باريس – إقبال لطيف:
الاصفار هي الاصفار كما هو معروف، وموظف بنك «سوسيتيه جنرال» جيروم كيرفيل لا يعد استثناء فهو جزء من نظام مالي كوني يقوم فيه كل يوم احد المتداولين العاديين في منتصف او اواخر العشرين من عمره بادارة تريليونات الدولارات من الاموال على نطاق الكرة الارضية.
وهنالك نوعان مختلفان من المصرفيين في يومنا هذا، الاول ينتمي الى «المدرسة القديمة» من مصرفيي السبعينات ممن ليس لديهم اي فكرة عن ادوات الاشتقاق الائتمانية والمخاطرالمرتبطة، والثاني هو مصرفي «المدرسة الجديدة» الذي تخرج للتو في الجامعة، ويتلقى الملايين في شكل مكافآت على ادائه في العمل.
وهؤلاء المصرفيون الجدد يتميزون بالغطرسة والتكبر والتصرف الاحمق، ولا توجد هناك تجربة تماثل مواجهة ارتفاع الاسواق وانخفاضها.
يشعر من ينتمون الى «المدرسة القديمة» من المصرفيين من هذه «المخلوقات الجديدة» من المتداولين لانهم لا يفهمون الادوات الاشتقاقية في مجال الاسهم او الرهون العقارية وغير ذلك من نماذج التداول الحسابية، ويعد «سوسيتيه جنرال» احد افضل المصارف في العالم في هذا المجال المتطور، وذلك يعود الى خلفيته الهندسية الراسخة، فافضل الاساليب والمتخصصين في مجال التداول هم الفرنسيون او الفرنسيون ذوو الاصول الجزائرية، وذلك بسبب معرفتهم الوثيقة بعلم الهندسة، حيث يقومون بتطبيق خبرتهم في الرياضيات في ابتكار نماذج متطورة يجد من ينتمون الى «المدرسة القديمة» صعوبة في فهمها.
وهذا هو ما حدث في حالة بنك بارينغز في عام 1995، فقد كان نيك ليسون من الاشخاص الفريدين في مجال عمله، ففي الاسبوع الماضي تناولت طعام العشاء مع مجموعة من المصرفيين، كان عمر المتداول العادي 24 عاما، ولديه مبلغ مليارا دولار من عقود الرهن التي يعمل على تسويتها، ولم تكن لديه اي فكرة عن الامر.
ينافسون لاعبي كرة القدم
هذه الحالة نموذجية لمصرفي يدع رأسمال البنك في ايدي الصبيان ممن لديهم عقول رياضية، ولكن ليست لديهم فكرة عن حركة السوق، وهم يرتادون السهرات والحفلات ويقودون سياراتهم اللامبورغيني والبورش ويشربون اجود انواع الشمبانيا، و ينفقون ما بين 15 الى 20 الف جنيه استرليني على الطاولة التي يجلسون عليها.
ويبدو انهم يحاولون منافسة لاعبي كرة القدم فيما يتعلق بطرق انفاق المال ببذخ. اما اصحاب المدرسة القديمة فقد نالوا خبرتهم، واستقامتهم باسلوب تعليمي صحيح لكي يصبحوا حرّاساً على اموال الناس، ولكن يبدو انهم قد ذهبوا جميعاً الان ولم يبق منهم واحد.
الحرس القديم
وما نرمي اليه هو ان يقوم الحرس القديم بخطوة لايقاف هذا الامر، وضمان حماية رأسمال البنك، ففي فضيحتي سوسيتيه جنرال وبنك بيرنغز هنالك تشابه كبير. فالمدير التنفيذي الاكبر سناً الذي ليست لديه فكرة عن اساليب التداول المتطورة، اتاح للمتداولين المتحمسين القيام بما يقومون به، وذلك لانه يخشى ان يخسرهم لمصلحة بنك آخر يطارد هؤلاء الشباب ويعمل على اصطيادهم وبالتالي لا يطرح عليهم اية اسئلة او تساؤلات، وهؤلاء الشباب المتغطرسون هم اطفال ازدهار الاسواق وعند انخفاضها يتحولون الى كبش فداء.
والمصرفيون الجدد حالياً، من امثال كيريل ممن يستطيعون خسارة 5 مليارات يورو (7,مليارات دولار) وكأنه مبلغ زهيد يثبتون لنا ان الصفر انما هو صفر، فهم لا يفهمون المائة الف او المليون ولا المليار. وبالنسبة لهم الخسارة هي الخسارة، فبعد خمسة اصفار فان بقية الاصفار لا تهم. ويوجد هنا قرابة عشرة اصفار. وبلغ حجم التداول الذي يديره حوالي 40 مليار يورو طبقاً للاشاعات التي دارت في السوق.
وفي مساء الجمعة وقبيل يوم الاثنين الاسود اكتشف احد المسؤولين في سوسيتيه جنرال عملية تتطلب استفساراً من نظيره.
وتم الاتصال به حيث قال ان تلك العلمية بصفة خاصة لا وجود لها. وبدأت الامور في التصاعد في الخامسة من مساء ذلك اليوم.
فقد اتضح ان جيروم كيرفيل كان يدير ملفاً لا وجود له.. وليس هنالك تداول مقابل في جميع تلك العمليات. غير انه كان يعمل في غرفة خلفية مدة اربعة اعوام، ولديه خبرة في مجال نظام ادارة المخاطر وقد استغل تلك المعرفة، وتمكن من خلق ملفه الخاص المصطنع. غير ان النقطة التي تثار هي ان اية معاملة تتم من خلال كمبيوتر التداول تذهب الى القرص الصلب في كمبيوتر البنك وبعدها لنظام المحاسبة. وعليه فان المسألة التي تتطلب اجابة هي ان كان «سوسيتيه جنرال» كمصرف يقول ان جميع المعاملات تتم مضاهاتها بصورة سليمة، وانه لا توجد اية مشكلة، فكيف يمكن التأكد من محاسبة الطرف الثاني؟ فهناك دائماً طرفان في اية معاملة تجارية، اي البائع والمشتري، واذا كان المشتري للاسهم في أي من الاسواق الاوروبية فانه يجب ان يكون بائعاً محدداً لذلك.
فهل قام كيرفيل باختلاق طرف ثانٍ مصطنع؟ فالمبلغ لم يكن مجرد مليون او مليوني يورو، بل 40 مليار يورو في سوسيتيه جنرال يومي الاثنين والثلاثاء والخسارة بغلت حوالي 5 مليارات يورو وكانت ام الخسائر المصرفية.
هل من الممكن قبول موقف سوسيتيه جنرال من دون تساؤل بأنه لم تكن لديه اية فكرة او اشارة حتى مساء الجمعة بأن بعض تلك المعاملات لا يوجد لها ما يوازيها بتلك المبالغ الضخمة.
ففي عالم اليوم الذي تكسب فيه معرفة سياسات عميلك اهمية كبرى، كيف يمكن ادارة ملف مختلق للمعاملات وعميل مصطنع؟
سؤال حول عدد المتورطين
وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: كم عدد الاشخاص المتورطين في عملية الاحتيال هذه؟ وهل كان كيرفيل مجرد كبش فداء؟ التحليلات والفحص الجنائي على الحسابات سوف تكشف الحقيقة حول السبب في استقالة خمسة مسؤولين من العمل في هذا القسم.
وهذا يطرح السؤال: كيف يمكن لمسؤول رفيع في التعاملات الا يكون على اطلاع بتعاملات تصل قيمتها الى 40 مليار يورو؟
فالسندات المدعومة بالاصول وادوات الاشتقاق الائتمانية والرهون العقارية.. كلها من الحقول المعقدة. واذا حدث خطأ واحد تكون نتائجه وخيمة. فالاسواق لا ترحم.. انها توجه ضربتها اولاً ثم تطرح الاسئلة فيما بعد. ولذلك علينا توخي الحذر مما تورده وسائل الاعلام.
ان رجلاً يرى 40 مليار يورو، وهو مبلغ يساوي الناتج المحلي العام لبلغاريا ورومانيا معاً، او نصف الميزانية السنوية لمصر، ليس رجلاً عادياً في البنك، ولا بد انه يعمل 24 ساعة يومياً. ولا بد ان هناك الكثير من المساعدين له، فمن هم هؤلاء المساعدون؟ لقد مرت على البنك عطلة الصيف الماضي وعطلة عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية، ألم يأخذ هذا الرجل أية اجازة ؟ دون شك تتحمل ادارة البنك المسؤولية. فهذا الشاب خسر خمسة من اصدقائه على برنامج FACEBOOK خلال ساعتين من انكشاف امر الاحتيال.
ويقال انه غاب عن الانظار بالرغم من نفي البنك. لقد عقد اجتماعاً لست ساعات مع مسؤولي البنك لشرح موقفه.
في الوقت الذي يعلن فيه بنك سوسيتيه جنرال نتائج تشير الى ان جميع ارباح العام جرى شطبها، وانه يسعى للحصول على دعم مالي ضخم بحدود 6 مليارات يورو من البنوك ذاتها التي جنت المليارات في ازمته، فان نصيحتي هي ان الوقت في واقع الامر ليس في مصلحتهم، وبالتالي ابقى القليل من السيولة والعمل على تخطي اية مشكلة. ومع رؤوس الاموال المقدمة الى سوسيتيه جنرال بواسطة بنوك اخرى، فان سوسيتيه يعتبر صفقة شراء جيدة في هذا المستوى، وكذلك غولدمان ساكس. فاحدهما ضحية للخوف والاخر ملك الفرص. ففي هذه اللعبة في مجال التمويل الدولي لا يوجد ضحايا كما لا يوجد منتصرون.
دروس الفضيحة
لابد من تعلّم عدد من الدروس من هذه الفضيحة، أولا لم يكن الاحتياطي الفيدرالي ليقلص سعر الفائدة لو كان على علم بالوضع الذي كان يدور في بنك سوسيتيه جنرال يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين.
فقد كان الاحتياطي الفيدرالي يعتقد ان الوضع مرتبط باستمرار التراجع نتيجة لأزمة الرهون العقارية، وخفضّ الفائدة ليوفر للاسواق بعض السيولة. ولكن ربما بالغ الاحتياطي الفيدرالي في تدخله. وبهذا يمكن القول إن كيرفيل ليس مسؤولا فقط عن خسارة الـ40 مليار يورو بل 800 مليار يورو في الاسواق العالمية كلها.
واعتبارا من الأمس، ستعود كل الاسواق الى المستويات التي كانت عليها يوم الجمعة الماضي، وبذلك تكون السيولة قد انتقلت من البنوك الى سوسيتيه جنرال الذي باع وسط حالة من الذعر، كما فعلت البنوك الآسيوية الأخرى مع بعض صناديق التحوط والبنوك الاستثمارية.
وسوف أذكر بعض الاسماء، ولكننا جميعا نعلم من الذي حقق أكبر الارباح من ازمة الرهون العقارية. وربما يكون من ايجابيات هذه الأزمة ان النظام التجاري العالمي خضع لاختبار عسير. وربما تكون قدرة البنوك المركزية العالمية والاحتياطي الفيدرالي، على بناء مؤسسات مالية في العالم في مثل هذه الظروف، لا تُصدق. اذاً من هو الخاسر أو الرابح الحقيقي؟ فالأموال لا تختفي بل تنتقل من مكان إلى آخر. فقد حققت بعض البنوك وصناديق التحوط ارباحا هائلة، بينما منيت بنوك أخرى بالخسائر.
أسواق المال العالمية .. محمية
مهما يُقَلْ فإنه يبقى هناك شيء واحد ثابت، هو ان اسواق المال العالمية أصبحت محميّة. فنحن نتحدث عن فقاعة تخسر خلال اسبوع واحد 100% من رأس مالها ثم تستعيده. وخلال يوم واحد، حين وقعت خسارة 800 مليار يورو، ثم تعاود الاسواق التعامل في اليوم التالي وكأن شيئا لم يكن، فهذا يعني بوضوح ان اسواق المال العالمية لا تسمح لهذه الفقاعة أن تُثقب. ففي يوم الثلاثاء، كل من كان يشتري من أسهم ذوجونز المنخفضة عند مستوى 11500 بعد خفض الاحتياطي الفيدرالي لمعدل الفائدة، لم يعد بوسعه شراء المزيد لعدم توفره بكل بساطة.
وبذلك يمكن القول إن الاسواق لا يمكن ان تنهار إلا إذا وقعت كارثة إنسانية بحجم الحادي عشر من سبتمبر 2001. والمسائل المالية لا تشكل أي خطر لأن البنوك المركزية يمكنها أن تضخّ السيولة المطلوبة.
إشاعات.. ومفارقة
منذ اغسطس عام 2007 دارت بعض الإشاعات المزعجة حول وجود مشكلات خطيرة في أحد البنوك الفرنسية، وذلك من دون تسميته. والمفارقة هي أن أحد أهم مجلات المخاطر في المملكة المتحدة منحت جائزة الى «سوسيتيه جنرال» في يناير بصفته بنكا يتميز بأفضل نظم ادارة المخاطر الذي يخدم مصالح عملائه بأفضل الطرق والأساليب.
iqbal.latif@gmail.com
القبس