في “نيويوركر”، المجلة الأمريكية الشهيرة، كتب لورانس رايت تحقيقاً مطوّلاً (أكثر من سبعة آلاف كلمة) تناول فيه هذا السؤال الشائك، الذي سار عنواناً للمادّة أيضاً: “هل يستطيع السينمائيون المنشقون التأثير على التغيير في سورية؟”، فاستفتى من المخرجين أسامة محمد بصفة رئيسية، ثمّ عمر أميرالاي ونبيل المالح وعبد اللطيف عبد الحميد وحاتم علي، والممثّل فارس الحلو. لكنّ رايت لم يتغافل عن ظواهر أخرى ذات صلة بالإنشقاق في الحياة الثقافية السورية خارج ميدان السينما، فتحدّث عن الواقعة التي جرت قبل أسابيع أمام القصر العدلي في دمشق، أثناء اعتصام ضدّ قوانين الطوارىء والأحكام العرفية، حين تعرّضت سمر يزبك ـ الروائية السورية الشابة، الموهوبة حقاً، الواعدة بالكثير، والجسورة على نحو غير مجّاني وغير استعراضي ـ للضرب بالعصيّ على يد أزلام السلطة، على مرأى ومسمع من رجال الشرطة الذين اكتفوا بمتابعة المشهد عن بُعد.
وغنيّ عن القول إنّ مفردة “الإنشقاق”، كما استقرّت في الإصطلاح الغربي عموماً والأمريكي بصفة خاصة، باتت تفيد معنى المعارضة إجمالاً، السياسية أو الثقافية أو المهنية أو السلوكية، وهو المزيج الذي يبدو رايت وكأنه يعتمده ضمناً حين يربط بين مشكلات الإخراج والإنتاج والعرض السينمائي (التي تهيمن عليها جهة حكومية واحدة هي “المؤسسة العامة للسينما”، ما خلا استثناءات محدودة متفرقة في القطاع الخاصّ)، ومشكلات حرّية التعبير، والرقابة، وسياسة الثقافة أو الدور السياسي للثقافة، وما إلى ذلك من مسائل. وضمن هذه المستويات يعلّق أسامة محمد على استمرار منع شريطه الأوّل الشهير “نجوم النهار”، 1988، رغم أنّ مؤسسة السينما الحكومية هي التي أنتجته؛ ويضع عمر أميرالاي خيار السينما التسجيلية، وتجربة النادي السينمائي أواسط السبعينيات، ضمن منظور أعرض هو اختراق المحرّمات (كما في شريطه الشهير “يوميات الحياة في قرية سورية”، 1973، وتنظيم تظاهرة الفيلم السياسي الفرنسي سنة 1978)، والتحايل على الممنوع من أجل حرّية في التعبير أعلى قليلاً من المألوف؛ ويستذكر نبيل المالح شريطه المميّز “الفهد”، 1972، ومشاركته المباشرة والنشطة في “لجان إحياء المجتمع المدني” التي انطلقت خلال أسابيع بعد وفاة حافظ الأسد؛ ويطمح عبد اللطيف عبد الحميد وحاتم علي إلى سينما على الطريقة الإيرانية، تلتفّ على المحظور السياسي والعقائدي، وتصل إلى الجمهور العريض عن طريق فنّ غير نخبوي وغير شعبوي في آن…
والحال أنّ المرء يعوّل كثيراً على السينمائيين السوريين، هؤلاء وزملائهم الذين لم يلتق بهم لورانس رايت (من أمثال هيثم حقي، محمد ملص، سمير ذكرى، ماهر كدو، واحة الراهب، ريمون بطرس، رياض شيا… على اختلاف مشاربهم السياسية ومواقفهم من العمل الوطنيّ والديمقراطيّ العامّ) في تطوير خطاب معارض متقدّم يشتغل على الجماليّ وعلى السياسيّ في آن معاً. ولنا منهم سابقة ثمينة وحاسمة، وقعت مطلع تشرين الأوّل (أكتوبر) 1999، أي في عهد الأسد الأب والأطوار المتأخرة من سيرورات تدريب وتوريث بشار الأسد، حين أصدر السينمائيون السوريون بيانهم الشهير. صحيح أنه كان ممارسة لحقّ الدفاع عن النفس: الدفاع عن المهنة أمام حملات صحفية محلية أقرب إلى محاكم التفتيش، والدفاع عن حقّ ممارسة المهنة في الحدّ الأدنى من الشروط الإبداعية والتقنية والمالية والقانونية. غير أنّ الصحيح كذلك، والأشدّ أهمية ربما، أنّ «التغيير» كان الكلمة السحرية التي اكتنفت روحية البيان، لأنها ببساطة كانت الكلمة التي جثمت على مناخات السجال في الأصل.
ولقد قال السينمائيون السوريون: «إنّ كلمة تغيير تسكن الشارع السوري، ويقرع لها قلب الجميع: قلب الشريف وقلب المرتكب، قلب المظلوم وقلب الظالم، وقلب الإنتهازي أيضاً الذي عوّدنا أن ينبض خارج إيقاع التاريخ». وأضافوا في فقرة أخرى: «لأننا في قضية السينما، كما في القضايا الأخرى للمجتمع، لا نريد للتغيير أن يكون خطوة إلى وراء، كما لا نريده أن يكون خطوة في الهواء». الأهمّ من ذلك كلّه أنّ السياسة، وفي المعاني والمستويات والدلالات التي كانت آنذاك ـ وتظلّ اليوم أيضاً… بدليل حملة الإعتقالات الراهنة! ـ محرّمات كبرى، انتقلت سريعاً من باطن السجال إلى ظاهره، فقرأنا ما يلي في البيان: «نجد في امتناع الصحافة عندنا عن نشر أيّ إسهام لا يساوم على قضايا التغيير الجوهرية، خرقاً صريحاً ومؤسفاً لحرّية الرأي والتعبير، ينبغي عدم السكوت عنه».
وآنذاك علّقت شخصياً على هذا البيان، في هذا العمود تحديداً، فاعتبرته بارقة خير شجاعة، والقطر الذي يسبق أوّل الغيث، على هدي ما قال البحتري: وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه/ وأوّل الغيث قطر ثمّ ينهمر. كما جازفت بما يشبه النبوءة فكتبت حرفياً: “ولعلّ الأيّام القادمة سوف تبرهن أنّ أوّل الغيث… سينما!”. لم أكن أرجم بالغيب، قطعاً، إذْ كانت حركة الوعي والضمير الجمعي تنقل المجتمع موضوعياً إلى طور أرقى في التفكير والتعبير، وسرعان ما تعاقبت البيانات التي تسير على منوال بيان السينمائيين السوريين، وتطالب بالتغيير العميق والجوهري: بيان الـ 99، بيان المحامين، بيان الـ 1000… وهكذا فإنّ السينمائيين السوريين لا يستطيعون التأثير في التغيير فحسب، بل كانوا جزءاً من مكوّنات ريادته، ومن اليسير أن يفهم المرء إصرار عبد اللطيف عبد الحميد على تذكير لورانس رايت بأنّ أجمل الأفلام السوفييتية تمّ إنتاجها في عهد الدكتاتورية الستالينية: “هنالك ظاهرة تحيّرني: حين تتعرّض للقمع، فإنك تفكّر على نحو أفضل”!
*كاتب سوري
s.hadidi@libertysurf.fr
سينما دمشق
هذا مقال جميل ولا شك ، ولكنه قديم ومضى عليه اكثر من سنة ، والسؤال هو لماذا تعيدون نشره الآن وقد نشرتموه في حينه ؟