لا خيار آخر امام لبنان غير التزام القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الامن التابع للأمم المتحدة صيف العام 2006. أوقف القرار “الاعمال العدائية” في مرحلة معيّنة. كان القرار كافيا كي يتوقّف العدوان الإسرائيلي على لبنان، وهو عدوان استهدف تدمير قسم من البنية التحتية للبلد.
أسس القرار لحرب جديدة، كما اسّس، بسبب شموله كلّ حدود لبنان، لتحصين البلد. ما الذي سيختاره لبنان، او على الاصحّ “حزب الله” الذي كان وراء حرب صيف 2006 التي عادت بالويلات على البلد والتي اوقفها القرار؟ الخيار واضح. انّه بين استخدام القرار 1701 لحماية البلد وبين ابقائه “ساحة” لإيران، كما كان سابقا “ساحة” للنظام السوري يستخدم فيها السلاح الفلسطيني وغير الفلسطيني للسيطرة على البلد وتمزيق المجتمع. الفارق في هذه المرحلة انّ ايران تستخدم سلاح “حزب الله” لتحقيق الاغراض نفسها التي كان يعمل من اجلها النظام السوري الذي عرف كيف يناور وصولا الى السماح له بالدخول العسكري الى لبنان والبقاء فيه طويلا، بل طويلا جدّا.
كان لبنان في حاجة ماسة الى ذلك القرار بعد حرب افتعلها “حزب الله” في مرحلة كان على الحزب، ومن يقف خلفه، يلجأ الى كل نوع من الارتكابات والمناورات لتغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط ـ فبراير 2005.
لدى صدور القرار 1701، تنفّس “حزب الله” الصعداء ورفع شارة النصر. لم تكن إسرائيل تعترض على ذلك. كان مهمّا بالنسبة الى الحزب الانتصار على لبنان وتأكيد انّه ملأ الفراغ الأمني الناجم عن الانسحاب العسكري والأمني السوري نتيجة اغتيال رفيق الحريري. كان مطلوبا تدجين لبنان ايرانيا بعد سقوط النظام الأمني ـ السوري اللبناني ورموزه المعروفة اثر نزول كلّ لبنان الى الشارع في الرابع عشر من آذار ـ مارس 2005.
كان الانتصار على لبنان النتيجة الحقيقية لتلك الحرب. هذا الانتصار على لبنان جعل الحزب يوافق على “كلّ كلمة وردت في القرار” الذي استهدف حماية لبنان، بما في ذلك طول الحدود القائمة بينه وبين سوريا. وعبارة “كل كلمة وردت في القرار” اكّدها الرئيس سعد الحريري الذي شدّد عليها غير مرّة من دون ان يعترض عليه احد انّ من الحزب وان من خارجه.
كانت حرب صيف 2006 حلقة أساسية في الانقلاب الذي قاده “حزب الله” منذ اغتيال رفيق الحريري لاسباب إقليمية اوّلا مرتبطة بالمشروع التوسّعي الايراني الذي كانت له انطلاقة جديدة بعد حرب العراق في 2003. كانت نتيجة تلك الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة وصولا الى القبض على صدّام حسين ثمّ إعدامه انتصارا إيرانيا باياد أميركية. حقّقت ايران انتصارا تاريخيا على العراق عندما أوصلت سياسيين تابعين لها الى السلطة على الدبابة الاميركية. انهت الحاجز الذي كان يقف بينها وبين اجتياح المشرق العربي، بما في ذلك سوريا التي حافظت في عهد حافظ الأسد على نوع من العلاقات المتوازنة مع طهران في لعبة ابتزاز متبادلة بين الجانبين. انتهت هذه اللعبة بين دمشق وطهران لمصلحة ايران بمجرّد اغتيال رفيق الحريري بغطاء وفّره بشّار الأسد الذي كان يكره الرجل الى ابعد حدود كونه عربيا اصيلا يعرف جيدا انّ سوريا لا تمكن ان تبقى الى النهاية في الحضن الايراني في مرحلة ما بعد حافظ الأسد.
لا يمكن الاستخفاف بما يحصل هذه الايّام من تحرّش بالقوة الدولية في جنوب لبنان. تريد ايران تفسيرا خاصا بها لنص القرار 1701 الواضح كلّ في الوضوح في شأن تأكيد انّ لا سلاح في جنوب لبنان غير سلاح الشرعية اللبنانية.
كان هناك دائما رفض إيراني ـ سوري لترسيم الحدود اللبنانية ـ السورية ولنشر القوة الدولية على طول هذه الحدود. لم يكن قبول “حزب الله” بالقرار 1701 سوى قبول موقت من اجل تمرير مرحلة معيّنة ينصرف بعدها الحزب الى استكمال وضع اليد على لبنان. لذلك، جاء بعد حرب صيف 2006 الاعتصام في وسط بيروت بهدف تعطيل الحياة الاقتصادية في البلد وليس في بيروت وحدها. جاءت بعد ذلك غزوة بيروت والجبل في أيار ـ مايو 2008. استهدفت تلك الغزوة بث الرعب في صفوف السنّة والدروز وذلك بعد إيجاد غطاء مسيحي ملائم للمشروع الايراني في لبنان.
في ظلّ التجاذبات التي يشهدها لبنان حاليا، ليس مهمّا ان تتأخر الانتخابات النيابية شهرا او شهرين او ثلاثة. يمكن لهذه الانتخابات ان تحصل في تشرين الاوّل ـ أكتوبر او تشرين الثاني ـ نوفمبر. نعم القانون الانتخابي مهمّ. المهمّ في الامر ان يكون قانونا عادلا فعلا وليس على قياس “حزب الله” وطموحاته.
المهمّ ان تجري انتخابات، مثلما كان مهمّا انتخاب رئيس للجمهورية في ظلّ معادلة ليس معروفا الى أي درجة يمكن ان تصمد في وجه المطالب الايرانية. الاهمّ من الانتخابات امران. الاوّل ان لا يفرض “حزب الله” قانونا يؤمّن له السيطرة على مجلس النوّاب كي يحقّق في 2017 ما عجز عن تحقيقه في 2009عندما منعه سعد الحريري من الحصول على أكثرية نيابية. امّا الامر الآخر الذي لا يقلّ اهمّية فهو بقاء القرار 1701 سلاحا في يد الشرعية اللبنانية ممثلة بمؤسسات الدولة التي اسمها “الجمهورية اللبنانية” وليس في يد حزب همّه الاوّل والأخير إبقاء لبنان رهينة لدى ايران.
باختصار شديد، ان القرار 1701 سلاح في يد لبنان. لكنّه سلاح يمكن ان يستخدم ضدّه أيضا. هناك فقرات عدّة في القرار تؤكد دعم السلطة الشرعية اللبنانية على كل الأراضي اللبنانية وليس في الجنوب وحده.
ما يُفترض باللبنانيين الذين يتذكرون هذه الايّام تظاهرة الرابع عشر من آذار ـ مارس 2005 والتي كانت ردّا شعبيا كاسحا على خطاب “شكرا سوريا” الذي القاه الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في الثامن من آذار ـ مارس، ان بلدهم ليس محط انظار العالم والبؤرة التي يركّز عليها كلّ اهتماماته. طغت احداث سوريا المرتبطة باحداث العراق على كلّ ما عداها. صار لبنان تفصيلا صغيرا. ليس لديه من سلاح يحميه غير سلاح الشرعية اللبنانية وليس لديه من غطاء دولي غير القرار 1701 الذي يستأهل ان يعيد كلّ لبناني وكل مسؤول كبير ووزير ونائب قراءة نصّه مجددا قراءة متأنّية.
كلّ ما عدا ذلك أوهام، من نوع القدرة على تحرير فلسطين انطلاقا من جنوب لبنان. كلّ ما عدا ذلك سقوط في فخّ إيراني عنوانه “الساحة اللبنانية”. لبنان بالنسبة الى ايران مجرّد “ساحة” تصلح ان تستخدم في حروب الآخرين المستعدين لجعل اللبنانيين وقودا في معارك لا افق لها باستثناء انّها تحرق بلدهم الصغير كي تحيا “ولاية الفقيه” وتتمدّد خارج ايران.