توقف الكثيرون في مارس الماضي أمام مقال كتبه رئيس الحكومة الصينية “وين جياباو” في صحيفة الشعب المحلية و قال فيه أن الديمقراطية لا تتعارض مع نظام البلاد الاشتراكي. ثم توقفوا أكثر أمام إجاباته و توضيحاته في مؤتمر صحفي عقده لاحقا و قال فيه ” تسألون عما تعنيه الديمقراطية الاشتراكية ، و إجابتي أن الديمقراطية الاشتراكية في التحليل النهائي ما هي إلا تمكين الشعب من حكم نفسه بنفسه، و هذا بدوره يعني الحاجة إلى ضمان حق الشعب في انتخابات ديمقراطية تؤدي إلى ظهور صانعي قرار ديمقراطيين و إدارة ديمقراطية .. انه يعني الحاجة إلى خلق ظروف و شروط يستطيع من خلالها الشعب مراقبة و انتقاد الحكومة بحرية”. غير أن الزعيم الصيني استدرك قائلا ” بالنسبة لبلد كبير و معقد التركيب كالصين، فانه من الأفضل أن تأتي الديمقراطية في صورة خطوات متدرجة، و متوازية مع تحقيق العدالة الاجتماعية و الاقتصادية لجماهير الشعب”.
هذه التصريحات المثيرة و غير المسبوقة لأحد صناع القرار الكبار في بلد تعتبر فيه مفردة “الديمقراطية” من التابوهات و المحرمات، معطوفة على امتداح رئيس الدولة “هو جينتاو” مؤخرا لديمقراطية هونغ كونغ، وسماح السلطات في الشهر الماضي لاثنين من كبار النشطاء السياسيين ممن ارتبط اسميهما بحادثة ساحة “تيان إن مين” الشهيرة بزيارة البر الصيني والتجول فيه بحرية و التحدث إلى الصحافة بصراحة، دفعت مراقبين كثر إلى الجزم بأن هناك شيئا ما يجري خلف الكواليس لجهة الشروع في إصلاحات سياسية تواكب ما حققته البلاد من صعود اقتصادي وتنموي مذهل.
و تزامنت هذه التطورات مع حلول ذكرى حدثين بارزين في تاريخ الصين المعاصر. ففي الشهر الماضي حلت الذكرى الخمسين للحملة التي قام بها نظام “ماو تسي تونغ” لإرهاب خصومه وتمتين قبضته المطلقة على السلطة، و هي الحملة التي طورد و حورب فيها أكثر من 550 ألف مثقف صيني بدعوى معاداتهم للثورة و تبنيهم لأفكار يمينية في الفترة ما بين عامي 1957 و 1976 . وفي الشهر الماضي أيضا حلت الذكرى الثامنة عشرة لوفاة الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي الحاكم “هو ياوبانغ”، الذي كان قد الهم آلاف الطلبة بأفكاره الإصلاحية و جعلهم يتحولون لاحقا إلى وقود لحركة المطالبة بالديمقراطية التي انتهت بمجزرة ساحة “تيان إن مين” في الرابع من يونيو 1989 . و المعلوم أن “هو ياوبانغ” هو الذي أنهى رسميا حملة المعلم ماو القمعية بعد عامين من وفاة الأخير في سنة 1976، و أعاد الاعتبار إلى المتضررين، لكن الكثيرين من هؤلاء كانوا وقتذاك قد ماتوا. أما الأحياء فقد فضل البعض منهم أن يعيش في الظل يائسا، فيما شق البعض الآخر طريقه في أجهزة الدولة و الحزب ليصل لاحقا إلى مواقع قيادية مهمة على نحو ما حدث مع رئيس الحكومة السابق ” زو رونغجي”.
غير أن هناك من المراقبين من لا يرى في هذه التطوارات شيئا يمكن أن يعتد به أو يؤسس لنهج جديد. فالثناء الذي خص به رئيس الدولة النظام الديمقراطي في هونغ كونغ، في نظر هؤلاء، يجب ألا يعطى اكبر من حجمه لأن بكين ملزمة بالحفاظ على ذلك النظام بموجب الاتفاقية الصينية-البريطانية لعام 1997 حول إعادة الجزيرة إلى السيادة الصينية، و إلا لكانت غيرته. و أما حديث رئيس الحكومة، وقرار السماح لعودة اثنين من المنشقين، و ما نشرته الصحافة المملوكة للدولة مؤخرا من مقالات حول الإصلاح الديمقراطي، فليست عند هؤلاء المراقبين سوى محاولات تستهدف تحقيق غرضين. الأول هو تلميع صورة النظام الحاكم قبيل دورة الألعاب الاولمبية التي ستستضيفها بكين في صيف العام القادم، و إظهار البلاد كما لو أنها مقبلة على خطوات إصلاحية كبيرة للحيلولة دون قيام وسائل الإعلام الاجنبية التي ستغطي الحدث بتوجيه انتقادات قاسية للسلطات. أما الغرض الثاني فيحتمل أن يكون تقوية نفوذ وشعبية الرئيس “هو جينتاو” قبيل المؤتمر العام السابع عشر للحزب الشيوعي المقرر انعقاده في خريف العام الجاري.
وفيما يتعلق بهذا المؤتمر الذي بات ينعقد كل خمس سنوات منذ عام 1977 وجرت العادة أن يكون مقدمة لإحداث تغييرات في القيادات العليا و الوسطى و إجراء تعديلات في السياسات الداخلية والخارجية، فان هناك اتفاق كامل في أوساط المراقبين بأنه سيشهد جملة من التطورات. فعلى حين سيبقى زعيم الحزب و الدولة و رئيس الحكومة في مناصبهما حتى المؤتمر الثامن عشر في عام 2012 ، فان قيادات الحزب المتقدمة في العمر ستستبدل بعناصر أكثر شبابا و حيوية من الجيل الخامس، أي من الذين ولدوا في خمسينات القرن الماضي و كانوا صغار أثناء التحولات العاصفة التي شهدتها البلاد في ظل حكم ماو، و بالتالي تميزوا عن أبناء الجيل الرابع في أفكارهم وتطلعاتهم و ثقافتهم وخلفياتهم الإدارية و اتصالهم بالخارج و نظرتهم إلى العالم المحيط. و في هذا السياق يتوقع رحيل 60 بالمئة من أعضاء اللجنة المركزية الحالية للحزب و حوالي نصف أعضاء المكتب السياسي، كما يتوقع على نطاق واسع أن تجرى عملية انتخاب أعضاء المؤتمر السابع عشر بطريقة أكثر ديمقراطية وتنافسية، بحيث يتم انتخاب الأعضاء ال 2200 من ضمن قوائم تحتوي على أسماء كثيرة و ليس مجرد انتخاب الأسماء المراد توصيلها إلى المؤتمر كما جرت العادة. و كان الرئيس “هو جينتاو” قد صرح في إحدى جولاته الداخلية الأخيرة أن هذه الانتخابات سوف تجري وفق معايير جديدة و ستكون أفضلية الترشيح فيها للرسميين الذين امضوا مدد خدمة طويلة في الأرياف والمناطق النائية، و الذين حققوا سمعة جيدة من خلال إنجازات فعلية و ليس وهمية، و الذين اجتهدوا في سبيل وضع قواعد التنمية طويلة الأجل.
بقي أن نقول أن هذه التغييرات المتوقعة قد بدأت فعلا في أواخر العام الماضي مع تعيين قادة شباب أكفاء على راس فروع الحزب الحاكم في الأقاليم، و تواصلت مؤخرا مع إزاحة الدبلوماسي المخضرم “لي تشاو- 67 عاما” من منصبه كوزير للخارجية لصالح دبلوماسي شاب (بالمقاييس الصينية) هو ” “يانغ جيتشي – 57 عاما” الذي عمل سفيرا للصين في واشنطون ما بين عامي 2001 و 2005 قبل أن يعين كنائب لوزير الخارجية المقال، و تعيين وزراء جدد في العقد الخامس من العمر للعلوم و التكنولوجيا، و الأراضي و الموارد الطبيعية ، و المصادر المائية.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية