الصامت على الجريمة هو دائمًا شريك في ارتكابها. ولا أقصد هنا صمت البعض الذين يرزحون تحت سلطة تلك المافيات الإجرامية المستبدّة، بل أعني كلّ هؤلاء الذين يعيشون في بلاد أخرى ينعمون فيها برفاهية حرية التعبير عن الرأي. نعم، أعني كلّ هؤلاء الصامتين في الخارج.
بعث لي صديق فلسطيني
قبل مدّة برسالة تحتوي على رابط لتقرير مفصّل نُشر في صحيفة بريطانية عن علاقات بعض المنتمين للمعارضة السورية وارتباطاتهم بدوائر غربيّة. والصديق الفلسطيني هو ممّن يُطلق عليهم في العلوم السياسية مصطلح ”اليسار العربي“. ولا شكّ أنّ التحقيق الصحفي عميق ويكشف الكثير من الأمور التي لا تصل القارئ العربي. لا أشكّ في نوايا هذا الصديق لأنّي أعرفه وأعرف أنّها طيّبة وتصبّ في نهاية المطاف في مصلحة المجتمعات التي نطمح جميعًا في الوصول إليها. لكن، ليس هذا هو المهمّ.
أعرف لماذا أرسل لي الصديق ذلك الرّابط. إنّه يعرف موقفي من النّظام البعثي، ليس من اليوم، بل من سنوات طويلة سابقة، ويمكنني القول، منذ عقود. إذ أنّي عبّرت عن ذلك كتابة وفي أكثر من منبر وعلى رؤوس الأشهاد، بدءًا بالبعث العراقي وانتهاءً بالبعث الشامي.
لقد كنت أشرت مرارًا وتكرارًا
إلى هذا الدّجل البعثي وإلى زيف هذه الأيديولوجية العنصرية، في الوقت الذي كان فيه مراهقو العروبة يحجّون لتقديم الولاء إلى زبانية هذه الأنظمة المافيوزية، وينقلون الرسائل الإسرائيلية للأسد الأب والابن والأرواح غير القدسيّة المحيطة بهما، بل ويفتتحون مكاتب سياحية لزيارة الشام والمصادقة على أسماء السيّاح، مستغلّين عواطف النّاس الذين يرغبون في زيارة أقربائهم الذين شاءت الظروف السياسية في قطع الاتّصال بينهم.
لقد انقلب بعض هؤلاء المراهقين العروبيين الآن إلى ناحية أخرى ويظهرون في الصحف وعلى الشاشات بمظهر المناصرين للانتفاضة السورية. لا أريد أن أشكّك في مواقف هؤلاء الآن، غير أنّ النّظام البعثي الذي هلّلوا له في الماضي هو ذاته الذي انتقل من الأب إلى الابن. إنّه النّظام البعثي ذاته الذي أزهق عشرات الآلاف من الأرواح البريئة والمقدّسة منذ استلم السلطة. هل للبترودولارات القبليّة دور في ذلك؟ قد يكون، لا أدري.
إنّ صمت كلّ هؤلاء
في الماضي على الجرائم البعثية كان جزءًا من الدّرك الأخلاقي العروبي. لقد كان هؤلاء المراهقون العروبيّون يعلمون حقّ العلم عن كلّ جرائم البعث العراقي والشّامي ضدّ الأكراد في هذه البلدان، وصمتوا صمت القبور عليها. لقد كانوا يعلمون حقّ العلم الطبيعة القبلية لهذه الأنظمة الإجرامية المستبدّة، ليس تجاه الأكراد فقط، بل تجاه المذاهب والطوائف العربية الأخرى في تلك البلدان، ورغم ذلك فقد واصلوا الصمت.
الصامت على الجريمة هو دائمًا شريك في ارتكابها. ولا أقصد هنا صمت البعض الذين يرزحون تحت سلطة تلك المافيات الإجرامية المستبدّة، بل أعني كلّ هؤلاء الذين يعيشون في بلاد أخرى ينعمون فيها برفاهية حرية التعبير عن الرأي. نعم، أعني كلّ هؤلاء الصامتين في الخارج.
والأنكى من كلّ هؤلاء
هم صنف من هؤلاء ”اليساريين“، الذين ينعمون برفاهية الحرية في العالم البعيد عن الاستبداد. غير أنّهم لا يصمتون، بل يظهرون على الملأ منافحين عن الاستبداد العربي. فيا لها من سخرية! لا أدري كيف يمكن أن نصنّف هؤلاء، غير أنّ أقرب توصيف لحالهم هو أنّهم فصيلة غريبة عجيبة من المخلوقات العربية الدّاجلة.
هؤلاء ليسوا يسارًا بالمرّة، بل إنّهم في الحقيقة ينتمون إلى أيديولوجية أصولية هي أقرب إلى الدين منها إلى السياسة. ومثلما تقسم الأصولية الدينية العالم والبشر إلى ”نحن“ و”هم“ – نحن الخير وهم الشرّ. هكذا يقسم هؤلاء العالم، على غرار آيات الله الخمينيين، إلى الشيطان الأكبر والاستكبار مقابل أتباعهم من ”الأخيار“. يواصلون غيّهم في دعم هذه المافيات وذلك رغم كلّ الجرائم والأشرار التي ترتكبها. كما يواصل أتباعهم من جوقات الحمقى والمغفّلين بالتهليل لهذه المافيات ليل نهار.
وعود على بدء:
لقد أجبت على رسالة الصديق برسالة مقتضبة، بما معناه، ما الجديد في ذلك؟ وبكلمات أخرى: في السياسة والعلاقات الدولية هنالك دائمًا مصالح وأجندات وارتباطات، وهذا أمر مفهوم ومفروغ منه. غير أنّ كلّ ذلك لا يعني بأيّ حال أنّ النّظام البعثي يجب أن يبقى على صدور الشعب السّوري.
بالطبع، لجميع الدول مصالح هنا في هذه البقعة وفي كلّ مكان آخر. الدول العظمى الغربية والشرقية لها مصالح. والدول القوية غير العربية هنا في هذه البقعة لها مصالح أيضًا. وللدول العربية الأخرى، من العراق إلى مصر وإلى الخليج لها أيضًا مصالح في كلّ ما يجري. غير أنّ السؤال الأهمّ من كلّ ذلك والذي يجب أن يُطرح هو:
ما هي مصالح الشعب السوري؟
إذا رغبنا في استخدام المصطلح الإشكالي ”الشعب السوري“، فلا يمكن الحديث عن شعب ما دامت مافيا عائلية قبليّة تسيطر على مقاليد الأمور. نعم، إنّه أقرب توصيف لهذا النّظام الإجرامي. لا يوجد تصنيف آخر لنظام يقوم على الأعمام والأخوال والأصهار إلاّ تصنيف الجماعات المافيوزية. الغرابة لا تكمن في مسألة كيف انتفض النّاس على هذه المافيا الآن. الغريب في الأمر هو كيف صمتوا طوال كلّ هذه العقود على جرائم هذه المافيا؟
إنّ الخطر المُحدق بالشام في هذه الأيّام هو خطر التفتّت والتفكّك إلى مقاطعات مذهبية وعرقية. يجب ألاّ تغيب عن الذهن حقيقة أنّ خطر التفكّك هذا هو من صنع النّظام القبلي الإجرامي ذاته، لأنّه بنى وجوده على هذا الأساس أصلاً.
ولهذا السبب أيضًا،
يجب الحذر من الانجرار إلى هذا القاع المذهبي، الطائفي والعرقي. على العقلاء من المنتفضين السوريّين، بدءًا من قمّة المعارضة وانتهاء إلى القاع الشعبي، أن يكونوا عند حسن ظنّ السوريّين أنفسهم، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وأعراقهم. فهل سيكون هؤلاء حقًّا عند حسن ظنّ السوريّين، أم أنّهم سيُغرقون الشّام بأسرها في بحر الطائفية المقيتة من جديد؟
إنّ المسؤولية الملقاة على عاتقهم الآن هي اقتلاع هذا النّظام البعثي القبلي من جذوره وتحرير السوريّين، كلّ السوريّين، منه ومن مخلفّاته الإجرامية. فلا يمكن أصلاً أن ينوجد هنالك شعب سوريّ، بكلّ ما تحمله كلمة شعب من معنى إلاّ خارج الحدود الطائفيّة والعرقية.
وما لم يتمّ الانتقال إلى دولة المواطنة، التي تفصل الدين والعرق والطائفة والقبيلة عن الدولة، فلن تقوم للعرب دولة بما تعنيه الكلمة من معنى، ولن يقوم عندهم شعب أبدًا. بل سيظلّون هائمين على وجوههم في عداد الشراذم البشرية المتناحرة. هذه هي الحقيقة المرّة، وما سواها تفاصيل ثانوية.
والعقل ولي التوفيق!
*
نشر: ”إيلاف“، 9 أغسطس 2012
سورية، والدواهي التي تحت السواهي
الفقرة الأخيرة تلخص الحلول لجميع المشاكل التي نعاني منها قي هذه المنطقة من العالم و التي/اي هذه المشاكل/ نشات اصلا من التمييز بين مكونات المجتمع بكل الوانه و اطيافه.