لنقلْ ان إسمه مازن. أبوه سوري وأمه لبنانية. ولد في بيروت وعاش فيها مع أهله، ودرس في الإرسالية الفرنسية ثم في الجامعة الأميركية. كان يمكن أن ينشأ في إدلب، ولكن مصادرة أملاك أبيه وعائلته هناك، من قبل السلطات البعثية الناشئة، عند تسلّمها السلطة في ستينات القرن الماضي، حولت مصير مازن نحو لبنان. كغيره من لبنانيي النشأة والتبني، يهاجر مازن إلى الولايات المتحدة حيث يتابع دراسته ويستقر، ويصبح أستاذاً في إحدى جامعاتها. يُنتدب للتدريس في جامعة حلب، لعامي 2003 و2005. وهناك يحتكّ مباشرة بهذا الصرح المعماري المهيب، ذات الطراز السوفياتي، الفارغ من العدد ومن الوظيفة، الذي أخذ بناؤه عشرين سنة ليُنجز، والحامل في حيطانه تشققات فساد متسرّب، كما سوف يتبين له عندما يشرع في القيام بوظيفة التدريس. فمازن لا يتوقف عن الإصطدام بأمور وقوانين، المعلن منها أقل من غير المعلن، وكلها تجعل التعليم حالة من الدوران العبثي، بأمر من البعث، في متاهات أشبه بتلك التي يلاقيها أبطال روايات فرانز كافكا: يصف مازن الهوة السحيقة الفاصلة بين رغبته بالقيام بوظيفته التعليمية، وبين قوانين الجامعة الحلبية، الضمنية والعلنية؛ فيكرر في حكايته الأمثلة عن كيفية التدريس في الجامعة الحلبية، عن مضامنيه، عن سلوكياته المكرّسة، وكلها كأنها صُبّتْ مرة واحدة و”إلى الأبد”، كما يقول. ويتابع وصف حال أصحاب الحظوة من بين الأساتذة لدى السلطات البعثية، التي تسمح لهم بلمْلمة مستحقاتهم بحيث تصبح ملاليم، هي بالنسبة لهم غنيمة. ثم يستفيض في الوصف: طلابه الذين يحتجون عليه لأنه طلب منهم مناقشة محاضراته، وحجتهم التي لا تردّ، انهم لا يقوون على النقاش: “نحن لسنا في أميركا، نحن أغبياء”، يقولون. فيما يقف واحد منهم ولا يتوانى: “نحن حمير أستاذ، ومنذ صغرنا تعودنا على الحفظ الحرفي للدروس قبل الإمتحانات”؛ أو في موقعة أخرى، يعود الطلاب، فيسألون: “شو يعني إشرح وناقش؟”. ولكن الأدهي ان هؤلاء الطلاب اشتكوا منه لدى رئيس القسم، الذي سأل مازن: “شو يعني علِّق؟”. يرسم مازن البورتريه الخاص بـ”مراقب الدوام” في الجامعة، صاحب السلطة الصامتة-الناطقة، منذ عشرين سنة، الذي يقرر البرامج والساعات والكتب والمقررات… وكله بناء على علاقات خاصة شخصية، مسجلة على “دفتر عتيق”، “موشك على التلف”؛ يسأل “المراقب” مازن عن أميركا، “أسئلة لا تختلف عن أسئلة الأميين”؛ ما يناقض مهابة تدّعيها الجامعة بصرحها المعماري العظيم. الحضور البعثي في الجامعة، عبر الأساتذة والطلاب، يقرر حياتها وتوجهاتها وحتى دوامها. بوسع الطالب البعثي أن يفعل أشياء أخرى أيضاً: كأن يستجيب لتحريض طالبات محجّبات ضد أستاذ ماروني مسيحي، والتهمة انه يضايقهن ولا يحترم تقاليدهن ومشاعرهن الدينية، فيُعاقب هذا الأستاذ بأن يُعزل عن رئاسة قسمه، ويعود، كغيره، مجرد أستاذ. ويستنتج مازن بأن محاسبة هذا الأستاذ وثيقة الصلة “بالمحسوبيات والنكايات والأحقاد الحزبية وعصبياتها الخفية”؛ فالطلبة الحزبيون يستطيعون فصل العميد عن وظيفته، “إذا رغبوا وأرادوا”.
حكايات مازن مع جامعة حلب، خلال هذه البرهة من حياته، فيها غرائب أخرى: منها مثلاً إن غالبية الطلاب يستمرون أكثر من عشر سنوات في الجامعة. وهو يرى أن السبب الأساسي لهذا العمر الجامعي الطويل ليس الرسوب في الامتحانات، إنما في علاقة هؤلاء الطلاب بالزمن، بالوقت، إذ يقول: “لا حساب للزمن ولمراحل العمر في حياتهم التي تختلط فيها المراحل والأدوار والأحوال”. الأكثر تشويقاً ما يصفه مازن لحجاب الطالبات: باستثناء المسيحيات، السافرات، والكرديات، قليلات الإقبال على الحجاب، غالبية المسلمات محجبات: “متشابهات (…) ما دامت أجسامهن مغطاة باللباس الشرعي، ووجوهن لا يظهر منها ومن وراء الحجب سوى أعينهن”. يتنقّلن جماعة، مجموعات، ولا مرة واحدة بمفردهن. يروي مازن قصة طالبة محجة طلبت منه، وهي برفقة شقيقتها ان “تتمرّن” معه على اللغة الإنكليزية، لأنها طالبة أدب انكليزي. بضعة جلسات من هذه التمارين، وتنسحب الشقيقة، فتبقى الطالبة التي لا تلبث أن تبدو، في واحدة من الجلسات، انها “موشكة على الإنفجار من شدة الكبت الداخلي في حياتها اليومية”، فتصف له حياتها، ويفهم هو لماذا لا تنتقل أولئك الطالبات إلا جماعةً: “لا يرين أنفسهن إلا في مرايا هذه الشلل والجماعات التي تردم شعورهن بالكبت والضيق في حال إنفرادهن بأنفسهم”.
قصة مازن هي واحدة من سير الحياة التي جمعها وألبسها شكلاً روائياً، الكاتب محمد أبي سمرا، في كتابه “موت الأبد السوري” (رياض نجيب الريس)؛ كنتُ قد قرأتُ كتاب محمد أبي سمرة فور صدوره؛ ولكنني تذكرته في سياق تساؤلات أعالجها عن التاريخ والسيرة. لم أجد افضل منه، للتفكير بهذه المسألة. أعدتُ قراءة سيرة مازن، وقد سُرِدت عام 2005، والتي لم أورد هنا سوى بعض فقراتها، فوجدتُ فيها الميدان مفتوحاً، ليس لتساؤلاتي كما صغتها بداية، وحسب، بل لتوسيعها أيضاً.
هذا المقطع من حياة مازن، ما دخله بالتاريخ؟ انه رافد في نهر التاريخ الطويل، يحتاج الى تضافر أشباهه، سوف تعرف الأجيال المقبلة من خلاله ما كانت عليه جامعاتهم وعلاقتها بالسلطة السياسية وتداخل هذه السلطة مع السلطة الجامعية؛ من هذا الوصف التفصيلي، غير المكتمل بالضرورة، مثل التاريخ، الذي لن يعتلي يوماً مرتبة الحقيقة الشاملة. ولكنه وصف لآليات إدارية وفكرية وسوسيولوجية وحتى نفسية. لن تضيع سيرة مازن. دخلت في كتاب جذاب وأصيل؛ وهي بهذه الصفة، يمكنها نقض الحقائق الواردة فيها، ولكنها في نهاية المطاف، أو ربما منذ بدايته، سوف تشكل مجالاً سينقب فيه علماء العصور المقبلة، بكثير من الإثارة والفضول، وربما في تلك الأوقات التي لن تكون كالحة بالتأكيد، سوف تكتب الروايات التاريخية عن تلك الحقبة التي يسرد مازن شيئاً منها. هذا هو حظ محمد أبي سمرا؛ إن كتابه هذا، بل غالبية كتبه ومقالاته، الذاهبة دوما نحو سير حياة، وبأسلوب دائما روائي، سوف تشكل وثيقة حية عن عصور عربية غابرة، لأناس يبحثون عما كان عليه أجدادهم.
ولكن الآن، الآن، بماذا يفيد هذا المقطع من حياة مازن، هذا الفصل من سيرته؟
أوله، أننا نفهم، من هذه السيرة، أسباباً لإنفجار الشعب السوري بوجه حاكمه، وأسباباً لتحول هذا الانفجار الى حرب طاحنة، يتواجه فيها النظام مع مجموعات مسلحة تنتمي غالبيتها الى الإسلام السياسي، الجهادي منه والسلفي، وليس الى تيارات عميقة تعمل، تناضل، تقاتل، من أجل دولة مؤسسات وقانون. حصل الانفجار لأن هذا الخنق الممتد للشعب السوري، بالجامعة كما بالشارع، ما كان له ان يدخل الخلود، وإن كان شعار بقائه “إلى الأبد” مرسوم على حيطان الأزقة وجدران البيوت. الجامعة هنا بصفتها عاكسة وفية لثقل السلطة، والناقلة لهذه السلطة، لا ناقلة للمعرفة، وعمادها تجميد العقول وتجهيلها وإفسادها؛ عماد متجذر في البرامج وفي “الأنظمة والقوانين”، والتنفيعات المتوالية. فكأن الطالب السوري في ظل البعث، كائن غاضب، ضيق الصدر، مضغوط، مستغَل، مستغِل، مسلوب الإرداة، غريب عن نفسه…. غليان من نوع خاص، ثم إنفجار ثورة 15 آذار 2011.
ولكن في سيرة مازن أيضاً، محجبات واضطهاد أستاذ مسيحي، معطوفين على انغلاق العقل، وعلى لعب خبيث بين التدين والتطييف والتحزيب، وعلى هدر للأعمار، وعلى شلل للإرادة، وعلى تضييق المخيلة، وعلى إقامة العقوبة كنمط واحد من المعاملات… وكله وغيره نلمسه في سيرة مازن… لا بد لنا ان نفهم بعد كل ذلك المنحى الذي ارتداه هذا الإنفجار ضد بشار. فالعقول والعواطف المتشكلة بمادتي الإذعان والحفظ هي الأكثر إستجابة للإسلامية الجهادية والسلفية في أفضل الأحوال. والـ”علمانية” السورية التي يتباهى بها بعض المعارضين السوريين، في مكابرة واضحة لعدم الإعتراف بنفوذ الإسلاميين على الشعب السوري المتمرد الغاضب… أصبحت الآن في خبر كان، برمشة عين من التاريخ.
في سيرة مازن أمر لا يفوَّت؛ خلال العامين اللذين قضاهما يدرّس في جامعة حلب، كان كلما شعر بالضيق، يركب السيارة ويذهب الى لبنان. حيث بالتأكيد يلاقي أمه اللبنانية، ولكن أيضا يتنشق هواء بحرياً حراً. سيرة مازن جُمعت أثناء الوجود السوري في لبنان، أي عندما كان الجيش نفسه الذي يحكم قبضته على الشعب السوري، يمارس “وصايته” على لبنان، فيعين رؤساءه ووزراءه ونوابه، وحتى عمداء ومديري جامعته الرسمية. ومع ذلك، يهرب إليه مازن عندما يضيق بجامعة حلب. ألم يحكم البعث لبنان مدة ثلاثة عقود؟ حسناً. ولكن، ما الذي أبقى في أجواء لبنان نسائم الحرية تلك التي كان مازن يهرب اليها، كلما ضاق ذرعاً بتلك الجامعة المخنوقة؟
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل