وصلتني قبل رحيله الفعلي بأسبوعين رسالة تقول إن صادق جلال العظم دخل مرحلة اللاعودة، ورحيله متوقع في كل لحظة. وفي اليوم نفسه أصدرت عائلته بياناً تقول فيه إن عمليته الجراحية فشلت “واقترب موعد وداعه لنا”. وكتبتُ، في حينها، عن غيابه، وكيف تكاد حقبة كاملة، من تاريخ حداثة وتحديث العقل العربي، تختفي الآن.
وفاجأني، يوم أمس (الاثنين)، خبر يقول: أوصى العظم أن تُتلى قصيدة محمود درويش “لاعب النرد” في مجلس عزائه. ولرغبة أخيرة كهذه دلالة مثلثة الأبعاد. فهي رسالة العلماني الشجاع الأخيرة، ووسيلته لقول شيء ما عمّا في الشعر من مضامين روحية عميقة. وفيها، ثانياً، ما أراد التصريح به عن علاقة شخصية بفلسطين. وهي، ثالثاً، محاولة لتقديم كشف حساب من نوع ما عن حياة امتلأت بالحياة.
في صيف هذا العام، وعلى هامش حديث سريع، وسط طابور طويل من المنتظرين لملء أطباقهم بالأكل، في صالة برلينية غصت بالحاضرين، وصدحت فيها مقامات حلبية، قلتُ: كانت سبعينيات القرن الماضي غنية بالفكر والتفكير، وذكرت “الآداب”، و”دراسات عربية”، و”شؤون فلسطينية”، فقاطعني العظم، كمن يريد لخاطرة مُفاجئة ألا تفلت منه: أنا كنت مع محمود في الشؤون.
أدهشتني كيفية نطقه لعبارة عابرة بقدر واضح من العاطفة. فالمسألة لم تكن محاولة لتقرير حقيقة من نوع ما، بل اختزال زمن مضى في عبارة أسهمت في تكوينها حروف الأبجدية، وملامح الوجه، ونبرة الصوت، وخفقات القلب على طرف اللسان.
وفي المسألة، أيضاً، ما هو أبعد من محمود والشؤون. فيها نوستالجيا ذلك الجيل من المثقفين السوريين (والعرب) الذين أصابتهم الهزيمة الحزيرانية في مقتل، فحفروا بما في أيديهم من أدوات: في المجتمع، والدين، والثقافة، والسياسة، عن أسباب الهزيمة، وسُبل الخروج منها وعليها. وانخرطوا في المشروع الراديكالي، الذي عبّرت عنه حركات الفدائيين الفلسطينية بعد الهزيمة. منهم من حمل السلاح، والتحق بالقواعد، ومنهم من التحق بالمراكز الإعلامية، والمؤسسات الثقافية لمنظمة التحرير والفصائل، وكانوا في حالات كثيرة من المؤسسين.
وفي سياق كهذا، أطل صادق جلال العظم بكتابه “النقد الذاتي بعد الهزيمة” (قال عنه غسان كنفاني إنه يضع الإصبع على الجرح) في محاولة لتقصي أسباب ومعنى الهزيمة. وقد رسم صورة جانبية لشخصية أسماها “الفهلوي” بوصفها موطن الخلل في السياسة، والثقافة، والمجتمع، والاقتصاد. وأعاد الكرّة في كتاب “نقد الفكر الديني”، الذي أثار موجة من الاحتجاج، أدت إلى فترة قصيرة في السجن، وعاصفة في الفضاء السياسي والثقافي العام، تبدو لعب أطفال إذا ما قورنت بما يمكن أن يحدث اليوم لشخص يُغامر بمعالجة أمر كهذا.
وإذا كان ثمّة ما يبرر اختزال المشروع الفكري لصادق جلال العظم على مدار ما تبقى له من أيام على هذه الأرض، بعد “النقد الذاتي” و”نقد الفكر الديني”، فيمكن القول إن كل ما تناوله لاحقاً يمثل استطراداً طويلاً، في سياق محاولة لتطوير معنى وضرورة النقد والنقد الذاتي، وبلورة لمرافعات أكثر كفاءة واستجابة لكل ما استجد، دون التقليل، بطبيعة الحال، من إسهامات في الحب العذري والفلسفة الغربية.
فإذا وضعنا محاضراته، والتزاماته التعليمية والأكاديمية جانباً، سنجد أن الهم النقدي السجالي، كان المحرّض الرئيس سواء في معالجة ما أثارته “آيات شيطانية” لسلمان رشدي من ردود فعل، أو ما تراكم على هامش “الاستشراق” لإدوارد سعيد من سجال. وفي كل الأحوال انخرط العظم حتى يومه الأخير في التعليق على الجاري من الأحداث، ولم تتبدل قناعاته، وهمومه الفكرية، ورغبته الدفينة في تجاوز الهزيمة، ولنقل روحه الثورية، أيضاً، على مدار عقود.
ولعل في هذا ما يعيدنا إلى معنى العلاقة الشخصية، تماماً، بفلسطين. فالأنا الشامية المجروحة بمشرط الهزيمة الحزيرانية، والمسكونة بهاجس الخروج من نفق الهزيمة، كانت ترى في فلسطين بوصلة تحمى حلم الثوري بعالم أفضل من ضياع الطريق.
ولكن العمر امتد، والخيبات تكاثرت، حتى اشتعلت النار في سورية نفسها. وكان في وسعه أن يرى على شاشة التلفزيون، وفي شوارع برلين، منفاه الأخير، كيف تحوّل ملايين السوريين إلى لاجئين، وكيف قضى مئات الآلاف منهم تحت الأنقاض، وفي أعماق البحر، أو على دروب المنفى القريبة والبعيدة. وكيف أجهز الجهاديون وآل الأسد على كل ما في سورية من سورية. انحاز العظم إلى ثورة السوريين، وكعادته لم يُسقط من يده مبضع النقد والنقد الذاتي.
وعلى خلفية هذا كله نفهم تلك العبارة التي أسهمت في تكوينها حروف الأبجدية، وملامح الوجه، ونبرة الصوت، وخفقات القلب على طرف اللسان. ففلسطين الأولى والأصلية تكاثرت، هناك فلسطينات كثيرة، وهزائم حزيرانية أكثر في بلاد الشام، والعالم العربي هذه الأيام. ولكن ليس لنا أكثر من حياة واحدة. والهزائم شخصية تماماً، ودائماً.
وبهذا يتجلى البعد الثالث في وقفة العلماني الشجاع، على خلفية كل ذلك الخراب المقيم: كشف الحساب. ففي “لاعب النرد” ما يمكّن صاحب حياة امتلأت بالحياة من التماهي مع كلام صاحبه الشامي ابن البروة: “في الساحة المنشدون يشدون أوتار آلاتهم لنشيد الوداع/على مهلك اختصريني لئلا يطول النشيد/فينقطع النبرُ بين المطالع/ وهي ثنائية/والختام الأحادي: تحيا الحياة”.
khaderhas1@hotmail.com