أن تتركَ على حافة الأيام بين وقت وآخر، شيئاً من تساؤلاتك الحائرة وتمضي في مدارات التفكير متدفقاً بدهشة الضوء الباهرة، خيرٌ لكَ من أن تبقى حيناً بعد حين متسربلاً بغباء البدايات المعتمة، هكذا يخبرني دائماً الضوء المنبجس في داخلي من تفتحات الذاكرة الآجلة..
القادمون من أعمق نقطةٍ في وجع الأسئلة القاتلة، يجتازون متاهات الدروب الشائكة إلى الجهة التي تنبت بين جنباتها إجابات فادحة البياض، ومن أقصى خفقةٍ في الروح المشرعة على الجمال المنثور في تأملات الفكر، تأتي الأشياء مترعةً بزهو الانتصارات الفاتنة..
وحينما تكون في مواجهة الجامد من سطوة التأويلات الغابرة، عليكَ أن ترحل بعيداً لاستنطاق الذاكرة في شرفات الزمن الآتي، فالذي يأتي من قلب المجهول قد يأتي مفعماً بتأويلات الروح الجديدة..
وفي الذات الإنسانية، تختلج المسافات الطويلة بتشظيات العقل في دهاليز الأفكار المحتدمة، وباحتراقات القلب في جمرةٍ من لذة الاحتفاء بزخم البدايات المتجددة، عندها تبدأ الحكايات تزاحم تخوم الاكتشافات البِكر في قصةٍ لا تنتهي..
ما الذي يملأ فراغ الأسئلة، حينما تكون الذات عالقةً وسط دهشة المستحيل المسكون في تجاويف السديم، أهي الإجابات الناطقة باسم الآلهة المستبدة في الذات الخانعة، أم نفير الإجابات القادمة من فورة التصادمات، بين نزوع العقل للتساؤلات الأكثر جرأةً وبين ارتداد النفس لتخندقات الانتماءات الضيقة المستأنسة بلذة الركون لبلاهة المعرفيات السائدة..
أحاولُ أن أبقى أتنفس منشرحاً الهواء في داخلي، لأسجّل في ذاكرة المنطق بأية صيغةٍ ما أريد، أني لم أزل موجوداً على قيد الإنسانية، وأخبرُ قلبي أن يبقى منتظراً انسلال اللحظة المبهرة من رحم العتمة، ولكن مَن يسلبُ حقي في أن أبقى محسوباً على قيد التفكير، سوى لعنة الاصطفافات الغبية المحشوة بتشوهات الثقافات التلقينية المتوارثة، والتي تحتشد استنفاراً هلِعاً في منتصف الطريق..
وهل تجري الحياة من حولنا راكضةً نحو أفق آخر غير الذي رسمناه في أحلامنا المؤجلة؟!
لا أدري، فكل الآفاق تختار ربما نهايةً رسمتها لها البدايات المسبقة، ونبقى نحن في الجزء المتبقّي من انفلات الروح في لهيب التساؤلات القاسية، نختار أفقاً ترسمه البدايات المفعمة بزخم التخلقات الجديدة، تستنطق في الذات جذور التكوينات الأولى..
كيف أبدو حينما تتوالد في أعماقي استفهامات شديدة الولوغ في الفعل الحياتي، ربما لغة أخرى تتلبسني بنكهة التعبيرات التي تغرفُ من رشقات الطبيعة ومضات الخطوة الواثبة نحو المستحيل المتكور في رحم الدهشة النابضة بدفقات الأبجديات الملونة، فهل يقودني هذا الفضول المتمرد إلى حافة الهلاك؟! أم يأخذني معراجاً يضيء زوايا الروح ببهاءات التأملات الصافية، الخالية من لوثات التعليب الفاسدة وحتميات اليقينيات المطلقة..
وقد يولد عشق الارتياد لفسحات الزوايا المضيئة في لحظة اللانهاية، واللانهائيات قد تبدو مغرية للسير طويلاً في مسارب الضوء والانعتاق، لذة أخرى تضاف للذة الذات في ارتعاشاتها العاكسة لتلاوين الأزمنة الفسيحة، هذه اللذة المدهشة باعثة للقلق، باعثة لتلمس الغوايات في أعماق النفس الإنسانية، باعثة للمضي في نشوة التغيير الدائمة، وقد تزداد النشوة توهجاً كلما تفاعلت مع حركة الذات في شتى الاتجاهات، ومع كل ذلك يبقى الإنسان أكثر الكائنات تناقضاً وغموضاً في تفاعلات الحركة الدائمة، ولا يعني ذلك أنه يتلاشى حد العدم، ولكن لأنه إنسان تصطرع فيه تجاذبات الحركة، فإنه يتوغل عميقاً في التناقضات وقد يتواطأ فطرياً بعض الوقت مع ملابسات الغموض، وقد يطفح في بعض الأحيان بالوضوح الشديد، وقد ينتهي إلى شيء محدد أو ربما إلى لا شيء، وربما : الإنسان، سنحتاج للسرمدية لنعرفه، ولكن لحظة واحدة تكفي لقتله، على حد قول العظيم فولتير..
وهل كان (أفلاطون) محقاً حينما قال: الذين خلقوا الكلمات، أولئك كانوا يؤمنون بالهذيان..!!
ربما كانوا يؤمنون بأن الكلمات لا تتخلّق إلا في رحاب الهذيانات المستفيضة ببروق التجليات الناطقة للأعماق الدفينة في الذات، أو ربما هذا الخلْق البهي وجدَ طريقه في قول (بورخس): الكلمات وحدها، بعد فناء كل شيء، تبقى..!!
ولكن هل تبقى الكلمات في السرمدية؟! أم أن الخلق المتجدد للكلمات في رحلة الإنسان الطويلة، قادر على أن يمنحها شرعية الأبدية؟!
لا أعرفُ تحديداً، كيف تصنع الكلمات شرفاتها المطلة على ذاكرة الأيام البعيدة، فقط ربما علينا أن نضبط الذهن على إيقاع الكلمات بطريقة تخولنا جيداً من معرفة تمكنها الأكيد من مملكة القلب الحرة..
للأوهام السحيقة سلطة التجذر والبقاء في تلافيف العقل، وفي منطقة اللاوعي، وفي تشعبات الذاكرة، تستفحل متورمةً بنفخة القداسات الدينية والتراثية، وتتسيّد عناوين الحياة بهالات الأسطرة والتعالي والتفاخر، وتنطق حاكمةً أبدية باسم السماء، فلماذا تجرأ أولئك الآتون من مدن الأفكار العاصفة على نقد تلك الأوهام وتعريتها تحت إمرة الضوء، هل لأنهم يبحثون عن ملء فراغات الأسئلة التي مزقتهم طويلاً، أم لأنهم يحاربون الوهم القابع في ذواتهم، أم لأنهم بقدر ما يبددون تلك الأوهام، بقدر ما يخلقون في أعماقهم مساحةً تتعافى من أثقالها التراثية واكراهاتها الأيديولوجية وفروضاتها الماضوية وسلطتها الأسطورية..
ربما وحدهم أولئك الذين يولدون دائماً في مخاضات من الألم والتألم، متورطون حد الإصرار والتعمد في ارتكاب فعل التفكير على مدار الوقت، لأنهم يؤمنون بأن الألم باعث حقيقي للتفكير، الذي من خلاله يتلمسون دروب الحرية في أعماقهم وبها يظفرون حتماً ولو مؤقتاً، على ذواتهم الهاربة في متاهات الضياع والاندثار، وقد تلخص مقولة (سارتر) معنى عميقاً في هذا الصدد: ليست الحرية أن نستطيع ما نريده، بل أن نريد ما نستطيعه..
كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com