من سوء الصدف -ليس إلا- أني كنت أقوم ببحث ميداني داخل حدود دمشق القديمة، لتعيين مواقع تصوير عن أماكن داخل المدينة القديمة. البحث المتزامن مع نبش ذاكرة التاريخ السوري الحديث، وتعيين أهم أسماء المثقفين في القرن العشرين، وتقديم كتبهم المغمورة التي أتت عليها الثقافة العقائدية الواحدة.
كان بحثي هذا منوطاً بحدود برنامج تلفزيوني سيكون لصالح دمشق 2008 عاصمة ثقافية، والصدفة فقط من جعلت من هذين البحثين وجعاً جديداً يضاف إلى الوجع الذي كنا مللنا الحديث عنه، وصار يرجع مع الريح.
فأن يكون التخريب الحاصل في البينة الثقافية السورية يمشي بتؤدة لعقود طويلة هو أمر فهمناه، وأن يتحول هذا التخريب إلى طائرة نفاثة، أمر صعب الفهم. ليس التخريب القائم على الصدفة، لكنه التخريب المدروس والممنهج بغية استبدال هوية وطنية وثقافية، بأخرى غير محددة الملامح حتى الآن، والملمح الوحيد الممكن استنباطه من الدلائل الأولية، هو خراب هذه الهوية.
كان من ضمن الكتب المئة التي وضعتها لعرضها كبرنامج يومي لا يتجاوز الدقائق، مسرحية “طقوس الإشارات والتحولات” للكاتب المسرحي سعد الله ونوس، وباعتبار أن طبيعة البرنامج التلفزيوني يعتمد على توثيق الإرث الثقافي مع الإرث العمراني التاريخي لمدينة دمشق، فقد حرصت على إضفاء طابع خاص لكل كتاب، ومن بين أكثر الكتب عدا عن (خطط الشام، لمحمد كرد علي، وطبائع الاستبداد، لعبد الرحمن الكواكبي، وكتاب السوري رزق الله سلوم، وهو واحد من شهداء 6 أيار، مات ولم يتجاوز عمره 26 وله رواية، وكتب في السياسة والاقتصاد”. لا أعر ف إن كان رئيس اتحاد الكتاب العرب سيسمح له أن يكون كاتباً!؟
عدا الكتب الأنفة الذكر، كانت مسرحية “طقوس الاشارت والتحولات” من أكثر الكتب علاقة بأزقة دمشق ونوافذها المغلقة ورائحة تاريخها. هناك صورة في كل زقاق من أزقة دمشق. لم يكن هناك من مكان محدد يصلح كإحالة مرجعية للنص والكاميرا، فكل زقاق من دمشق يحيل إلى النص، ولو بطريقة مختلفة، كل شخصياته لها خطوة في دمشق القديمة، ولوهلة أثناء البحث ذاك، اكتشفت أني أعيش في مدينة أجمل ما فيها تاريخها، وأعمق ما فيها تراثها. كل ما في دمشق القديمة يشي بالسحر إلى درجة تجعل منها لوحة للفرجة، أكثر منها مكانا للعيش. لا تنتمي إلى الحاضر المغّبر. كل البيوت رغم التخريب الذي شهدته وحولتها فيه القيم الاستهلاكية إلى مطاعم ومراقص، كل النوافذ الرومانتيكية، والشرفات الضيقة، وحتى الحوانيت المغمورة داخل ظلامها. روائح الأسواق: سوق العطارين، سوق الحميدية، المناخلية، سوق ساروجا، الدرويشية، باب توما، باب الجابية، خان أسعد باشا…
كل قطعة فيها تتحدث عن تاريخ بدأ منذ آلاف السنوات قبل الميلاد، ولم ينته حتى اللحظة، منذ تشكل الحضارات الأولى على وجه الأرض، مروراً بالعهود البيزنطية والمسيحية والإسلامية. كل البشرية مرت على دمشق، وغيّرتها ولونتها، ثم بقيت كما هي رغم تفتيتها. هي أقدم مدينة تاريخية في العالم كله ما تزال مأهولة بالسكان، يكفي المرء عندما يعرف هذه الحقيقة ليكتشف حجم الخراب الذي تتعرض له، ليست دمشق فقط، بل وقاماتها الثقافية والإبداعية، وكأن الموت السريري لا يكفي لهذه المدينة، بل هي تحتاج لسل روحها منها، أقول ذلك لأنني اكتشفت أثناء بحثي، ومن الصحف الرسمية وغير الرسمية منها، أن جزءاً كبيراً من مدينة دمشق سوف يهدم، وتبنى فوقه الأبراج التجارية. أبراج تجارية وسط أقدم عاصمة تاريخية في العالم!
العالم من حولنا يصنع تاريخاً ونحن نهدمه ببساطة، هؤلاء الذين يريدون هدم جزء من مدينة دمشق القديمة، منها سوق المناخلية الشهير، لبناء علب بلاستكية لمقر شركات استثمارية، أو لتخزين بضائع، وفتح مطاعم، ألا يشبهون الإنكليز، سكان المستعمرات الجدد، الذين قدموا من أوروبا، بعد أن غزا كريستوف كولومبس أمريكا، وأباد الفاتحون 400 شعب من الهنود الحمر، وقضوا على ثقافتهم وبنوا على أمجادهم ودمائهم حضارتهم الجديدة؟ بماذا يختلفون عن أولئك المتوحشين الذين يتحدثون باسم المَدنية في العالم ؟ الفرق فقط، أنهم أبناء البلد نفسه، وهو فارق يدينهم ولا يغفر لهم.
في الوقت نفسه الذي تتشوه فيه خارطة مدينة، يأتي مخربون من نوع أخر، ليهدموا رمزاً ثقافيا من رموز سوريا “سعداللة ونوس” قلت بداية إنها مفارقة، أن يتزامن التشويه في هذا الوقت تحديداً.
يأتي السيد رئيس اتحاد الكتاب العرب “حسن جمعة” ويتهم على العلن، وأمام الجيل الشاب السوري، حيث كان يلقي محاضرة لطلاب الجامعة، قسم اللغة العربية. يتهم سعدا لله ونوس، أنه انتحل، اقتبس، بمعنى أخر حسب السيد جمعة:سرق! عن رائد المسرح السوري: أبو خليل القباني، ويبالغ في ذلك كما يذكر للزميل إبراهيم حميدي في جريدة الحياة:
” اقترح العودة إلى كتاب: الظواهر المسرحية عند العرب، لعلي عقلة عرسان، لتثبيت أن ونوس أخذ جملة من أبو خليل القباني”.
ربما يبدو من باب التخريف الرد على هذا الكلام! ولكن من باب الحفاظ على هذه الهوية الثقافية والوطنية لسوريا، سيكون من المعيب السكوت عن محاولة تشويه سعدا لله ونوس. فالقاصي والداني من مثقفي العالم العربي يعرفون أن سعد الله ونوس اختير سنة 1997 ليلقي كلمة المسرح العالمي في 27 من آذار، ومؤلفات سعدالله ونوس التي حولت إلى عروض مُثلت فوق الكثير من صالات العرض المسرحي في العالم العربي، وخارج أسوار العالم العربي، ليست بحاجة لشهادة من خليفة السيد علي عقلة عرسان، الذي أمضى ثلاثة عقود محتفظاً بكرسيه الجليل كرئيس واحد وحيد لاتحاد الكتاب العرب، وربما السيد حسين جمعة لم يتسن له قراءة التاريخ الحديث لسوريا، لمعرفة من هو سعد الله؟ وماذا قدم للثقافة السورية من أعمال إبداعية؟ وبغض النظر عن حق كل شخص في إبداء رأيه، طبعاً كما هو حق كل مستثمر، في أن يهدم البلد على طريقته برؤية الحياة من وجهة نظر استهلاكية ربحية! فلا حق لأي كان أن يزور التاريخ ويحمله الأكاذيب، وإذا كان السيد حسين جمعة من ضمن هؤلاء الذين يريدون أن يطبعوا سوريا بطابع ثقافي يُعلي من رموز أصحاب الصوت الرسمي عن طريق التشهير بكتاب من الصوت المختلف، فهو أمر يدخل من باب الهدم نفسه الذي تتعرض له البنية العمرانية لدمشق القديمة، وعندما يتم تهديم بنية ما، أو الطعن بهوية ثقافية، أو رمز ثقافي أو وطني، فالبديل المطروح لا بد أن يكون أفضل.هذا منطق الحياة والتطور، فتطور المجتمعات البشرية قاطبة، قام على هدم الرموز والتماثيل والأصنام التي تتحول بفعل الزمن إلى عائق أمام المستقبل، أما أن يهدم هؤلاء ما تبقى من رموز ثقافية نزيهة لتحل مكانها ثقافة الاستهلاك والأحزاب والكراسي البيروقراطية، فهو أمر لا يدخل تحت باب الهدم فقط، بل والتزوير أيضاً.
ربما هو أمر مدروس أيضاً أن يكون التشويه ينال الآن من مختلف جوانب الحياة الثقافية السورية، بعد أن صارت كلمة مثقف تعني سبة وشتيمة، وصارت كلمة دمشق قديمة تعني التخلف والانضواء تحت الماضي، وعدم الرغبة بالتطوير وتحديث البلد، ونحن جميعا نذكر المحاولات الجبارة التي قامت بها الأديبة السورية ناديا خوست للحفاظ على بيت يوسف العظمة، رغم أن يوسف العظمة رمز وطني. كان قائد الثورة السورية الكبرى، واستشهد في معركة “ميسلون” الشهيرة وهو يدافع عن أرض سوريا 1925 وكانت سترفع الحماية عن بيته، لولا حملات السيدة خوست في مقالاتها على الذين يريدون القضاء على تاريخ المدينة.
يريدون هدم دمشق القديمة لمحو كل آثر مادي يدل على عظمة هذا المكان الذي ينتمون إليه، حتى لا يذكرهم بالانحطاط الحضاري الذين يعيشون فيه.
يريدون أن يشوهوا صورة سعد الله ونوس النظيفة، حتى يقولوا لأنفسهم: هو ليس أقل قبحاً منا.
كل مدن العالم تحتفظ لمبدعيها بساحات ضخمة تُنصب فيها تماثيلهم، ويفتخرون بانتماء كتابهم إليهم.
كل المدن القديمة تخاف على ارثها التاريخي من الضياع، عندما يحتّ الريح حجارة أسوارها، إلا دمشق، وُجهت إلى حكومتها تنبيهات وتحذيرات بشطبها من قائمة المدن القديمة، ولم يصغ أحد إلى أحد.
الحقيقة أني كنت أفكر تصوير أحد مشاهد الكاميرا، مع صورة سعد الله ونوس على إحدى مشربيات دمشق، وصورة غلاف “طقوس الإشارات والتحولات” على مشربية مقابلة، عبر زقاق ضيق، ونافذة عتيقة في العمق داخل حي القنوات في دمشق، ربما لمح المشاهد خطفاً طيف بطلة المسرحية السجينة التي تحررت وفتحت نوافذها.
كيف سأفعل ذلك؟ ونحن السجناء داخل أسوار قلعة من صدأ وريح، وهم يشوهون ويقتلون سعد الله ونوس بعد الموت، ويهدمون الشام العتيقة.
إنه العار، نصمت عنه، ونحن على أبواب تقديم دمشق كعاصمة للثقافة العربية!
samar_yazbek70@yahoo.com
* السفير