مؤكد أنها الآن تتذكر حفيدها وهو يجرب خطواته في سنته الأولى..
أو ربما تتذكر البيت والأم في آخر أيامها تجلس حول البحرة، واسم الأب منقوش على لوحة نحاسية صغيرة وبسيطة على يسار باب الدار. يهبط القلب باحترام حين قراءة من هو.
حارتنا واحدة وضيقة ونعرف بعضنا، ونحس ببعضنا. أعرف أنها تفكر بأشياء كثيرة غير سجنها البائس.
تكاد صورة فداء الحوراني لا تغادر مخيلتي، مرة أتصورها جالسة في زنزانتها. ومرة أمام المحقق، ومرة تهرول بين دهاليز فرع الأمن المحتجزة فيه، وإلى متى، الله أعلم.. ثم سرعان ما تتلاشى هذه الصور الغريبة، وتأتي صورتها حاملة الماء لتسقي أحواض حديقة بيتها في الصباح الباكر، كما اعتادت أن تفعل. قالت في رسالتها الأخيرة وقبل أن تنشغل بالمؤتمر وتفاصيله، إنها تحاول معالجة نباتات الحديقة وأزهارها، لكنها لا تستجيب لها وأضافت خاتمة رسالتها: أشعر أن كل شيء يتغير، حتى فصول السنة أشعر أنها غيّرت عاداتها.
فتشت بكل ما بوسعي عن كلام يصلح ويثمر، يساعد بشكل ما الأصدقاء المعتقلين جميعاً، فدائيي الديموقراطية، لم أجد.
سمعتهم وقد بحّت أصوات العديد من هؤلاء الجادين الجيدين في الدفاع عن أنفسهم: نحن لا يمكن أن نكون عملاء للأجنبي، وكادوا أن يقسموا بقلوب مؤمنة بأنهم لم يلتقوا الأمريكان وبأن الوطن هو الأعلى، وبأنهم..
كنت أكتب هذه الكلمات، حين ظهرت صورة الرئيس في تلفزيون الجزيرة، يحاول جاهداً إقناع زائرَيه الأمريكيين بمواقف السلطة السورية، فيما وجها الضيفين يستمعان ببرود وقلة اكتراث.
وقرأت في الشريط الإخباري، بأن الرئيس في ختام اللقاء وعد الزائرين المبجلَين من الأمريكان بأنه سيفرج عن معتقلي إعلان دمشق.
ها.. إذن يوجد حلول لجعل السلطة تتكلم وتكترث بمعتقليها، يوجد حلول لجعلها تتذكر بأنها وضعت في السجن أحسن مواطنيها!.
أمر يدعو للسخرية حقاً، السخرية من أنفسنا أولاً، قبل أن نسخر من كل أجواء السياسة التي يدّعى أنها تجري في بلادنا.
حدثُ معتقلي إعلان دمشق مازال طازجاً، أما حدثُ معتقلي بيان بيروت دمشق، ومن قبله حدث معتقلي ربيع دمشق، ومابين المناسبتين اعتقالات لأسباب عديدة، كله أصبح نسياً منسياً ونحمد الرب أن الأصدقاء الطيبين لم يحكموا بالإعدام.
التّهم جميعاً تصب في العمالة والمتعاملين، مع أن هذا العدو / أمريكا، الذي ترمى بسببه أحسن الناس في السجون، بتهمة العمالة له، وهذا العدو الذي يتربص بنا برأي السلطة السورية، يبدو أنه مهم للغاية من خلال الكاميرا البريئة، وقد كاد أن ينشف الريق قبل أن يتفضل الزائران القادمان من أمريكا ليباركا أرض البلاد.
حين يتبادل الناس بيانات التنديد لحدث معين، اعتقال، احتجاز، منع سفر، تسريح من العمل، منع تجمعات، تضييقات، استدعاءات.. إلخ. يفكرون بأن الفسحة الوحيدة للتعبير عن رفضهم لقرارات السلطة وممارساتها، هي صياغة هذه البيانات وتبادلها فيما بينهم ليقرؤوها ويوقعوها، آملين أن تصغي السلطة مرة وتبادر إلى التخفيف من قمعها لهذا الشعب. ولكن لم يحدث على حد علمي، أن بادرت الجهة المعنية/ السلطة، بالرد عليهم، حين يناشدونها الإفراج عن معتقلين أو إصلاح أوضاع البلاد، لدرجة يُظن أنه لا يوجد من يقرأ أو يتابع أي أمر يخص هذا الشعب. قد يحدث أن توكل السلطة متحدثاً عنها من فصيحي اللسان من أهل الثقافة سيئي السمعة عادة، ليلمّح ويمهّد بنوع التهم التي ينوون إلصاقها بالمعتقل الجديد.
وظيفة السلطة هي إصدار القرارات اللازمة لتربية هذا الشعب، قليل التربية والحياء، ذلك لأنه يحدث أن يفلت بعض أفراده.
نعم إن للغة تأثيراً غير قليل، فباللغة نغتني ونفقر، باللغة نهنأ ونحزن.
أفهم حين توصي أم ابنتها أن لا يتفوه فمها أمام زوجها إلا بالكلام الزين، وأفهم حين يعظ أب ابنه أن يكون كلامه موزونا في مجلس الضيوف. ولكن حتى الآن لم أفهم معنى ولا مغزى لخطاب من يعمل في حقل السياسة والثقافة في بلدنا سوريا، طبعاً أقصد من يناضل بصبر وجلَد مستخدماً بدون كلل ولا ملل خطاباً مهذباً تكاد كلماته من شدة تهذيبها وتكرارها أن تتفرغ من المعنى
(إننا نستنكر، إننا ندين، إننا نطالب إننا نشير، إننا نأسف إننا نهيب ، إننا نناشد ..
كلام موجه بشكل ما إلى السلطة التي لم ولن تسمع، لم ولن ترى، لم ولن تتكلم، أقصد لن تحاور أحداً منهم، لأنها تفعل ما يحلو لها.
دعونا نعترف بأننا جميعاً، نحن شعب سوريا لسنا بعين السلطة وقناعتها، إلا… وحين يحدث أن يخرج خروف عن السرب، فالأمر والحكم أن يحبس.
بنظرها، نحن شعب لا يفهم ظروفه الداخلية وظروفه الخارجية، نحن شعب جاحد لأننا لا نقدر ظروف السلطة وزنقتها، كونها لا تريد أن تتزحزح عن مقعدها.
أعرف أن الإنسان حين تزكم أنفه رائحة كريهة يتأفف، وإذا زادت يصيح وإذا زادت أكثر يستغيث لأنه يعرف أنه بعدها سيختنق وربما يموت. ما شكل هذه الرائحة التي نتنفسها نحن من دون أن نتأفف أو نصيح أو نستغيث، مع أن هذه الرائحة قتلت العديد وتكاد أن تخنق الجميع. وإن حدث واستغاث أحد فإن كلمات الاستغاثة لا تتعدى المطالبة الخجولة التي تبدأ أولا بشرح النوايا السليمة، وبالتمهيد المطول بأن الصوت المعارض لا يبغي مناصب أو زحزحة أحد عن كرسيه، إنه فقط يرجو بعض الهواء لأهل بلده لأنهم ضاقوا وتعبوا وصاروا على شفا الموت.
لغة قول: لا، الجميلة هذه، أتقنتها شعوب الأرض في التاريخ الحديث، واستخدمتها في خطاباتها مع بعضها، عبرها تُحل المشاكل والخلافات وعبرها تُفضح الممارسات المسيئة. فحين ينشر في جريدة في بلد ما تلميح ولو من بعيد لأمر يخص مؤسسة، يسارع المسؤول المعني للرد والتوضيح، يسارع خائفاً من اتهام الشعب، يفسر كمن يدفع عن نفسه ومؤسسته تهمة، ولا تفتأ وسائل الإعلام المكرّسة للشعب تبقي المسؤول على كرسي الاتهام حتى تثبت براءته.
إلا في بلادنا، يحدث العكس تماماً، فإنه ورغم السلطة المذنبة ورغم أن الأدلة على ذنوبها دامغة وتقلع العين، إلا أن وسائل الإعلام العربية لا تفتأ تدافع عنها وتدعمها وتضع الشعب، كل الشعب في موضع الاتهام.
أغمضنا عيوننا، لأن العين لا تقاوم المخرز، ورحنا ندفع التهم التي توجه إلينا من قبل المتحدثين باسم السلطة الحاكمة. ثم، ورغم كل هذا الظلم والظلام، لا أدري بقدرة قادر، نحن الشعب المرهق قمعاً وظلماً، قمنا باستيراد لغة حوار، تستخدمها عادة أرقى الشعوب مع أرقى الحكام، الشعوب التي لديها عيون تبحلق ولايوجد مخارز تهددها، الشعوب المتخمة حرية ورفاهية. قمنا باستيراد لغتها واستخدمناها، ظانين أن لغة الثقافة والحداثة تجدي، وأن لغة الحضارة لابد أنها تنفع.
وظل المثقف السوري أو المهتم بشؤون البلاد على ديدنه، يدين ويستنكر ويناشد ويأسف، وظلت السلطة الحاكمة على ديدنها، تزج به في السجن.
والسجن في سوريا فريضة على كل سوري، على كل سوري أن يؤديها.
فإذا كان الحج يُرجع الحاج كما ولدته أمه خالصاً من ذنوبه هانئاً صافياً، فإن سجن سوريا يلبس سجينه ذنوباً أخرى فوق ذنوبه التي لم يرتكبها أصلاً وإنما ألصقوها به لصقاً.
sarraj15@hotmail.com
كاتبة سوريا
شكراً للزائرَين الأمريكيين
رجاء اكتبوا عن فداء الحوراني بدون ذكر أبيها . اننا نتعاطف معها و مع كل سجين شريف حر و نتمنى لها الحرية و السلام في كل لحظة , لكن لا تذكرونا بأبيها فانه عراب الانقلابات و رجل الفتنية و الانتهازي الوصولي الذي يتحمل جزأ كبيرا من مسؤولية وصول سوريا و السوريين الى ما وصلت اليه . أما اذا كانت فداء على نهج أبيها فنحن لها من الرافضين