أشعر، أحياناً، باليأس. فلِمَنْ يملك الثروة والسلطة اليد الطولى في ترتيب الأولويات على أجندة السجال العام (public debate)، وصياغة المعيار (paradigm) لمقاربة هذه الإشكالية أو تلك بمنظومة لغوية ومفهومية تحكم سلفاً مُدخلات السجال ومُخرجاته. هذا كلام “غامض” لا يوحي بالأذى، ولكن ترجماته على الأرض غالباً ما تكون مبللة بالدم.
ما استدعى هذا الكلام أن “خبيراً” اسمه شادي حامد نشراً كتاباً، في مطلع حزيران (يونيو) الماضي بعنوان: “الاستثناء الإسلامي: كيف سيعيد الصراع على الإسلام تشكيل العالم“. نحن في زمن الخبراء، طبعاً. اشتغل المذكور في معهد بروكينغزـ الدوحة، وهو كمئات غيره من العاملين في مؤسسات بحثية أميركية وأوروبية، تمولها الاحتكارات المالية والنفطية الكونية العابرة للحدود والقوميات، بما فيها السعودية والقطرية، ينتمي إلى معسكر المنتصرين في الحرب الباردة:
تخرّج في جامعات مرموقة بمؤهلات مرموقة، يكتب بإنكليزية لا تنجو من رطانة أكاديمية، ويمثل الشغل في “الإسلام” وعليه مصدر عيشه، ورأسماله الرمزي، في سياق حياة مهنية واعدة وزاهرة، وسوق يزداد فيها الطلب، وترتفع فيها القيمة الرمزية والمادية للعرض والعارضين. فمَنْ في العالم، وحكوماته، ومؤسساته الأمنية والاقتصادية والعسكرية، لا يريد معرفة ماذا أصاب العرب والمسلمين في زمن الموجة الإرهابية التي ضربت وتضرب في كل مكان.
مجموعة كارليل مؤسسٌ مشارك، ومدير تنفيذي، على رأس الهرم الذي يموّل ويدير معهد بروكينغز. كارليل. وما أدراك ما كارليل؟ إمبراطورية مالية تشتغل بحوالي 183 مليار دولار، اشتغل فيها من الأميركيين، بعد الخروج من الخدمة، أو قبل الالتحاق بها، رؤساء، ونواب رؤساء، ووزراء خارجية، ودفاع، ورؤساء أركان، وسفراء وأعضاء في الكونغرس، ناهيك عن رجال المال والأعمال.
وهذه المجموعة تضم شركات تشتغل في النفط، وصناعة السلاح، والمصارف، والخدمات، والتجارة الدولية. بين المستثمرين في بروكينغز سعوديون وقطريون، طبعاً. مديرها مارتن إنديك السفير الأميركي السابق في تل أبيب، والمدير المشارك لبروكينغز الدوحة حمد بن جاسم، وزير الخارجية ورئيس الوزراء السابق في قطر، وصاحب “الجزيرة”، أو كان صاحبها، إضافة إلى إمبراطورية مالية خاصة تُقدّر بالمليارات يديرها من لندن.
ولكن ما علاقة “الخبير” صاحب كتاب “الاستثناء الإسلامي” بهذا كله؟ هذا النوع من الخبراء يعيش في بيئة أكاديمية، ويخضع لمعايير مهنية عالية، ولا يُملي عليه أحد كيف يفكر وبماذا يفكر. ولكن، فتِّش دائما عن العلاقة بين المال والمعرفة، وعن الجو العام، والمزاج، والتواطؤ الضمني، وروح الزمالة، والتضامن الأيديولوجي، والتنافس على تقديم بضاعة أفضل، بين العاملين في حقل بعينه، وضمن شروط معيّنة. فكارليل، وغيرها، وحمد بن جاسم، وغيره، مَنْ يضع أجندة البحث لبروكينغز، وبهذا يتحكّم هؤلاء بطريقة غير مباشرة، أيضاً، فيما لا ينبغي التفكير به.
الكل سعيد ومبسوط ويشتغل في “الإسلام” وعليه، في كل ما يخص العالم العربي، فهذا هو معيار البحث، أما النهب الوحشي المُنظّم التي تمارسه الاحتكارات العابرة للحدود والقوميات، بما فيها السعودية والقطرية، في بلدان عربية وأفريقية وآسيوية مختلفة، وفي الغرب نفسه، وعلاقة الاحتكارات بتجارة السلاح، وصناعة الحروب الأهلية، فهذه أشياء لا تخطر على بال أحد. فالليبرالية الجديدة، في عالم تعولم، هي التي تُملي أجندة البحث المُعترف بها، وفيها تنفصل الثروة عن الأخلاق، والسياسة عن القيم، ويزيح مفهوم الهوية وسياساتها كل ما يتصّل بالطبقة، والسوق، والإنتاج، والسلطة، جانباً. فالشرق شرق، والغرب غرب لا يلتقيان في سياسات وعلوم الهوية (إلا في المصارف وجيوب اللصوص، وعلى جثث القتلى).
ويبدو أن طموح الأخ حامد يسعى لتجاوز حتى المعيار المُتداول والمُعترف به، إذ يحاول التأسيس في كتابه عن “الاستثناء الإسلامي” لمعيار جديد مفاده أن “الإسلام” استثناء فعلاً، لا تصدق عليه أدوات البحث المتداولة، في علوم السياسة والاجتماع الغربية، بشأن العلاقة بين الدين والدولة، وبين الفرد والمجتمع. وبهذا المعنى يختزل ويُفسّر كل تاريخ العالم العربي في صراع على هوية الدولة منذ سقوط الخلافة العثمانية في عشرينيات القرن العشرين، وحتى صعود خلافة الدواعش، التي تمارس، في نظره، أعمالاً مُرعبة، ولكنها تعبّر عن حقيقة سياسية واجتماعية وأيديولوجية عمرها قرابة قرن من الزمن.
هذه شطحة كبيرة تتجاهل تعددية التجربة التاريخية للشعوب العربية، ويتجلى فيها ما يمكن تسميته (paradigm shift) أي إحداث تغيير جوهري في المفاهيم والممارسات البحثية، في علم بعينه، بما يُمهد لإنشاء معيار جديد. بكلام آخر، وأكثر مباشرة: ينتقل “الإسلام هو الحل” من شعار في السياسة (تخلى حتى بعض أصحابه عنه، كما فعل الغنوشي) إلى أداة للبحث في علوم السياسة والتاريخ والمجتمع.
ومع ذلك، ما يبدو جديداً، في هذا الشأن، ليس جديداً في الواقع، بل إعادة إنتاج بلغة عصرية، ورطانة أكاديمية، لما يقوله الدواعش أنفسهم، ونشطاء “الصحوة” السعودية، التي أنجبها الزواج الوهابي ـ الإخواني، وما قالته وتقوله “الجزيرة” القطرية على مدار عقدين من الزمن، وما سبق وقاله عادل حسين ومصطفى محمود في مصر قبل عقود. الفرق الوحيد أن القديم/الجديد ينتقل الآن من لغة الشارع، والجرائد والفضائيات، وأشرطة الوهابيين والجهاديين على اليوتيوب، إلى لغة ورطانة العلوم الاجتماعية.
أخيراً، فلنعد إلى موضوع اليأس. مَنْ يستطيع مجابهة سلطة وثروة دول ومؤسسات تملك المليارات، وتتحكّم في وضع أجندة السجال العام، والمعيار السائد، وكل ما يستهلكه العرب من أفكار؟ يُقال إن الحقيقة تنتصر، دائماً، ولكن بمائة وثمانين مليار دولار، وخبراء كهؤلاء، ودور نشر، وجرائد، وندوات، ومؤتمرات، وفضائيات، وميليشيات، ودعاة، يمكن إنشاء “حقائق” بديلة، وتأجيل ما عداها إلى مدى غير معلوم. وهذا مبعث اليأس.
khaderhas1@hotmail.com