التعارض بين العقل والنقل، أو بين العقل والوحي، قد يكون أحد أوجه الصراع بين التيار الديني التقليدي والتيار العقلاني في تفسير معنى الحياة وتطوراتها، بل في تحديد المعنى من تشكيل حالة دينية قادرة على استيعاب تطورات الحياة وتقدمها.
في هذا الإطار يطرح المفكر المصري الراحل نصر حامد أبوزيد رأيا يقول فيه أن تاريخ الثقافة الإسلامية ظل حريصا على نفي أي تعارض بين الوحي والعقل، مشيرا بأن النقل إنما كان يثبت بالعقل، وأن العقل كان الأساس في تقبل الوحي.
وجاء في “الكشاف” لمجلس النشر العلمي التابع لجامعة الكويت في دراسة سميت بـ”الأصولية” حول العقل والنقل، أن العلاقـة بين اجتهاد العقل ونصوص الوحي قائمة على حاكمية الوحي ومحكومية العقل. وأن حاكمية الوحي تعني أن الوحي هو مصدر التشريع للحياة، وليس هناك مصدر آخر معه أو من دونه، وليس لأحد أن يشاركه في ذلك. وأن الحاكمية بهذا المعنى مبدأ من مبادئ العقيدة، ويترتب على الإيمان به وجوب الاحتكام إلى الله ورسوله، والسمع والطاعة لحكم الله. وأن اجتهاد العقل هو: جهد من ذوي أهلية سعياً لاستنباط الأحكام من النصوص، ولا ينشيء أحكاماً جديدة، والتشريع لله وحده. وأن الوحي أعطى للعقل مجالاً واسعاً، وبين أهميته في مجال الاجتهاد، كما حدد له حدوداً لا يتجاوزها في الاجتهاد والتعامل مع النصوص، ووضع له مجموعة شروط توكله للقيام بهذه المهمة.
يبدو فيما يمكن الإشارة إليه من بعض ما جاء في الموضوعين، أن الفارق بين ما يقوله أبوزيد وبين ما تطرحه الدراسة “الأصولية”، هو أن الوحي يتبع العقل عند أبوزيد ولا يمكن أن يحيد عنه، بل لا يمكن قبول الوحي إلا من خلال العقل. فيما العقل هو الذي يخضع للوحي في الدراسة “الأصولية”، ويقع تحت إمرته، وهو ما قد يؤسس لظهور فئة خاصة ووحيدة هي التي تستطيع أن تتحدث باسم الوحي وباسم حكم الله، لكي يصار إلى إخضاع العقل لها، ومن ثم إخضاع المجتمع والدولة والعالم لها، وفي عرف ونهج التيار الديني التقليدي فإن هذه الفئة هي فئة رجال الدين، الذين تمت الإشارة إليهم بمصطلح “ذوي الأهلية”، ممن يستندون إلى عقولهم في استنباط أحكام من النصوص، والتي هي عملية ممنوعة على غير المنتمين إلى هذه الفئة، رغم أن مصطلح رجل الدين هو في حد ذاته مبهم وغير خاضع لشروط علمية خاصة متفق عليها إضافة إلى الاختلاف حول بعض تلك الشروط بين المذاهب والطوائف الدينية.
إن الفارق بين الاثنين يتجلى في أن الأول يريد للوحي أن يكون متوافقا مع طبيعة الإنسان من خلال عقله، وأن هذا العقل لا يخص فحسب عقل رجال الدين إنما العقل العلمي البشري الحر الصانع للتأويل. فيما الثاني يريد للوحي أن يكون مهيمنا ووصيا على العقل، وهذه الوصاية لا تتحقق إلا من خلال هيمنة وتسلط رجال الدين. لكن الرأي الثاني يعبر عن تناقض واضح، إذا يطالب بتبعية العقل للوحي، في حين يعتقد أن هذه التبعية تعالج من خلال عقل أناس خاصين هم رجال الدين، وكأنه يقول أن عقل رجال الدين هو الوحي، وأن الوحي هو عقل رجال الدين!!
إن أبوزيد يعتقد أن أولى محاولات إلغاء العقل لحساب النقل تعود إلى حادثة رفع المصاحف وتحكيم القرآن من جانب الأمويين في موقعة “صفين”، حيث يعتبر ذلك نقلا للصراع من المجال السياسي إلى مجال الدين والنصوص، وهو ما أدى في نظره لتحول العقل إلى تابع للنص.
نعم. لقد استمر هذا الإلغاء حتى وقتنا الحاضر وأصبح جزءا من الدين تحت عنوان تابعية العقل للنص الديني. إن هذه التابعية تبدو واضحة جدا في التجارب السياسية والاجتماعية والفكرية التي نسمع عنها ونعيش واقعها. إيران والسعودية والسودان وأفغانستان وغيرها، مليئة بتجارب تؤكد أن النص الديني هو الذي يفصل في النزاعات الدينية وغير الدينية، وهو ما يشير إلى أن العقل لا يزال تابعا للنص، وأن رجل الدين الذي يمثّل النص هو الذي له الكلمة الفصل في هذا النزاع، وأن الصراعات الدنيوية أصبحت وفق أصحاب “الإسلام دين ودنيا” وبقدرة قادر صراعات دينية الهدف الرئيسي منها هو السيطرة على الإنسان وإخضاعه وإمعان الوصاية عليه.
إن “الدين المنفلت من عقال العقل”، حسب المفكر التونسي العفيف الأخضر، يتحول إلى “خرافة وإرهاب”. والتجارب السياسية والاجتماعية في المجتمعات التي تخضع لرجال الدين أو يسعى هؤلاء لإخضاعها لسلطتهم وسلطانهم تدلل على تأسيس إرهاب ديني، تشريعي وتنفيذي، انطلاقا من سعي رجل الدين للهيمنة على الحياة تحت عنوان الخضوع للوحي أو “التحكم السلطوي” باسم النص الديني. ويؤكد الأخضر بأننا نعيش الخرافة والإرهاب الآن في أرض الإسلام “في الهذيان الفصامي عن اقتراب نهاية العالم بعودة الإمام الغائب في إيران (الشيعية)، وبالمعركة الفاصلة بين المسيح والمسيح الدجّال في فلسطين عند السنة”.
من شأن السلطة الدينية حينما تتحول إلى سلطة مسيطرة على جميع شؤون الحياة، أي إلي سلطة شمولية، أن تحول الحياة إلى جحيم لا يطاق، حياة تفتقر إلى أبسط صور الاختلاف والتعدد، حياة مستبدة، تُفرض هذه السلطة مفهوم الواحدية بأسلحتها المتعددة الأرضية والسماوية ومن ضمنها سلاح النقل، لأن العقل أصبح تابعا للنقل، ولأن النقل لا يمكن أن يفسره ويشرحه ويجعله إلهيا وقابلا للتحقيق إلا رجل الدين، ومن ثم لا يتأتى هذا التحقيق إلا من خلال السلطة، ومن ضمنها السلطة السياسية. فتحكيم النصوص في المجال السياسي، حسب أبوزيد، يؤدي إلى “شمولية” النصوص وإلى “هيمنتها”، وهو ما يؤدي إلى “القضاء على استقلال العقل بتحويله إلى تابع يقتات بالنصوص”.
إن ما يدافع عنه أبوزيد ليس إلغاء النقل لحساب العقل، كما يتوهم البعض أو يزعم، إنما يدعو إلى “التحرر من سلطة النصوص، سلطة الماضي الطاغية التي تحتمي بها الديكتاتورية والطغيان والاستبداد، ويزدهر تحت مظلتها الفساد”. وهذا التحرر لا يعني عند أبو زيد “إلغاء للنصوص أو دعوة للتخلص منها، بل دعوة لتسليط ضوء العقل عليها، وقراءتها قراءة سياقية في ضوء تاريخها وتاريخ الفاعلين الاجتماعيين الذين أنتجوها”، لكي لا تتحول إلى أداة بيد رجال الدين يسلطون من خلالها سيف الهيمنة والتحكم في رقاب الناس. فالخطاب الديني حسب أبوزيد “منع العقل الإنساني من التواصل تأويلا مع الخطاب الإلهي المنزّل بلغة الإنسان، وهو ما أدى إلى تعميق الهوة بين الإلهي والإنساني، وإعادة صياغة المفاهيم الدينية بإعادة تأويلها لتصب في أيديولوجيا الحاكمية، التي تحث على إلغاء فاعلية العقل وتسليم الإنسان مقيدا إلى سلطة من نمط خاص” هي سلطة رجال الدين.
*نعزي جميع السائرين في درب الإنسانية فَقدَ المفكر الكويتي الدكتور أحمد البغدادي..
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي