في مثل هذه الأيام منذ عقود وتحديداً في الثامن من آذار عام 1963 أعلنت حالة الطوارئ والأحكام العرفية في سورية، وعلى الرغم من صدور دستورين مؤقتين عامي 1964 و1971 والدستور الدائم عام 1973، بقيت حالة الطوارئ ولا تزال حتى وقتنا الراهن الأساس الناظم لتعامل السلطة مع الدولة والمجتمع فارضة مناخات الاستثناء ومعطلة مواد أساسية في الدستور ولاسيما ما يتعلق منها بالحريات وحقوق النشاط السياسي والتجمع والتظاهر وغيرها، وأصبح أمر التوقيف العرفي هو المستخدم عند أي تحرك يتجاوز الحدود المسموح بها، ولا يغير اليوم من هذه الحقيقة أن يحال الموقوف فور اعتقاله الى محكمة عادية أو استثنائية لتقرر مصيره!
وإذ يحدد الدستور السوري شرطين اثنين لإعلان حالة الطوارئ، هما الحرب أو الكوارث العامة والزلازل، وحيث أن مجتمعنا هو اليوم موضوعياً خارج حالة الحرب في ضوء خيار استراتيجي معلن بالسلام وبعد خوض مفاوضات مباشرة مع إسرائيل في مؤتمر مدريد عام 1991، وحيث أن بلادنا هي اليوم، ونأمل أن تبقى أبداً، بمنأى عن الكوارث والزلازل، فإن بقاء حالة الطوارئ بات يشكل في حد ذاته مخالفة دستورية شجعت العديد من الفعاليات القانونية، وبعضها يحسب على السلطة نفسها، على المطالبة برفعها، ما يكشف الغرض الرئيس من الإصرار على استمرارها وهو دورها في ضبط الداخل وفي إطلاق يد الأجهزة التنفيذية والأمنية لإحكام السيطرة التامة عليه.
لا يمكن أن تجد تفسيراً شافياً لهذا التمسك المزمن بالقوانين والأحكام الاستثنائية على الرغم من نجاح النخبة الحاكمة وطيلة سنوات في بناء قوى وأجهزة قادرة، وإرساء حزمة متكاملة من القوانين والمراسيم والصلاحيات توفر لها حتى في حال رفعت حالة الطوارئ استمرار الهيمنة والسيطرة على مختلف أنشطة الحياة بصورة يصعب اختراقها بأي حال، هل الأمر يعود لما يخلفه ذلك من إرباكات وصعوبات لقوى وأجهزة تعودت لسنين طوال على إدارة البلاد دون قيود أو ضوابط، خاصة عندما تمتحن سطوتها أمام شرط جديد لا مكان فيه لاستباحة الاعتقال التعسفي وقهر المواطن والتنكيل بحقوقه، ولفرض ما تشاء من القيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والإقامة والتنقل، وفي مراقبة الرسائل والمكالمات الهاتفية والصحف والنشرات والمؤلفات والرسوم وجميع وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها! مثلما نص البندان آ وب من المادة 4 من قانون الطوارئ السوري؟!
وفي حال لم يكن السبب في الصعوبات والإرباكات الناجمة عن تغيير قواعد لعبة سياسية اعتادت السلطة على إدارتها وأخضعت الجميع لها، فهل يرجع الى تنامي مخاوف لديها بأن الأمور في حال رفعت حالة الطوارىء وتبدلت شروط السيطرة قد تفلت من اليد وتندفع نحو تطورات قد لا تحمد عقباها؟! أم لعل السبب يكمن أساساً في العقلية الوصائية السائدة التي حكمت حياتنا السياسية ولا تزال، والتي تضع مشروعية “حماية أهداف الثورة” فوق كل أمر واعتبار، فوق القانون وفوق حاجات الناس ومصالحهم، جاعلة من السلطة مرجعاً أحادياً لا مكان في دنياه لاحترام التعددية والرأي الآخر، وناشرة لدى الناس وعياً زائفاً بالقصور والدونية وبأنهم عاجزون عن اتخاذ القرارات السليمة ويحتاجون إلى حامٍ لتطلعاتهم الكبرى أو وصي ينوب عنهم في إدارة قضاياهم الوطنية والقومية.
ونسأل بأي حق تستمر معاملتنا نحن السوريين كأناس قصر ودون سن الرشد، ولماذا لا يحق لنا أن نعيش حياتنا في ظل قوانين عادية وطبيعية ؟! ثم على أي أساس تغدو حالة الطوارئ قاعدة ثابتة وراسخة في بلادنا، لا تطبق كما يعنيه اسمها بصفتها حالة طارئة أو مؤقتة، أو تستخدم فقط عندما تستدعيها الأسباب التي نص عليها الدستور لتعود الأمور الى طبيعتها بعد انتهاء الظرف الاستثنائي؟!
صحيح أن ثمة تعديلات أعلنت مؤخراً دعت الى ربط تطبيق قانون الطوارئ فقط بالحالات التي تمس أمن الوطن، لكن نعرف جميعنا كم هي مثل هذه العبارات، عامة ومبهمة ومطاطة، ويمكن شدها وتوظيفها بما يخدم حاجات النخبة الحاكمة للامعان في معاقبة خصومها ومعارضيها، خصوصاً في بلد تمكنت السلطة فيه من إظهار نفسها الوصي والوكيل الحصري على الوطن وأمنه، وفي بلد فقدت فيه السلطات القضائية استقلاليتها وباتت مرتهنة عضوياً لأصحاب القرار وليس للحق والقانون.
ونذكر في هذا الإهاب مفارقات طريفة حصلت مع المئات من السجناء الشيوعيين وهم أشد السياسيين دفاعاً عن الاشتراكية وقد أحيلوا الى محكمة أمن الدولة العليا وأنزلت بهم عقوبات قاسية بتهمة مناهضة النظام الاشتراكي! وغيرهم من القوميين الأقحاح وقد أدينوا وحكموا بتهمة معاداة الوحدة العربية!
ثم ما عليك اليوم سوى أن تتابع ما يجري مع بعض المعتقلين وهم من أشد أنصار الديمقراطية والسلم الأهلي وقد أحيلوا الى المحاكم بذريعة العصيان وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية، أو أن تلحظ كيف يتم إلغاء قرار قضائي بإخلاء سبيل البعض ويستمر سجنهم بعد تدبيج ادعاءات واتهامات جديدة، وأحدث مثال ما حصل مع ميشيل كيلو ومحمود عيسى وسليمان شمر وخليل حسين وجميعهم اعتقلوا بسبب توقيعهم على إعلان بيروت دمشق!
ثم إذا سلمنا جدلاً بأن ثمة جدية في تحجيم حضور قوانين الطوارئ والحد من دور الأحكام العرفية في الحياة العامة، أفلا يشكل مجرد بقاء حالة الطوارئ معلنة في البلاد، سيفاً مسلطاً على الرقاب يمكن اللجوء إليه متى شاءت السلطة ورغبت، أو لنقل أشبه برسالة صريحة بأن العقلية ذاتها مستمرة وبأن لا شيء تغيير أو يمكن أن يتغير، وأن الشروط الاستثنائية في إدارة البلاد هي حاضرة أبداً ضد أي طرف يستشعر النظام منه أدنى تهديد أو خطر!
ربما يبدو ضرباً من الخيال أو نوعاً من الأمنيات البعيدة أن يتوقع المرء رفع حالة الطوارئ في سورية وقد غدت صنو السلطة الحاكمة، فكيف إذا كان بعض السلطة يعتبرها خياراً بين الموت والحياة، والبعض الآخر لا يمكنه أن يتصور أسلوباً آخر غير القوة والقمع لضمان السيطرة والسيادة. الأمر الذي يضفي على مطلب رفع حالة الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية أولوية وأهمية خاصة لدى الديمقراطيين السوريين، ليس فقط بصفته غرضاً تكتيكياً لتحسين شروط العمل السياسي المعارض وكف يد الأجهزة الأمنية عن التدخل في كل شاردة وواردة، وإنما الأهم بصفته ممراً إجبارياً نحو خلق مناخ صحي يدشن مرحلة جديدة في حياة المجتمع تحكمها قوانين عادية ووضوح في الحقوق والواجبات، وتستند الى فصل السلطات واستقلاليتها والى سيادة حقيقية للقانون وأن لا أحد فوقه، لا الحكام ولا الثورات ولا المشروعية الوطنية، بما يوفر فرصة ضرورية في الظروف العصيبة التي نعيشها والتي يرجح أن تزداد صعوبة لكسر حاجز الخوف وقتل “البعبع” الذي تغلل عميقاً في نفوس البشر ونأى بهم عن دورهم في المشاركة وفي مواجهة التحديات المتعاظمة، خصوصاً وأن أجيالاً عديدة منهم لم تعش الحياة القانونية الطبيعية، فولدت وترعرعت وبلغت من العمر أكثر من أربعين عاماً وهي ترزح تحت وطأة قوانين الطوارئ والأحكام العرفية.
akrambunni@hotmail.com
*كاتب سوري
جريدة “الغد”