بمشهد مسرحي يبدو كفصل من فصول “شرق المتوسط” الذي حدثنا عنه شيخ الرواة “عبد الرحمن منيف” رحمه الله، أطل علينا العثث ليملؤا الفضاء بصراخهم مهددين مزمجرين طالبين من الجميع إلتزام الصمت بما يختص سلاح المقاومة أو التحدث عن الموضوع بصوت منخفض في سرية تامة، بين أربع جدران، والتأكد أن الجدران لا آذان صاغية لها، أو التحدث عن الموضوع في مكان منعزل لا يعرفه سواك، لأن حراس النوايا وعسس الليل يتربصون هذه الأيام بكل من تأتيه الجرأة ويطرح هذا الموضوع على طاولة الحوار. التهم جاهزة مفبركة لمحاكمة ومعاقبة من طرح هذا الموضوع على النقاش العلني. فمن أسهل التهم الرمي بالخيانة، ونسبك الى الاستعمار الجديد، واتهامك بخدمة الكولنيالية الجديدة، وغيرها من النعوت التي تعكس وضعية ثقافية رديئة. الكل يعرض عضلاته وخدماته متسلحا بنظريات المؤامرة مصابا بـ”فوبيا” تشككه حتى بخياله.
خلفية المشهد الأول صورة تجمع ثلاث شخصيات بابتسامة تقول في طياتها “الأمر لي”. بداية الفصل كانت مع فخامة رئيس البلاد العماد ميشال سليمان الذي تجرأ ومارس قناعاته الوسطية وسافر من بلد الى بلد ليضع اسم لبنان على خريطة المباحثات الكبيرة فيما بين الكبار لتجنيبه حرباً تدميرية أخرى كحرب تموز2006. بداية التصويب كان على رحلته الأميركية، ومن ثم على موعد طاولة الحوار وتركيبة المتحاورين، وصولا الى حصرية البند المناقَش، وكأن المطلوب من “الوسطي” لعب دور المراسل وليس دور المقرب لوجهات النظر والمبلور للحلول الوسطية التي تحفظ سيادة لبنان وحريته وتؤمن التعايش فيما بين كافة أطيافه. بعد ذلك أطل علينا من يشكك بقوى الأمن الداخلي ونزاهتها ومدى ارتباطها بمشاريع الامبريالية الأميركية، وصولا الى من طالب بمحاكمة الرئيس السنيورة أمام محكمة الرؤساء والوزراء بتهمة الخيانة الوطنية والتفريط بالسيادة، وارتباطه بالأمن القومي الأمريكي. خاتمة المشهد كانت للمايسترو الذي أعلن أمر العمليات الرسمي والمباشر الى جميع وحدات العثث: هناك محاولات لتسيس المحكمة الدولية. ولتكبير الحجر، أطل الوزير وئام وهاب من خلال عدد 27/03/2010 لجريدة “الشرق الأوسط”، وبايحاء يصور المحكمة الدولية وكأنها احدى “محاكمات المهداوي”، أن 15 قياديا من حزب الله استدعوا للتحقيق في اطار التحضير للمحكمة الدولية معلنا أن اتهام سورية لم يعد واردا… منبها الى محاولات للايحاء بارتباط قتلة الرئيس الحريري بالحرس الثوري الايراني والحاج مغنية، محذرا من أن عدم معالجة هذا الملف ستدفع الى الذهاب بالبلد الى مشكلة كبيرة. منذ انسحاب الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس السنيورة والاعتصام الشهير الذي شلّ البلد وعملية 7 أيار الأمنية لحماية السلاح بالسلاح، واتفاق الدوحة، ومن ثم تعطيل البلد وعدم تشكيل الحكومة ستة شهور لعيون الصهر، انتهاء بصحوات الضمير التي تريد اعادتنا الى عصر الهزائم والخيبات عصر عبد الناصر، الحكاية واحدة يلخصها البطريرك صفير بجملة واحده قالها بسياق رده الذي ادلى به عندما سئل عن التهجمات التي يتعرض لها رئيس الجمهورية: “اذا كان اهل البلد يهتمون بمصالح الجار اكثر من وطنهم فعبثاً يتعب البناؤون”. وكأن حملات التحريض والتشكيك والتخوين هي تمهيد لشيء أكبر الواضح منه الى الآن هو الصورة الثلاثية بانتظار الفرصة المؤاتية لضرب هيبة الدولة ومؤسساتها وصولا الى تسليم البلد لفئة محددة تريد السيطرة على كل مقومات الدولة وتتقن اسلوب التشويش والتحريض والتخوين لجعله ركنا من أركان الصورة الثلاثية. في هذا السياق يتم تركيز الهجوم على الأمانة العامة لقوى الرابع عشر من آذار والقوات اللبنانية والضغط على وسائل إعلام المستقبل لإخراجها من المعادلة و تفريغها من محتواها لتدخل في سياق “استقبَلَ” و”وَدَّعَ” كأي تلفزيون رسمي.
ان التجريب المسرحي جزء لا يتجزأ من حركية المسرح العربي وتطوره. ويعد التجريب عنصرا (حيا وفاعلا) يراهن على المغامرة من اجل الإرهاص والتنبوء.. ولذلك يضحي التجريب الحقيقي صيغة من صيغ الابتكار والتجديد. أما في هذه المسرحية الهزلية، فتبدو الصورة باهتة بعيدة عن الألوان محصورة بالأبيض والأسود، تقابلها من الناحية الأخرى صورة مشرقة تملك تفويضا شرعيا من الناس فيها رغم كل محاولات تشويهها. الكثير من الألوان المستندة الى حبها للحياة وايمانها بالعبور الى الدولة وثقتها بالمحكمة الدولية التي تتعامل مع ملف المحكمة بحرفية عالية وتبتعد عن المهاترات وابداء رأيها بالمحكمة واصدار الأحكام المسبقة. فكما نعلم ان الاستدعاء وأخذ الأقوال لا يعني بأي شكل الاتهام. ومن كان نظيف الكف لا يضرّه الادلاء بأي شهادة. لماذا الصراخ، ولماذا استباق قرارات المحكمة؟ هل هناك ما تخفيه الأكمة؟ هل هو الاختباء وراء المقاومة لتغيير المعادلات وتكريس “المثالثة” وإسقاط المحكمة؟
يبدو أن حر الصيف قد حلّ باكراً، ومن لوثات الحرّ ضربات الشمس التي تؤدي الى الهذيان، ومن ميزات الشمس حقيقة سطوعها دون أي امكانية لتأويل تلك الحقيقة.
mammassoud@yahoo.com
* كاتب لبناني