أحد الزملاء، لفرط حماسه للأنظمة الجمهورية وتحفظاته على الأنظمة الملكية، لم ينتظر شروق شمس اليوم التالي لسماعه أخبار احتضار النظام الملكي في النيبال، فأرسل لي في أنصاف الليالي رسالة هاتفية قصيرة يطالبني فيها بالكتابة في الموضوع. هذا على الرغم من الشواهد الكثيرة، التي أثبتت أن الأنظمة الجمهورية التي قامت على أنقاض أنظمة ملكية، ولا سيما في العالم الثالث، لم تأت إلا بالخراب والدمار والهزائم وتفتيت أسس ومقومات الدولة والمجتمع المدنيين، على نحو ما حدث في مصر والعراق وليبيا وأفغانستان وإيران. فلا ديمقراطية أو حريات تعززت في ظلها، ولا تنمية تحققت أو معيشة تحسنت تحت قيادتها، بل أن بعض الأنظمة الجمهورية سرعان ما تحولت إلى أشباه ملكيات ولا سيما لجهة توريث الحاكم للحكم لأبنائه.
كل هذا لم يقنع صاحبنا بعد أن التسميات في أنظمة الحكم لا تعني شيئا، وإنما المهم هو الجوهر والمضمون. فنظام ملكي يملك رؤية واضحة ويقوده ساسة عقلاء متعلمون خير ألف مرة من نظام جمهوري على رأسه حفنة من أنصاف المتعلمين ولابسي الستر الكاكية أو العمائم ويعتمد في بقائه وشعبيته على الشعارات الرنانة ودغدغة عواطف الجماهير بالوعود المعسولة والخرافات والأساطير المنتقاة بعناية من بطون التاريخ.
مما لا شك فيه أن النظام الملكي في النيبال ليس نظاما مثاليا، بل ارتكب، وخاصة في ظل الملك الحالي جيانيندرا– الذي وصل إلى العرش بعيد المذبحة التي لقي فيها شقيقه الملك بيريندرا وكافة أفراد أسرة الأخير حتفهم في يونيو 2001 – حماقات كثيرة، لعل أبرزها انقلابه في فبراير 2005 على المؤسسات الدستورية وقيامه بتعطيل الحقوق والحريات تحت ذريعة الدفاع عن امن واستقرار البلاد في مواجهة التمرد المسلح الذي تقوده الجماعات الماوية منذ أوائل التسعينات. غير أن البديل أسوأ بمئات المرات، خاصة حينما يكون هذا البديل هو نظام يقوده أو يسيطر عليه الماويون الذين صاروا حتى في بلد المنشأ (الصين) محاربون ومحل شك بسبب تاريخهم الدموي والعبثي في أي مكان وصل إليه نفوذهم. والماويون النيباليون يحاولون اليوم بعدما فشلوا في استلام السلطة عن طريق الثورة المسلحة، الوثوب إليها عبر التكتيكات السياسية التي كان آخرها قبولهم باتفاقية سلام وتهدئة. وهذه الاتفاقية التي وقعت في العام الماضي تحت رعاية الأمم المتحدة وشارك فيها تحالف سياسي يضم سبعة أحزاب معارضة من بينها حزب البلاد الأقدم والأكبر (حزب المؤتمر) بقيادة رئيس الحكومة الحالي ” جيريجا براساد كويرالا” (86 عاما) ، نص على إجراء انتخابات تشريعية في يونيو من العام الجاري بغية قيام برلمان جديد توكل إليه مهمة كتابة دستور جديد لنيبال بدلا من الدستور المؤقت الحالي والبرلمان الانتقالي الراهن المكون من 330 عضوا بمن فيهم أعضاء يمثلون المتمردين الماويين. ومن الأمور الأخرى التي نصت عليها الاتفاقية تسليم المتمردين الماويين كامل أسلحتهم إلى بعثة الأمم المتحدة في النيبال، الأمر الذي لم يتحقق بالكامل حتى الآن طبقا لمصادر إعلامية مستقلة، وبالتالي أشاع الشك والريبة في نفوس قادة الأحزاب السياسية مما ينوي حليفهم الماوي فعله في القادم من الأيام.
وفي يناير 2007، حينما كانت مسألة وضع دستور انتقالي محل نقاش وحديث في البرلمان المؤقت، اقترح وضع مادة تنص على أن يبحث مصير المؤسسة الملكية النيبالية، إلغاء أو إبقاء، في أول اجتماع يعقده البرلمان المنتخب. ومنذ ذلك التاريخ، طرحت اقتراحات أخرى عديدة لعل أحدثها ما طرح في ديسمبر 2007 ، ونعني به مشرع القانون القاضي بإلغاء الملكية وإعلان البلاد فورا جمهورية ديمقراطية فيدرالية ( يبدو ان النص على الفيدرالية جاء تهدئة لخواطر المتمردين الجدد من أبناء إقليم “تيراي” الجنوبي المحاذي لحدود البلاد مع الهند، والذين انتفضوا اعتداء على الشرطة والممتلكات العامة بدعوى عدم تمثيلهم في البرلمان الانتقالي بصورة تتناسب مع أعدادهم، وخلو الدستور المؤقت من أية إشارة تضمن لهم حكما ذاتيا). وهذا ما أثار جدلا دستوريا لم ينته بعد، مفاده كيف لهيئة غير منتخبة أن تتخذ قرارا مصيريا كهذا، ولا تترك للبرلمان المفترض انتخابه ديمقراطيا في وقت لاحق سوى تنفيذ القرار فقط؟ وهذا أيضا ما دعا بعض الفقهاء الدستوريين إلى اقتراح عمل استفتاء شعبي حول مصير المؤسسة الملكية طالما أن الأخيرة مؤسسة راسخة الجذور في تاريخ البلاد ولها من العمر عدة قرون، فضلا عما تمثله من رمز للوحدة الوطنية.
أما الأمر اللافت للانتباه، فقد كان هدؤ الشارع النيبالي بعيد صدور هذا القرار. إذ لم تخرج الجماهير إلى الشارع مثلما توقع المتمردون الماويون للاحتفال بما وصفوه بالإنجاز التاريخي الذي لعبوا فيه (أي الماويون) دورا رئيسا. وبالمثل فان أنصار الملكية الذين لا يمكن الاستخفاف بعددهم من بين عدد السكان البالغ تعداده 25 مليون نسمة – نحو نصفهم من الأميين الذين لا يحصلون إلا على اقل من دولار في اليوم الواحد – لم يسمع لهم احتجاجا أو مظاهرة.
في تفسير الأمر الأول، قيل ان خصوم الملكية لم يعبروا عن فرحتهم لأنهم كانوا يتوقعون الحسم بطريقة أخرى، مثل اعتقال الملك جيانيندرا ونفيه أو محاكمته، بدلا من تركه يتمتع برفاهية قصر “نارايان هيتي” الملكي تحت حراسة أكثر من 3000 جندي من الجيش النيبالي، وبحرية الحركة وتبادل الزيارات واستقبال الأنصار، بل والحصول أيضا على المخصصات المالية والامتيازات الأخرى إلى حين قيام البرلمان المنتخب وتنفيذ الأخير لقرار إلغاء الملكية المتخذ مؤخرا. وفي هذا السياق وصفت صحيفة “جاناديشا” القريبة من الماويين الوضع بورقة شجرة، لا هي على الأغصان، ولا هي حطت على الأرض بعد.
أما الأمر الثاني فقد تم تفسيره كما يلي: ان أنصار الملكية، رغم قلقهم على مصير المؤسسة الملكية، ولا سيما بعد تصريح رئيس الحكومة كويرالا في مارس الماضي علنا بأنه يفضل أن يتنازل عاهل البلاد عن العرش ويأخذ معه أيضا ولي عهده (المعروف بالإفراط في شرب الخمور والعصبية) ليفتح الطريق أمام تسمية اصغر أبناء الملك البالغ من العمر خمس سنوات ملكا جديدا مع مجلس وصاية، فإنهم لا يزالون مقتنعين ان الملكية لن تزول لارتباطها بالهندوسية – عقيدة الغالبية العظمى من النيباليين – ولأن الملك تجسيد للإله الهندوسي فيشنو–– هذا ناهيك عن رهانهم على جملة من الأمور التي قد تصب في صالح استمرار المؤسسة الملكية مثل سقوط تحالف أحزاب المعارضة الهش، أو صعوبة إجراء الانتخابات التشريعية المقررة لأسباب فنية، أو اتساع المخاوف مما يخفيه الماويون من أجندات مدمرة، أو سقوط حكومة جيريجا الحالية تحت ضغط الفشل في علاج الملفات الخدمية والمعيشية والأمنية، أو قيام الجيش النيبالي بانقلاب عسكري لصالح العرش، انطلاقا مما عرف عنه من ولاء للمؤسسة الملكية على نحو ما ثبت في عام 1960 ولاحقا في عام 2005 . غير انه من الجدير بالذكر في هذا السياق ان اتفاقية السلام والتهدئة المشار إليها آنفا وما تبعها من إجراءات عملية فككت علاقة الجيش بالملك ليصير اسمه “الجيش الوطني النيبالي” بدلا من ” الجيش الملكي النيبالي” ولتؤول قيادته العليا إلى رئيس الوزراء المدني بدلا من الملك. ورغم التصريحات المتكررة لقائده الحالي الجنرال “كاتاوالا”، الذي يقود نحو مئة ألف عنصر مدرب تدريبا عاليا، بأن مؤسسة الجيش غير معنية بالسياسة، وخاضعة لأوامر رئيس الحكومة وحده، فان احتمالات قيامه بانقلاب واردة وخاصة إذا ما أسفرت التطورات عن وصول الماويين عبر صناديق الاقتراع إلى السلطة لإقامة نظام راديكالي قمعي. حينها قد لا يجد الجنرال كاتاوالا – وهو بالمناسبة زميل دراسة لقائد آخر الانقلابات العسكرية في باكستان (الجنرال برويز مشرف) مفرا من تنفيذ انقلاب على شاكلة انقلاب تايلاند العسكري في عام 2006، أو ربما على شاكلة التدخل الذي قام به الجيش في بنغلاديش في يناير 2007 حينما طالب قادته رئيس الجمهورية بإعلان حالة الطواريء وتأجيل الاستحقاقات الانتخابية قبل أيام من موعدها.
إن السؤال الذي يتردد بقوة هو : ماذا سيكون موقف نيودلهي وواشنطون من هكذا سيناريوهات؟ ثم كيف ستتصرف جارة النيبال الكبيرة الأخرى أي الصين؟ وما مدى تدخل هذه الأطراف في كل التطورات التي استعرضناها في هذه البلاد الفقيرة والمعزولة، لكن ذات التأثير في أوضاع منطقة جنوب آسيا، وتحديدا لجهة العلاقات بين العملاقين الهندي والصيني. ولعله انطلاقا من هذه الحقيقة، قيل ان زيارة رئيس الحكومة الهندية منموهان سينغ الأخيرة إلى بكين لئن كان احد دوافعها بحث التعاون التجاري والاقتصادي المضطرد ما بين البلدين، فان الدافع الآخر كان بحث التطورات في النيبال.
يتهم المتمردون الماويون كل الأحزاب السبعة المتحالفة معهم بالارتباط بقوى أجنبية ذات نفوذ. أي أنهم وحدهم الوطنيون الشرفاء. ويشيرون تحديدا إلى ارتباط أحزاب كثيرة بالهند وإجرائها مشاورات دائمة مع السفارة الهندية أو كبار المسئولين الهنود الزائرين، الذين كان أخرهم مستشار الأمن القومي الهندي أو رئيس الجهاز الحساس غير الخاضع للمساءلة البرلمانية في نيودلهي. والمعروف ان نيودلهي وواشنطون لهما موقف مشترك مما يجرى في النيبال، وبعبارة أخرى فهما يدعمان الملكية الدستورية والديمقراطية التعددية، وبالتالي يعملان على مخرج لإنقاذ الملكية باعتبارها صمام أمان وعمل مانع للتفتت والانقسام الاثني، وان قالا أن الموضوع شأن داخلي وقرار الإبقاء على الملكية أو إلغائها متوقف على النيباليين.
أما بكين التي تتصادم مصالحها الاستراتيجية مع نيودلهي في نيبال كما هي متصادمة في بورما، فقد أعربت في بيان عن ترحيبها باتفاقية السلام في النيبال وقالت أنها تدعم أي جهد يساهم على الاستقرار
elmadani@batelco.com.bh
*محاضر أكاديمي في الشؤون الآسيوية من البحرين