عبارة “سياستهاي حسن همجواري” الفارسية تقابلها بالعربية “سياسات حسن الجوار”. ولا حاجة للمرء ليدقق كثيرا كي يكتشف التشابه الكبير ما بين العبارتين. ومرد هذا طبعا هو أن الفارسية تفاعلت عبر القرون مع العربية واقتبست منها ألفاظا ومفردات وعبارات لا حصر لها، وتحديدا بعد سقوط نظام الشاه ونجاح الثورة الإسلامية في عام 1979 التي رأت في تطعيم الفارسية بالمزيد من المفردات العربية سبيلا ناجعا لتصدير أيديولوجيات الثورة الخمينية إلى دور الجوار العربية.
وقد وصلت الأمور في هذا السياق إلى الحد الذي صارت فيها الفارسية غريبة على أهلها و مختلفة تماما عن تلك التي استخدمها شعراء إيران الكبار من أمثال سعدي وحافظ الشيرازي وعمر الخيام في كتابة قصائدهم الخالدة، أو الفارسية التي استخدمت قبل القرن الثالث الهجري في بلاط الملوك و لدى علية القوم تحت اسم الفارسية البهلوية أو الدرية.
وما يعنينا هنا أن العبارة المشار إليها في بداية المقال وهي “سياستهاي حسن همجواري”، استعارها الفرس من العربية لكنهم لا يطبقونها في تعاملهم مع جيرانهم العرب. فمع كل خطوة إلى الأمام لتعزيز مثل هذه السياسات بهدف ضمان الاستقرار في المنطقة، ينطلق بوق من طهران يعوي ويكرر ما طواه الزمن، ولكأنما صناع القرار في الأخيرة أسرى لمرض اسمه جنون العظمة، يحفزهم على التطاول على سيادة الدول الأخرى و يعطيهم حق إطلاق المزاعم التوسعية كيفما شاؤوا. هذا المرض الذي لئن ظهرت أعراضه في العام الماضي من خلال تصريحات حسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة كيهان النافذة، فإنها عادت مؤخرا على لسان علي اكبر ناطق نوري المفتش الخاص في مكتب مرشد الثورة، في صورة ادعاءات فجة بتبعية البحرين لإيران كولاية رابعة عشرة، الأمر الذي فجر مجددا أزمة في العلاقات البحرينية – الإيرانية.
وفي كل مرة يحدث هذا أو نحوه تتوالى التصريحات من مؤسسات النظام الإيراني ورموزها الوسطى أو الصغرى متهمة الإعلام بعدم تناول الموضوع بدقة أو مدعية بأن ما قيل من آراء لا يعبر عن رأي إيران الرسمية. على أنه لم يحدث في أي وقت من الأوقات أن خرج رأس النظام الإيراني الأكبر أو الولي الفقيه ليقول لجارات إيران وللعالم اجمع بأنه ليس لدى طهران نوايا توسعية وأنها متمسكة بالتسوية السلمية التي اقرها نظام الشاه حول البحرين على سبيل المثال.
هذا هو حال أشقائنا على الضفة الغربية للخليج، لا نخطو نحوهم كخليجيين خطوة لبناء الثقة وتدشين جسور المحبة من اجل مستقبل زاهر لشعوبنا، إلا ووجدناهم ينجرفون نحو الماضي ويستعيدون أمورا ولى أوانها – ربما – تنفيسا للضغوط الخارجية أو تخفيفا للاحتقانات الداخلية. فمثلا حينما جاء وفد من الخارجية الإيرانية إلى البحرين قبل ثلاث سنوات لحضور جلسات الطاولة المستديرة ما بين طهران والمنامة، كان الأمل يحذونا بأن نخرج من الاجتماعات برؤى مشتركة تردم أية هوة في العلاقات البينية، فإذا بالجانب الإيراني يفجر في الجلسة الأولى قضية “عروبة أو فارسية الخليج”، أي الموضوع الذي لكثرة تداوله وبحثه صار مثل الاسطوانة المشروخة. أما في الجلسة الثانية فراحوا يجترون الماضي أيضا آخذين على البحرينيين انحيازهم إلى جانب الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر في سياساته القومية ومواقفه الراديكالية تجاه طهران. واعتقد انه لولا جرعة حياء صغيرة عندهم لكرروا وقتئذ ما يكررونه اليوم من تبعية بلادنا لإيران وبالتالي عدم اعترافهم بشرعية قرار مجلس الأمن الدولي رقم 278 الصادر بالإجماع في 11 مايو 1970 . هذا القرار التاريخي الذي لم يجد نظام الشاه بدا من الرضوخ له وبالتالي تكليفه لغرفتي برلمانه بالمصادقة عليه في منتصف مايو 1970.
وهكذا فان يوم 11 مايو 1970 يعتبر بالنسبة للبحرينيين بكل طوائفهم وفئاتهم يوما تاريخيا ليس لأنه دفن إلى الأبد مطالب ومزاعم إيرانية خرافية حول السيادة على البحرين، وإنما أيضا لأنه فتح الباب أمام استقلال البحرين كدولة مستقلة تحت قيادة الأسرة الخليفية الكريمة.
ويحلو للبعض الأكثر راديكالية في النظام الإيراني والأقل فهما لأبجديات السياسة والعلاقات الدولية أن يتذرع بالقول أن القرار الخاص حول البحرين اتخذ في زمن الشاه، وبالتالي فهو لا يلزم الجمهورية الإسلامية. ومثل هذا القول بطبيعة الحال قول ينم عن أن صاحبه اخرق وفي الموقع غير المناسب، لأنه في العرف الدولى جرت العادة أن يتحمل أي نظام سياسي جديد مسئولية ما وقع عليه سلفه، و إلا شاعت الفوضى في المجتمع الدولي.
بقي أن نوجه سؤالا محددا إلى الكتاب العرب الذين كتبوا قائلين “أن قوة إيران النووية هو تعزيز وإضافة إلى قوة العرب والمسلمين” أو أولئك الواهمين بأن النظام الحاكم في طهران اليوم يعمل من اجل الخير والسلام والتعاون في بحيرة الخليج والعالم”: هل لا تزالون على موقفكم البائس بعد كل ما سمعتمونه من أبواق إعلامية وسياسية وبرلمانية ودينية إيرانية تطالب علانية بحق السيادة على ارض عربية؟”
هؤلاء هم الذين علمونا في الماضي – زمن المد القومي – أن نكره إيران ونمقتها، بل لم يتركوا خصلة قبيحة – مثل العنصرية والفاشية والطائفية – إلا والصقوها بها. وهؤلاء هم الذين أيضا يدعوننا اليوم إلى أن نعشق إيران ونحترمها ونسجد لها مهما فعلت وقالت بحق بلادنا، لأنها بحسب زعمهم ذخيرة الأمة وعضد مقاومتها.
في كتابي الموسوم “فيتوريو وينسبير جيوشياردي: دوره في تأكيد هوية وسيادة البحرين” والذي فصلت فيه الظروف التي صاحبت استقلال البحرين ودور الأمم المتحدة فيها عبر ممثلها: الدبلوماسي الإيطالي المحترف جيوشياردي، الذي تم اختياره ليقود فريقا من الموظفين الامميين إلى البحرين بغرض استطلاع آراء البحرينيين حول مستقبل بلادهم، قلت أن جيوشياردي طاف في مدن وقرى البحرين بحرية وقابل رجالاتها ورموزها واستمع إليهم مليئا، ليخرج بعد نحو ثلاث أسابيع من العمل المضني بتقرير امتاز بقدر كبير من الحرفية والمهنية العالية التي يصلح معها لأن يكون بمثابة سجل يوثق التاريخ الاجتماعي والثقافي للبحرين في أوائل السبيعات. والسبب أن الرجل لم يكتف بتسجيل آراء من قابلهم وإنما أيضا وصف أوضاع البحرين الإدارية والاقتصادية والثقافية والديموغرافية والمناخية وقتذاك، وتعددياتها العرقية والدينية والمذهبية.
المجال لا يتسع هنا لسرد كل ما ورد في التقرير (57 نقطة) الذي رفعه جيوشياردي إلى مجلس الأمن، لكننا نكتفي بالإشارة إلى بعض النقاط الحاسمة التي أوردها والتي لا تزال محل إجماع من قبل البحرينيين:
• معظم الأجوبة التي حصلت عليها علقت آمالا بانقشاع سحب الاداعات الإيرانية إلى الأبد، لكن دون أن يصاحب هذا أي قدر و لو ضئيل من العداء أو المرارة تجاه إيران، بل على العكس استخدمت كلمات تعرب عن الرغبة في أن يسود الهدؤ والاستقرار والصداقة بين الجميع في المنطقة.
• البحرينيون الذين قابلتهم اجمعوا على الحصول على دولة تتمتع كليا بالاستقلال والسيادة، فيما أضافت الأغلبية الساحقة منهم وجوب أن تكون هذه الدولة عربية.
• لم تكن هناك تباينات طائفية حول النقطة موضع البحث. فحتى رجال الدين من الطائفتين السنية والشيعية اتفقوا على رأي موحد. وممثلو إدارات الوقف الديني التي تنظم على أساس الطائفة رفعوا صوتا يعبر عن عدم وجود خلافات في الرأي حتى في التفاصيل الدقيقة.
• إن مشاوراتي وجولاتي اقنعتني بأن الأغلبية الساحقة من البحرينيين ترغب في الاعتراف بهويتها ضمن دولة مستقلة ذات سيادة، وحرة في أن تقرر لنفسها شكل علاقاتها مع الدول الأخرى.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
“سياستهاي حسن همجواري”بلا شك أن البحرين عربية الهوية منذ فجر التاريخ وبشهادة حضارة ديلمون , ولكن النظام السياسي الخليفي قام على التمييز الطائفي وعلى خوف الأقلية من الكثرية فانتهج سياسة النظام الوهابي المجاور ومد جسورا من كل نوع معه على أمل اللوذ بحضنه ساعة تحل الحقيقة . ولا أحد يريد أن يتعلم من دروس التاريخ , إن عبر التاريخ كالموت , يظن الجميع أنه إذ يصيب الآخرين فأنهم في مأمن منه, ولكن العبرة الرئيسة هي حكمة الله في آية , لكل ظالم نهاية . أن السلطة الوهابية وتابعها البحريني يعطيان ايران المبرر القوي لتدخلها في البحرين وفي الاحساء والقطيف حيث… قراءة المزيد ..