لم تستطع أن تحافظ على الإستقرار السياسي الذي أمّنته الملكية، ولا استطاعت أن تجعل من الجمهورية عنوانا للرخاء والازدهار.
في إقتراع أجراه في 28 أكتوبر المنصرم، اختار البرلمان النيبالي نائبة زعيم الحزب الشيوعي (الماركسي اللينيني الموحد) الحاكم السيدة “بيديا ديفي بانداري” البالغة من العمر 54 عاما رئيسة للجمهورية، وذلك خلفا لـ”رام باران ياداف” رئيس حزب المؤتمر النيبالي الذي انتخب في هذا المنصب من قبل الجمعية التأسيسية في عام 2008 بعد إلغاء النظام الملكي في البلاد. وبهذا تلحق نيبال ببقية الدولة الآسيوية التي سبقتها لجهة منح مناصبها الرئاسية الفخرية أو التنفيذية لنسائها على نحو ما حدث في سريلانكا والهند وباكستان وبنغلاديش والفلبين واندونيسيا وتايلاند وكوريا الجنوبية وتايوان.
وإذا كان معظم حالات تقلد النساء الآسيويات لمنصبي رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة قد جاءت على خلفية التعاطف الجماهيري معهن لفقدانهن زوجا أو أبا كان قبلهن في السلطة أو على وشك الوصول إليها، وتم إغتياله أو الإطاحة به ظلما، فإن الحالة النيبالية لا تختلف كثيرا. فالسيدة بانداري هي أرملة الزعيم الشيوعي النيبالي الراحل “مادان بانداري”، الذي توفي في عام 1993 في حادث سير لا زال الغموض يكتنفه.
ويمكن القول أن الحالة النيبالية تشبه ــ مع بعض الفوارق البسيطة ــ الحالة السريلانكية التي قدّمتْ أول رئيسة حكومة في العالم في عام 1960 ، وذلك حينما تولت السيدة “سيريمافو باندرانيكا” قيادة السلطة التنفيذية خلفا لزوجها”سلمون دياز باندرانيكا” ثالث رؤساء الحكومات بعد الاستقلال الذي تولى السلطة من عام 1956 وحتى تاريخ اغتياله في عام 1959. من أهم الفوارق بين الحالتين أنّ السيدة باندرانيكا لم تعمل بالسياسة أو تتولى أي مناصب سياسية في بلادها قبل صعودها إلى السلطة العليا، بينما عـُرفت السيدة بانداري كناشطة حزبية منذ شبابها، وفازت بمقعد برلماني في انتخابات عامي 1994 و1999، كما تولتْ في السابق حقيبة الدفاع، ومنصب نائب زعيم الحزب الشيوعي. إلى ذلك كانت ضمن أشهر الذين تزعموا المظاهرات ضد الملك جيانيندرا في عام 2006 إلى أن أعلن الأخير تخليه عن المـُلك في عام 2008، كما أنها اشتهرت بدفاعها الصلب عن حقوق المرأة النيبالية.
ومع هذا التطور يكون أعلى منصبين في البلاد في أيدي الشيوعيين، حيث أنّ منصب رئيس الوزراء يتولاه زعيم الحزب الشيوعي “كادغا براساد أولي” الذي انتخبه البرلمان لهذا المنصب التنفيذي الرفيع على رأس حكومة إئتلافية في وقت سابق من أكتوبر المنصرم. كما أن هذا التطور يأتي بعد أقل من شهر على تبني نيبال لدستور جديد تعزز مواده النظام الجمهوري الفيدرالي، وتؤسس لدولة مدنية بدلا من الدولة الهندوسية التي ظلت سمة ملازمة للبلاد منذ أن كافأت بريطانيا النيباليين لمساعدتها في السيطرة على الهند بمنحهم الإستقلال الكامل في عام 1923. كما أن الدستور الجديد يمنح النساء دورا أكبر في الحياة السياسية من خلال النص الصريح على ضرورة منحهن ثلث مقاعد البرلمان، بالإضافة إلى منحهن أحد أعلى منصبين في البلاد (رئاسة الجمهورية أو الحكومة).
وما يجدر بنا ذكره في هذا المقام أن كتابة دستور جديد لنيبال يخلف دستوره الملكي استغرقت سبع سنوات كاملة بسبب الخلافات العميقة والرؤى المتباينة والمصالح المتضاربة بين الأحزاب السياسية الكثيرة التي نبتت كالفطر بمجرد سقوط النظام الملكي (أكثر من 25 حزبا) والتي يقف على رأسها ثلاثة أحزاب رئيسية هي: الحزب الشيوعي النيبالي الموحد الذي يمثل الماويين، والحزب الشيوعي النيبالي الذي يمثل وحدة الماركسيين اللينينيين، وحزب المؤتمر النيبالي. وخلال هذه السنوات السبع إضطر “رام باران ياداف”، الذي أنتخب في عام 2008 كرئيس إنتقالي للبلاد لمدة عامين فقط، أن يحتفظ بمنصبه إلى أنْ تخلى عنه مؤخرا لصالح السيدة بانداري.
تمثل نيبال آخر نموذج للدول التي تخلت عن النظام الملكي لصالح النظام الجمهوري، فلم تستطع أن تحافظ على الإستقرار السياسي الطويل الذي أمنته الملكية، ولا استطاعت أن تجعل من الجمهورية عنوانا للرخاء والازدهار والأمان, أي تماما مثلما حدث في أقطار كثيرة أخرى مثل مصر والعراق وليبيا وإيران وأفغانستان. ذلك أنه، خلافا لما تمنته الجماهيرية النيبالية من الفقراء والعمال والفلاحين حينما حملت السلاح لإسقاط سلالة رانا الملكية، لم يحقق النظام الجديد أي شيء يذكر. بل كان العنوان العريض للمشهد السياسي خلال السنوات السبع الماضية هو تفاقم الصراعات السياسية والإثنية والايديولوجية والجهوية، وتضارب المصالح بين الساسة والعسكر، وتزايد معدلال الفساد والمحسوبية، وتراجع مستويات المعيشة.
ومن المهم هنا أن نذكر أن سقوط الملكية في نيبال لئن كان يُعزى بالدرجة الأولى إلى ضغوط الميليشيات الماوية المقاتلة التي دخلت في حرب مع القوات النظامية لمدة عشر سنوات عصيبة، فإن العامل الآخر الذي ساعد فيه هو الملك جيانيندرا نفسه والذي بمجرد توليه العرش خلفا لشقيقه الملك بيريندرا في عام 2001 على إثر المذبحة التي ارتكبها ولي العهد الأمير ديبيندرا بقتل والده ووالدته وشقيقه وشقيقته وعمه الأصغر وعدد ا من عماته قبل أن يطلق النار على نفسه. ففي الاول من فبراير 2005 قام العاهل الجديد جيانيندرا باعلان الأحكام العرفية وتعليق البرلمان وتشكيل حكومة يقودها بنفسه وقطع وسائل الإتصالات واعتقال العديد من النشطاء والسياسيين، بحجة أن أوضاع البلاد المضطربة بسبب الثوار الماويين تستدعي إجراءات صارمة وسريعة لا يقدر عليها البرلمان والساسة المنتخبون. هذه القرارات الملكية المتسرعة، التي اعترف الملك بخطئها لاحقا وتراجع عنها لكن بعد فوات الأوان، تسببت في تشكيل تحالف واسع من مختلف القوى السياسية التي هرب زعمائها إلى الهند المجاورة، ثم قيام هذا التحالف بالتنسيق مع الماويين من أجل الإطاحة بالملك وسلالته.
Elmadani@batelco.com.bh
*أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين