في حصيلة لقاءات مع مناوئين للنظام السوري، ومن خارج الأطر التنظيمية الحزبية المتداولة للمعارضة السورية، ثمة ترقب خلال الايام والاسابيع المقبلة لتصعيد عسكري امني من قبل قوات النظام السوري سيضاعف من اعداد القتلى والجرحى، بما يتجاوز ما شهدته الاسابيع القليلة الماضية. وهو تصعيد سيواكب الحراك الدولي بعدما انتقل الملف السوري بشكل شبه كامل من الجامعة العربية الى مجلس الامن، وبعد إدراك النظام السوري أن التصعيد الامني والعسكري هذا، اذ يعبر عن عجزه عن انهاء الانتفاضة الشعبية المستمرة منذ نحو 11 شهرا، يكشف ايضا ان سقوط آلاف المدنيين السوريين واعتقال عشرات الآلاف الآخرين يثبتان ان دينامية الانتفاضة السورية تنتمي الى دينامية مجتمعية لا تحكمها البنى التنظيمية الهرمية او الحزبية السياسية او الامنية.
القول ان المعارضة داخل سورية ليست هي من يقود التحركات الشعبية او الامنية هو مكمن قوة الانتفاضة السورية اليوم، فالبنية الحزبية للمعارضة في سورية غير موجودة بسبب عملية تصفية منظمة مارسها “النظام” ضد معارضيه الاسلاميين وغير الاسلاميين طيلة اربعة عقود على الاقل، ونجح في القضاء على الحياة الحزبية المعارضة التي كان التعبير عنها بمثابة مسّ بالامن القومي وجرم يقتضي عقوبة السجن، إن لم يكن الاعدام.
هكذا أمِن “النظام” من قيام أحزاب معارضة له، لكن المجتمع السوري، في ظل انسداد الافق السياسي الا من نافذة البعث، سيجد بدائله ووسائله في مقاربة الشأن العام بوسائل تقليدية تنتمي الى دينامية المجتمع، كالعشيرة والاطر الدينية غير السياسية والتجار، والمزارعين واصحاب المهن الحرة وغيرها، وهي مما تمتلك السلطة نفوذا فيها، وهي أيضا مساحة صراع بين السلطة والشعب وليس بين السلطة والمعارضة بطبيعة الحال. مساحة صراع خفي لم يبدأ مع هذه الانتفاضة اليوم، بل برز قبل نحو عقدين عندما اتاح نظام البعث في عهد الرئيس حافظ الاسد امكانية ترشح مستقلين الى مجلس الشعب وبنسب ضئيلة لا تؤثر في وجهة المجلس. ورغم هذا التعديل، المحدود والمحاصر والمخترق والمراقب، برزت ديناميات اقتصادية واجتماعية لم تعلن اعتراضها على النظام بل والته، لكنها كانت تركز على انها ليست البعث.
هذه الخطوة بقيت محدودة التأثير في مسار السلطة بسبب حجمها المحدود في الدولة وكبح النظام لها. لكنها عادت وبرزت بشكل آخر، عندما سمح الرئيس بشار الاسد باطلاق المنتديات في بدايات حكمه. ولكن ما لبث ان استشعر النظام ان هذا السماح اطلق حيوية في كل المدن السورية عبر مئات البيوت التي تحولت الى مساحة حوار، فسارع الى سد هذه النافذة ونفذ حينها ما يعرف باعتقالات “ربيع دمشق”، ومعها إغلاق منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي بالقوة، وكانت هذه رسالة مفادها أن النظام لا يريد أن يسمع صوتا غير صوته.
بين هاتين التجربتين اللتين تظهران حيوية سياسية للمجتمع السوري، وديناميات الحراك من خارج البنى الحزبية للمعارضة فضلا عن حزب البعث واحزاب جبهته الوطنية، يمكن فهم ان ما يجري في سورية اليوم اصاب مقتلا في النظام. فالاخير اقرب الى الجهاز الامني منه الى نظام سياسي، والمجتمع الذي خبر وسائل قمع هذا النظام طيلة عقود بات على ما يبدو يُفقد النظام قدرته على كبح انتفاضته. فالنظام الامني السوري لا يمكن ان تقف في وجهه مجموعات عسكرية، او بنى تنظيمية هرمية او طليعة حزبية، او مجموعات متسللة من خارج البلاد. هذه الاشكال من العمل هي افضل ما يتقن مواجهته جهاز امني سوري، وفكفكته والقضاء عليه، والسجون السورية كانت شاهدا على فشل هذه الوسائل ضده في العقود الماضية.
اليوم يكتشف النظام، رغم عشرات الآلاف ممن اعتقلهم منذ انتفاضة كرامة ابناء درعا، انه يواجه مجتمعا لا مجموعات منظمة ومترابطة تحكمها بنية هرمية. يواجه بنية اجتماعية تشكل قيم العشيرة الناظم الرئيسي للعلاقات بين ابنائها: انتفاضة ابناء درعا لم تكن سياسية في بدايتها، بل لانتهاك النظام وشبيحته كرامتهم فانتفضوا. والتسلح في هذه البيئة ليس جديدا، فهي تستخدم السلاح في اطار الدفاع عن الشرف والكرامة وللثأر ايضا. لذا يؤكد بعض السوريين ان العديد من شباب الاحياء والمدن عمدوا الى اقتحام مراكز امنية، واستولوا بشكل فردي على السلاح وصادروا ايضا بعض مخازن السلاح، كردّ فعل على انتهاكات مارسها القائمون على الناس. واستخدام السلاح يأتي كتعبير مجتمعي وليس في اطار منظم او موجه سياسيا وحزبيا. ونظام العلاقات الذي يواجهه النظام لدى المنتفضين هو ابن منظومة المجتمع السوري بكل مكوناتها الاجتماعية ونظام علائقها: ليست ثورة يقودها حزب ولا زعيم بل انتفاضة مجتمع وشعب، لذا لا يمكن هزيمتها، بل يمكن إبادتها، وهو ما فشل على مرّ التاريخ الحديث، بدءا من النازية، مرورا بالصهيونية، وصولا إلى اليوم.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد