لنعترف بداية أن مفهوم حقوق الإنسان لم يحظ في بلادنا بأي اهتمام طيلة عقود ولم يحتل، كجزء من المهام الديموقراطية، الحيز الذي يليق به كقيمة من قيم الذات البشرية وكعامل ناجع في تنمية المجتمع وتطوير قدراته، الأمر الذي يمكن إرجاعه الى سببين…
أولهما، إن السائد والطاغي في حياتنا السياسية والثقافية كان الإيديولوجية، وأكثرها حضوراً إيديولوجية وصائية تعطي الأفضلية المطلقة للمسألة الوطنية وتعتبر الديموقراطية، بما في ذلك حقوق الإنسان، مسألة نافلة أو أشبه بحاجة كمالية مستوردة لا يحتاجها مجتمعنا. ما أدى، إذا وضعنا جانباً لغة القمع السلطوية واندفاعات الحسابات الضيقة، الى إشكالية معرفية جوهرها شيوع ثقافة مشوهة خلقت تعارضاً مستحكماً بين مبدأ الحرية وحقوق الإنسان وبين المصلحة الوطنية، وبات الأمر كما لو أننا في أتون معركة شاقة لتحرير مفهوم الحرية وقيم حقوق الإنسان من كافة الاختلاطات والتشوهات التي تمنعه من التقدم والرسوخ.
فالنخبة الحاكمة التي نصبّت نفسها وصياً على مصالح الوطن ووكيلاً حصرياً على حاضره ومستقبله، نجحت في صوغ علاقة تعارض بين القضية الوطنية وبين الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتمكنت تاليا من سحق أو تفتيت بذور الحرية والتعددية السياسية بدعوى أنها بدعة غربية تهدد أمن المجتمع واستقراره وتضعفه في مواجهة الهجمة الإمبريالية والصهيونية، كذا…!!.
وبلا شك يعرف الجميع أن تمظهر النخبة الحاكمة بالمظهر الوطني الحريص والمتشدد، وما رفعته من شعارات أحادية مثل “الوطن في خطر” و”مصلحة الوطن هي المصلحة العليا” شكّلت سلاحاً ناجعاً لضبط الأوضاع الداخلية أكثر مما استخدمت في الخنادق وساحات القتال، بل وكانت بمثابة حصان رابح امتطته السلطة الشمولية لتصل إلى مآربها الخاصة، وتعزز أسباب استقرار سلطانها وتصون ما جنته من مكاسب ومغانم. والنتيجة نبذ أشكال الحياة الديمقراطية وتشديد القبضة القمعية على الشعب وشن حملات مستمرة من الإقصاء والتصفية بما في ذلك ممارسة أشنع الصور لانتهاكات حقوق الإنسان طاولت معظم الفعاليات والشخصيات الديمقراطية دون أن يشفع لهذه الأخيرة الدم الغزير الذي سفكته دفاعاً عن حرية أوطانها أو التضحيات الجسام التي قدمتها على مذبح الصراع مع العدو الصهيوني.
صحيح أن النخبة السياسية الحاكمة نجحت في اكتساب مشروعيتها عندما قدمت نفسها بصفتها نخباً وطنية وذات رسالة قومية، لكن الصحيح أيضاً أن الشروط تغيرت وبانت النتائج محبطة لخطابات وطنية وقومية ومخيبة للآمال ورثتنا واقعاً عاجزاً ومأزوماً. ولم تعد تجدِ نفعاً محاولة إثارة المشاعر الوطنية والتعبئة بشعارات وطنية مفعمة حماسة ضد الضغوط الأمريكية والتهديدات الإسرائيلية، للتهرب من استحقاق التغيير ومن موجبات احترام حقوق الإنسان وقواعد الحياة الديمقراطية.
ثانياً، واقع الفكر المعارض الذي لا يزال متردداً أو مقصراً إلى حد الآن في إحداث قطيعة معرفية مع أفكار الماضي وتصوراته، خاصة لجهة الدفاع عن جديد العلاقة بين النضال الوطني وبين الحريات وحقوق الإنسان، وإعطاء هذه الأخيرة الأولوية التي تستحقها. فعلى الرغم من مرور زمن غير قصير على انهيارات الدول الاشتراكية وما خلفته من دروس وعلى ثورة الاتصالات وتعزز مكانة العولمة الاقتصادية وانتشارها في حقول السياسة والثقافة، ثمة من لا يأخذ في الاعتبار المعنى الحقيقي للقول بأن العالم أصبح قرية صغيرة ليستمر في الترويج لأوهام الماضي عن السيادة والاستقلال والمسألة الوطنية كصورة من صور الانعزال عن الغرب الرأسمالي ومقارعته ورفض قيمه ومفاهيمة. بينما الحقيقة تقول إنه بقدر ما ازداد حجم انتقال السلع والناس والرساميل والتقانة والمعلومات بقدر ما تحررت الثقافة والأفكار من العبء الأيديولوجي واختُصرت المسافات وضُعفت الحدود والموانع الذاتية بين الدول، ليتحول العالم من غلبة منطق الخصوصية والسيادة الذاتية إلى غلبة المنطق الكوني العام وتفاعلاته، ولتحتل القيم والحقوق الإنسانية العالمية أسبقية ملموسة في معايرة شرعية النظم وسوية تطور الدول المختلفة.
ويصح القول إن حضور قيم عالمية مشتركة وحقوق شبه موحدة للإنسان بصورة عامة، أخذت أبعاداً جديدة بعد التحولات الكبرى التي عرفتها البشرية في العقدين المنصرمين، ويلحظ بعد انتهاء مناخات الحرب الباردة وشيوع الأفكار الديموقراطية وقيم الحرية عالمياً تنامي حس عام راغب في محاكمة أساليب الصراع السياسي ومعايرتها إنسانياً، الأمر الذي ساهم الى حد ما في تبلور رأي عالمي يضع حياة الإنسان وحريته في مركز القلب من كل اهتمام. وثمة من ذهب إلى حد اعتبار ما يحدث من تطور في شبكات الاتصال والتفاعل الكثيف بين المجتمعات يسير بنا نحو إلغاء حدود الدول ويؤدي إلى ظهور ما يشبه مجتمعا عالميا واحدا ونمو حقوق ذات قيم إنسانية موحدة، ما فسح في المجال لبروز تيارات سياسية وجمعيات مدنية وحقوقية تنادي بواجب تطبيق المعايير المشتركة حول حقوق الإنسان والتعاون في ردع كل من ينتهكها. وقد دفع البعض موقفه الى النهاية في ربط جديد بين مفهومي الوطن والديمقراطية، بالقول إن وطنه حيث يجد حقوقه وحريته وكرامته مثيراً الدعوات لانبثاق دور أممي مركزي يملك الحق في التعامل مع أي طرف يهدد المشروع الإنساني وقيمه العامة.
في ضوء ما سبق فإن التأسيس لقاعدة فكرية وأخلاقية جديدة لمفهوم حقوق الإنسان يحتاج أول ما يحتاج الى نقد الذات والعقليات الإيديولوجية الوطنية كضرورة لا مفرّ منها لتنظيف البيت من الوعي الاقصائي العتيق، ما يقود منطقياً وعملياً إلى رفض أي تحديد أو تحجيم لمفهوم حقوق الإنسان تحت حجة الخصوصية أو بدعوى أولوية المسالة الوطنية، أو غيرها من الحجج والذرائع. هذه الحقوق تبدأ من حيث الجوهر بالاعتراف بالإنسان بصفته روحاً بشرية جديرة بالحياة والاحترام التام، بغض النظر عن اللون والجنس والعرق والمعتقد، انتهاء بالاعتراف به بصفته ذاتاً حرة وندّاً ذا حقوق متساوية نابعة من حقوقه الطبيعية في الحرية والكرامة والاجتهاد.
وهذه الحقوق لا تتعارض تالياً مع أية مهمة أو هدف وطني بل على العكس هي السند الحقيقي والداعم للانتماء الوطني، فإشاعة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هي قوة للوطن لا قوة عليه، والبديهي أن قوة الوطن تتكامل مع حرية المواطن وحقوقه، ولا يستقيم الذود عن البلاد وصيانة الاستقلال ومواجهة تحديات البناء والتنمية عبر روح قهرية تحجب حق الآخر وحريته أو تسحق شعوره الإنساني بالانتماء الطبيعي المتساوي.
وفي هذا الإهاب، إذا تجاوزنا دور القمع والاستبداد، فإننا نقف أمام ضرورة الاعتراف أيضاً بأن العقل المعارض يحمل الأمراض ذاتها في موقفه من الكائن البشري، ولا يزال يستسهل التضحية بالإنسان وحقوقه على مذبح رؤية سياسية أو ما يعتبره هدفاً نبيلاً، الأمر الذي يستدعي، بداية، العمل على نشر ثقافة جديدة تقول بالتشديد دون تهاون على أن الأعلى والأنبل في دنيانا هو الكائن الإنساني، الكائن الماثل من جسد وعقل وروح، وليست الأفكار بحد ذاتها مهما تبلغ من رقي ونبل، خاصة وأن التجربة التاريخية أثبتت غير مرة أن أصحاب المبادىء العليا أنفسهم كانوا الأكثر استعداداً للتحول إلى طغاة باسم القيم والمرامي العليا نفسها، طالما أن الغاية عندهم تبرر الوسيلة، وعلى مذبحها يستسهل تقديم القرابين البشرية بلا حساب!!
ولعل ما نحتاجه اليوم لنصرة حقوق الإنسان هو عملية سياسية وثقافية كبيرة تطلق آفاقاً جديدة لصالح إعلاء شأن الحياة والحرية والإنسان في مواجهة طغيان الإيديولوجية وغطرسة المصالح الضيقة وحماقة القوة، تتجه أساساً نحو البشر، لتقوية إيمانهم بحقوقهم ولبعث الثقة بأنفسهم وبجدوى دورهم. ذلك يستدعي تعاون كافة القوى الديموقراطية لإضاءة مقومات هذه العملية وإنضاجها على صعيد خطابها ومبادراتها وآلياتها، على أمل أن تكون مقدمة لمشروع نهضوي جديد يساعد على انتشال المجتمع من الحال البائسة التي وصل إليها.
akrambunni@hotmail.com
دمشق
المستقبل ـ نوافذ