض عن جديد.
شيء ما يتبدل، شيء ما يتغير، شيء ما ينبثق من ظلام دامس. لكني أخشى أن اصدق. أخاف أن أصدق كي لا تطعنني الخيبة من جديد. وانا تعبت من الخيبات. وتعبت اكثر من اليأس.
هل تريدون الحق؟ كنت قد فقدت الأمل. منذ زمن. فقدت الأمل في اليمن. قراري بالهجرة من اليمن كان مؤشراً على فقداني للأمل.
بحثت دوماً عن الوطن في اليمن، لكن وطني كان يخنقني بمرضه. لأن وطني مريض، مريض.
ولذا قلت لنفسي يوماً “كفى”، “كفى، مافائدة أن تحرثي في أرض بور. ستنهال عليك السكاكين، وسيكون عليك أن تقرري إما أن تكوني جزءا من النظام أو ضده”. فقررت أن أغادر ولا أعود. سافرت وأنا أدري أني لن اعود: “وداعاً ياوطن، وداعاً بلا رجعة.”
ولم أشعر يوماً أن قراري كان خاطئا. لم أشعر بالندم. لأني تمكنت من التنفس كما أريد، و أن أحيا بتعمد، أكون، ولا أساوم. أضع رأسي على الوسادة وأنام ملء أجفاني، مطمئنة الضمير. وفي الواقع إشتريت نفسي وراحة بالي بالرحيل. لأني لو كنت بقيت كنت سأكون جزءا من النظام، ولكي تكون جزءا من النظام عليك أن تكون فاسداً. أو على الأقل أن تكون فاسداً “إلى حدٍ ما”. وإلى “حدٍ ما” هذه كانت تقتلني. لا أحتملها. او كنت سأنقلب ضد النظام، وحينها كنت سأحيا والجمر وسادي. ولحمي كان حينها غضاً، لا يبحث عن العراك.
هذه الأيام بدأت أكتشف أن هناك طريقاً ثالثاً يمكن للإنسان أن يختاره. ليس أقل صعوبة من الخيار الثاني.
طريق إختاره شبابنا، طريق إختارته شاباتنا.
طريق “ان تبقى وتبحث عن وطنك في وطنك”.
طريق “أن تصر على إسترداد وطنك ممن إستلبه وحوله إلى إرث يستبد به”.
وطريق “أن لا تقبل بأنصاف الحلول”.
“سنكون” قالها لي أحد هؤلاء الشباب.
“سنكون”.
ولم افرح يوماً بكلمة مثل هذه الكلمة التي خرجت من رحم الأمل. فرح أغرق عيني بالدموع، لأنها لخصت برونق بديع ما يريده شباب وشابات اليمن.
شبابك ياوطن كف عن اليأس. شاباتك قررن أن يحلمن. يريدون وطناً يكون لهن وطناً. يريدون أن يكونوا، أن يكن.
فأخجلونا نحن من بدأ الشيب يتسلل إلى قلوبنا. اخجلونا نحن من ركنا إلى التحسر. أخجلونا نحن من وجد الأمل مذبوحاً في صدره.
*
اليمن ليست تونس ولا مصر.
الكثيرون يرددون هذه العبارة، وأنا لن أجادل فيها. فهي موضوعياً صحيحة.
اليمن كدولة لا زالت في حالة “تجربة”، وهي إلى يومنا هذا “لم تتبلور بعد”. ليس لديها تاريخ في الحكم المركزي، ومنقسمة مناطقياً وطائفيا. وتحكمها اقلية قبلية عشائرية.
ولذلك فإن المطالبة بإسقاط النظام قد تتمخض عن عدة سيناريوهات محتملة. أولها إنقسام اليمن، ثانيها حرب أهلية، وثالثها “أو”.
إنقسام اليمن وارد. لأنه إذا كان مطلب إسقاط النظام قادر أن يوحد القوى المعارضة على المدى القصير، فإن اهداف هذه القوى من إسقاط النظام قد تختلف. وبعض هذه القوى قد لا يرضى بأقل من الإنفصال.
والحرب الأهلية واردة هي الأخرى، لإن اليمن مدجج بالسلاح حتى العنق، والدولة طابعها قبلي، وإلإنقسام القائم بين صفوف الأقلية الحاكمة كلها عوامل يسهل أن تشعل فتيل أزمة سرعان ما تتفجر إلى حرب أهلية.
السيناريو الثالث هو “أو”.
و”أو” هذه يؤمن بها شبابنا وشاباتنا.
“أو ننسى إنقسامنا، ونقرر أن نبني وطناً موحداً، يحمى أبناءه وبناته، يكون لهم ولهن وطناً. ونؤسس لدولة، دولة مدنية ديمقراطية عادلة، تخلو من الفساد، تقوم على مفاهيم المواطنة وتحترم حقوق الإنسان. دولة مؤسسات يقف فيها الجميع متساويين أمام القانون.”
“أو” هذه هي سيناريو “الحلم”.
شبابنا يحلم. شاباتنا يحلمن.
يؤمنون ويؤمنَّ بهذا الحلم.
ويريدون أن يبعثوه حياً في الوطن.
وأن تحلم يعني أن تصمم على الحياة.
غيري كثيرون سيسخرون من سيناريو الحلم هذه.
من “أو”.
ولعلهم على حق!
لكني تعبت من اليأس كما قلت لكم. وأريد أنا ألأخرى أن أحلم. أحلم بوطني من جديد.
ولذا سأضع مخاوفي جانباً، واسكت عقلي قليلاً، وأقف مع شباب وشابات اليمن، احلم مع المستقبل، ولن أقول أكثر من جملتين: “صباح الخير يايمن، صباح الخير ياوطن”.
صباح الخير يا يمن، صباح الخير يا وطن!
شكرا استاذه لقد اكيتيني بموضوعك الجميل ..لكن التخوفات التي رددتيها نسمعها كثيراً من المتخاذلين الذين لايريدون الاسهام …لكن العجلة قد دارت ولن ترجع للخلف فلو لاحظتي النسيج الذي تكون يوم في صلاة الجمعه في ساحة التغيير لبكيتي فعلا فكل فئات المجتمع شاركت وبقناعه تامة فما اجمل التنوع …لكن النظام قبل رحيله يريد ان يشوه كل الاشياء الجميلة