(الزعيم أحمد بك الأسعد يصافح الرئيس فؤاد شهاب الذي تأسّست في عهده “المدارس الكبرى” لصالح المناطق الشيعية بالدرجة الأولى)
*
هناك انكار مجحف لفضل “لبنان الكبير” على الشيعة، هذا الكيان الذي اعطاهم ما لم يحصلوا عليه خلال ٥٠٠ عام من الحكم العثماني و٢٥٠ عام من الحكم المملوكي.
دخل شيعة جبل عامل والبقاع الكيان اللبناني عام ١٩٢٠ وهم في فقر مدقع وأمية شبه كاملة ورهاب جماعي من الدماء والمجازر. فسلاطين المسلمين منذ ايام المماليك اعتبروا الشيعة خارجين عن الدين وفتكوا بهم بلا رحمة. مذابح الشيعة عبر العصور لا تعد ولا تحصى وامتدت الى كل انحاء الشرق من جبيل وكسروان الى طرابلس وحلب الى البصرة والنجف وغيرها. ومذبحة جبل عامل الرهيبة ايام العثمانيين عام ١٧٨١ سبقت مذابح المسيحيين المرعبة في جبل لبنان عام ١٨٦٠ بأقل من قرن. وكل هذا محفور في ذاكرتهم الجماعية.
دخول الشيعة لبنان الكبير شكّل الى حد كبير انعتاقاً من الظلم. الانتداب الفرنسي تبنى سياسة تقوية الاقليات منذ يومه الاول لكسر شوكة الاكثرية السنية في لبنان وسوريا. واستفاد الشيعة من هذه السياسة، فدخلوا نادي الطوائف في لبنان وسُمح لهم بانشاء محكمة جعفرية رسمية لاول مرة في تاريخهم. وساهمت المدارس الابتدائية الرسمية الناشئة بمحو الامية لدى اجيالهم الطالعة. ووصلت مشاريع “الانفراستراكتشر” الى مناطقهم في الجنوب والبقاع. وفتحت الهجرة الى المستعمرات الفرنسية في افريقيا الغربية ابواب الثروة للكثير منهم. كل ذلك بفضل الانتداب الفرنسي.
وفي عهد الاستقلال تواصل الانماء ولو بشكل غير متوازن. ولكنه كان موجوداً وامّن فرصاً اقتصادية للكثيرين: من مصفاة النفط في الزهراني الى مشروع ري القاسمية (الذي سمح بتمدد بساتين الحمضيات على كامل الساحل الجنوبي) الى بحيرة القرعون وصولاً الى محطة توليد الكهرباء على نهر الاولي وغيرها.
وللتاريخ فان جميع هذه المشاريع الانمائية كانت، يا للهول، بتمويل من الولايات المتحدة الاميركية.
اما في بيروت، فترقّى الشيعة من ماسحي احذية وعمال مياومين وعتالين في المرفأ واسواق بيروت، الى مهنيين واصحاب مصالح في اقل من جيل. وساهمت الجمعية الخيرية العاملية في رفع مستوى التعليم عندهم من الابتدائي الى الثانوي، أسوة بما كانت قد انجزته جمعية المقاصد الخيرية عند السنّة.
ثم جاء تأسيس الجامعة اللبنانية ايام الرئيس فؤاد شهاب ليقلص اكثر الفجوة التعليمية بينهم وبين سائر اللبنانيين. فتخرج افواج من الطلاب الشيعة منها وحصلوا على شهادات عليا اهّلتهم لتبوء وظائف وايت كولار لم تكن متاحة لهم سابقاً.
ولعب الشيعة بعد الاستقلال دور بيضة القبان في الصراعات السياسية بين المسيحيين والسنة والدروز بصورة سلسة ومسالمة، الامر الذي حبب الجميع بهم. وكرّست وسائل الاعلام التي كان يملكها صحافيون شيعة، ولاسيما جريدة “الحياة” التي كانت الجريدة اللبنانية الاوسع انتشاراً يومها- كرّست موقعهم كحماة للكيان.
ولكن بالرغم من كل هذا لم يصل الشيعة قبل الحرب الاهلية الى مستوى الانماء والثروة التى كان وصل اليها ابناء الطوائف الاخرى. لماذا؟ ربما لأنهم بكل بساطة بدأوا مشوار الترقي من تحت الصفر بعكس الاخرين. وهذا ما ابقي شعورهم بالغبن قائماً بسبب عدم تمكنهم من اللحاق بركب شركائهم في الوطن. ويشار الى انه لما ظهر الامام موسى الصدر على المسرح السياسي في ستينيات القرن الماضي لم يستخدم كلمات قاسية للتعبير عن هذا الغبن. اختار كلمة “حرمان” وهي كلمة لطيفة وعاطفية في آن، كمن يريد العتاب وليس القتال. لم يكن وضع الشيعة كارثياً كما يدعي البعض اليوم. لذلك لم يطالب الصدر باعادة النظر جذرياً بالكيان كما كان يطالب به يومها زعماء آخرون ككمال جنبلاط ورشيد كرامي ومعروف سعد، ولم يدع الى الالتحاق بالتيار الذي اطلقه الرئيس جمال عبد الناصر وورثته جبهات الرفض والصمود والتصدي والبعث والممانعة لاحقاً، ولم يتبن الكفاح المسلح الذي مشى فيه الفلسطينيون. بقيت حركة الامام الصدر والتى سماها حركة المحرومين حركة مطلبية. ولم تتحول الى غول الا بعد اختفائه واستشهاده، وتحديداً لانها التحقت بالتيارات الراديكالية المذكورة اعلاه. وهذا الالتحاق منع الهواء عن اعداد كبير من الشيعة المعتدلين ولا يزال. ثم جاء الفكر الخميني ليغلق كل الطاقات.
اذا كان من بين الشيعة اليوم من هم من اغنى اغنياء لبنان، او من افضل مثقفيه واعلامييه وفنانينه، فهو بسبب دخولهم لبنان الكبير، وليس العكس. دخول الشيعة لبنان الكبير فتح امامهم ابواب العلم والتقدم، واعطاهم فرصة الهجرة الى افريقيا الغربية، بتشجيع او غض نظر -لا فرق- من فرنسا الدولة المستعمرة هناك آنذاك. ويكاد قضاء الزهراني/ صور اليوم بفضل المغتربين الشيعة ان يكون أغنى من قضاء المتن، جوهرة الاقتصاد في لبنان. والآن فلنفترض العكس: ماذا لو بقي الشيعة جزءاً من سورية او فلسطين كما كانوا تاريخياً؟ أما كانت حالهم اليوم كحال السوريين والفلسطينيين الرازحين تحت البؤس والعوز والظلم والتهجير؟
واخيرا، فان المبالغة بموضوع الحرمان والادعاء بانه هناك “مؤامرة لرد الشيعة ماسحي احذية”، ما هو الا جحود ونكران للجميل ونسيان للاحتضان الوطني الذي نعم به شيعة لبنان بعد ١٩٢٠. تخويف الشيعة من هذا المآل هو للتعمية. انه كلام مخزي هدفه التغطية على خوف آخر… الخوف من الثأر- ثأر الشعوب بسبب انخراط قياداتهم الحالية في حروب سوريا والعراق واليمن… وامعانهم في القهر بلبنان.
كريم مروة ….. ١٧-٨-٢٠٢٣
(نقلاً عن صفحة الدكتور محمد علي مقلد على الفايس بوك)
*كريم مروة (1930 – ) سياسي وكاتب ومؤلف لبناني، يساري العقيدة ومن أركان الحزب الشيوعي اللبناني سابقا.
مقال معرفي من الدرجة العالية جدًا.. احسنت يا كريم مروة