ما أن قضى الجيش السريلانكي في وقت سابق من العام الماضي قضاء مبرما على حركة التاميل الإنفصالية، منهيا بذلك حربا أهلية دامت قرابة ربع قرن، وراح ضحيتها ما لا يقل عن 150 ألف قتيل، ناهيك عن الدمار الذي أحدثته في البنى التحتية، والاستنزاف الذي خلقته لموارد البلاد المحدودة، والتخريب الذي أوقعته في القطاعين السياحي والإستثماري، حتى لاح ما يشبه التنافس الساخن بين القوى السياسية و الرموز العسكرية من أجل إستثمار الإنجاز المذكور للوثوب إلى السلطة أو البقاء فيها لآجال أطول.
فرئيس البلاد الحالي “ماهيندا راجاباكسا” الذي تنتهي ولايته في نوفمبر 2011 ، ومن خلفه حزبه السياسي الحاكم (حزب حرية الشعب المتحد)، سارع إلى الإدعاء بأن النصر ضد نمور التاميل لم يكن ليتحقق لولا سياساته الرشيدة معطوفة على الخطط العسكرية الحكيمة التي وضعها شقيقه “غوتابايا راجاباكسا” وزير الدفاع، بل قام بالدعوة إلى إجراء إنتخابات رئاسية مبكرة في 26 يناير الجاري أي بعد يومين، في محاولة مستميتة منه لإستثمار الشعبية التي تحققت له من وراء عودة السلام إلى البلاد في كسب فترة رئاسية أخرى، قبل أن تنسى الجماهير الحدث وتلتفت إلى امور سلبية طبعت عهده.
أما قائد الجيش الجنرال “سارات فونسيكا” (58 عاما) والذي شغل هذا المنصب منذ عام 2005 وحتى تقاعده مؤخرا، فهو الآخر، ومن ورائه حزب المعارضة الرئيسي (الحزب الوطني المتحد) و القوى الماركسية ممثلة في حزب “جاناتا فيموكتيبيرامونا “، وجدها فرصة مواتية لإستثمار ما تحقق في خوض السباق الرئاسي، قائلا أنه هو الأجدر بقيادة البلاد. وهو لئن إعترف أن النصر ضد التاميل تحقق بتوجيهات “راجاباكسا” السياسية، فإنه إتهم الأخير بالفساد والمحاباة والنزوع نحو الديكتاتورية، وقطف ثمار ما زرعه غيره بالعرق والدم والدموع، مذكرا الجميع بأن “راجاباكسا” بدلا من أن يكافأه على خططه الحربية الناجحة ومشواره العسكري المتميز الطويل (40 عاما من الدراسة والخبرة والتدرج في الرتب العسكرية)، حاول إزاحته بمنحه حقيبة وزارية هامشية (وزارة الشباب والرياضة) بعد أن شكك في ولائه، وزعم كذبا أنه يعد لإنقلاب عسكري. بل حاول التخلص منه بطريقة غير مباشرة وذلك حينما خفض من أعداد الحرس المخصصين لحمايته وحراسة منزله من 600 عنصر إلى 25 عنصرا فقط، على الرغم من التهديدات الموجهة ضده من قبل بقايا جماعة نمور التاميل. وفي هذا السياق لم ينس “فونيسكا” من الإشارة إلى أن القوى الموالية للرئيس قد تغتاله مع إقتراب موعد الإقتراع، وتلصق الجريمة بنمور التاميل.
بطبيعة الحال لا يوجد في النظام الديمقراطي السريلانكي ما يمنع تولي عسكري سابق مثل “فونسيكا” منصب الرئاسة، طالما أن أقوى ديمقراطيات العالم وهي الولايات المتحدة لديها تجربة معروفة في هذا المجال ونعني بها تولي الجنرال “دوايت أيزنهاور” للرئاسة في الخمسينات عبر إستثمار ما حققته القوات الأمريكية من إنتصارات تحت قيادته في الحرب العالمية الثانية. لكن السؤال الذي يبقى قائما هو : هل بلدان جنوب آسيا – عدا الهند – تتمتع بهياكل ومؤسسات ديمقراطية منيعة مثل الولايات المتحدة، وبما يحول دون قيام الجنرال المنتخب بإجراءات وتغييرات دستورية تصب في صالحه أو صالح محازبيه وأنصاره؟
الجواب طبعا بالنفي. فجنرالات جنوب آسيا ينطلقون إلى عوالم السياسة ويزاحمون المدنيين مستخدمين شرعية تحقيقهم لنصر عسكري داخلي وليس لنصر عسكري ضد عدو خارجي. كذلك فعل الماريشال محمد أيوب خان في باكستان، و من بعده الجنرال ضياء الرحمن في بنغلاديش.
لكن بعيدا عن شرعية النصر العسكري الذي قد يرفع من حظوظ “فونسيكا” الانتخابية، فإن الرجل يمتلك ميزات أخرى تصب في صالح فوزه مثل إنتمائه الطبقي (كما هو الحال في الهند حيث الانتماء الطبقي في أوساط الأغلبية الهندوسية والممزوج بشيء من الإيديولوجيا يلعب دورا هاما في السياسة، فإن الانتماء الطبقي في أوساط الأغلبية السنهالية يلعب دورا محوريا في الحياة السياسية السريلانكية، وإن بصورة خجولة وأقل وضوحا من ذلك الموجود في الهند). فالرجل ينحدر من طبقة “كارافا” المعروفة بنشاطها الإقتصادي وهيمنتها على الأقاليم الجنوبية و تمثيلها للبرجوازية الجديدة التي تشكل نحو ثلث العرق السنهالي، ولشريحة التجار وملاك الأرض التي تضم نحو نصف السنهاليين.
في مقابل هذا، يعاني الرئيس الحالي “راجاباكسا” من مشكلة عدم وجود قواعد شعبية قوية له في الأقاليم الجنوبية المؤثرة إنتخابيا. كما أنه يعاني من إنخفاض قديم في شعبيته بسبب أساليبه الأوتوقراطية وتطبيقاته لإجراءات إقتصادية لا تحظى بالشعبية مثل تلك التي أوصى بها صندوق النقد الدولي، وكانت لها إنعكاسات سلبية على أجور العمال ورواتب الموظفين وأسعار السلع والخدمات وقيمة صرف العملة المحلية.
على أنه يجب أن نستدرك ونقول أن حزبي البلاد الرئيسين و أيضا مرشحيهما للرئاسة (راجاباسكا و فونيسكا) لا يختلفان كثيرا في طروحاتهما وأجنداتهما السياسية، وإن ركز “فونيسكا” على ملفات مثل محاربة الفساد وتعزيز الديمقراطية وحرية الإعلام وتبنى مسألة العدالة الإجتماعية. فهما مثلا لهما نفس النظرة الشوفينية حيال الأقلية التاميلية، أو كما قال أحد المعلقين: هما “ثوبان مصنوعان من قماش واحد”، بمعنى أن كليهما يدينان بالبوذية وينتميان إلى الإثنية السنهالية، ويعتبران من المتعصبين لقوميتهما، وبالتالي ينظران إلى التاميل، ليس كشركاء في الوطن، وإنما كأقلية يجب أن تعرف حدودها ومكانها فلا تتجاوزها أو تطالب بما يتخطاها.
ودليلنا على أن “فونسيكا” يتبنى مثل هذا الموقف هو مقابلة منحها الرجل في سبتمبر من عام 2008 لصحيفة كندية يومية، قال فيها “أؤمن إيمانا عميقا بأن سريلانكا هي ملك للسنهاليين فقط. أما الأقليات الموجودة بيننا فتستطيع أن تعيش معنا في البلاد، لكن عليها أن تعي وضعها جيدا فلا تحاول تحت أية ظروف أن تطالب بأشياء لا تستحقها”.
أما دليلنا على إنتهاج “راجاباكسا” للموقف نفسه فهو أنه، رغم كونه رئيسا لكل السريلانكيين، لم يبذل أي جهد منذ انتصار جيشه على نمور التاميل للتقرب من أبناء الأقلية التاميلية، أو تطييب خواطرهم، أو تخفيف معاناتهم، أو التحقيق في الأنباء التي إنتشرت وتداولتها منظمات حقوق الإنسان العالمية حول ممارسة جيشه لأعمال إبادة جماعية بشعة في معاقل نمور التاميل، بل حصر جل تفكيره في كيفية إستثمار النصر العسكري لكسب المزيد من الشعبية، وبالتالي الفوز سريعا بولاية ثانية قبل أن تنسى الجماهير أنه “بطل الحرب والسلام” و”مخلص الأمة السنهالية”، على نحو ما ردده مؤيدوه.
وموقفا راجاباكسا ومنافسه ينسجمان ويتطابقان مع مواقف أغلبية السنهاليين الذين لا يشعرون بأدنى صور الحرج من تشويه وجه بلادهم الديمقراطي من خلال إقصاء ملايين التاميل من حقوق المواطنة الكاملة، بل لا يشعرون بالحرج حتى من إطلاق دعوات لإعادة التاميل إلى الهند وإلحاقهم بأخوتهم في الثقافة والعرق في ولاية “تاميل نادو” الجنوبية، بدعوى أن البريطانيين هم الذين جلبوهم من هناك وزرعوهم في سريلانكا يوم أن كانت تعرف بإسم سيلان لإستخدامهم في زراعة نبات الشاي، بعد أن إكتشف المستعمر أن الأخيرة أرض صالحة لزراعة ذلك النبات الذي تعرفوا عليه من الصينيين في حدود عام 1824 .
غير أن مواقف المرشحين الرئاسيين يثيران الإستياء في العالم الحر. وليس أدل على ذلك من مواقف واشنطون ولندن اللتين نددتا بالأساليب العنيفة واللانسانية التي إستخدمتها حكومة “راجاباكسا” في تعاملها مع التاميل المهجرين من مناطق العمليات الحربية. هذا ناهيك عن تنديد منظمة الأمم المتحدة التي إشتكت لكولومبو من عملية إحتجاز ما لا يقل عن ربع مليون مدني تاميلي في معسكرات لا تتوفر فيها أدنى المتطلبات البشرية، و يحظر على وسائل الإعلام الإقتراب منها. إلى ذلك أعربت جهات ومنظمات حقوقية عن خشيتها من إلتزام واشنطون الصمت مستقبلا – سواء فاز الرئيس الحالي أو منافسه “فونسيكا” بالرئاسة – حيال انتهاكات حقوق التاميل على يد سلطات كولومبو.
وسبب هذه المخاوف هو أن واشنطون – لأسباب جيوبوليتيكية – محتاجة إلى كولومبو كحليف في منطقة جنوب آسيا، وبالتالي لا تستطيع الضغط عليها كثيرا أو تهديدها بوقف المساعدات – مثلما طالبت منظمات أمريكية عدة – خوفا من سقوطها في أيدي خصوم ومنافسي الولايات المتحدة الإقليميين كالصين، خصوصا وأن بكين تراقب المشهد عن كثب وتسعى إلى إستقطاب سريلانكا من خلال المساعدات غير المشروطة.
وربما هذا يفسر أسباب الزيارة السريعة لمساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون جنوب ووسط آسيا “روبرت بليك” (كان سفيرا في كولومبو من عام 2006 وحتى أوائل 2009 ) إلى كولومبو في أواخر العام المنصرم، ويفسر في الوقت نفسه صدور تقرير إستراتيجي من 18 صفحة عشية تلك الزيارة. في ذلك التقرير الذي كتبه إثنان من أعضاء لجنة الشئون الخارجية في الكونغرس الأمريكي في أعقاب عودتهما من زيارة إلى سريلانكا في شهر نوفمبر المنصرم، وتبناه المرشح الرئاسي الديمقراطي الفاشل السيناتور “جون كيري” ورد ما نصه ” أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تخسر سريلانكا .. وبالتالي عليها أن تبني سياسة جديدة تجاه هذا البلد قوامها إهتمام أكبر بسجله السياسي والإنساني، واستنباط أدوات وخيارات جديدة من تلك المتاحة أمامنا للتعامل معه”.
لكن بعض الذين قرأوا التقرير من متابعي شئون جنوب آسيا كانت لديهم إنتقادات وملاحظات قوية عليه. من هؤلاء “روبرت تيمبلر” مدير البرنامج الآسيوي لمجموعة الأزمات العالمية التي تتخذ من بروكسل مقرا لها، والذي قال: “إن التقرير الأمريكي كتبه أناس لا يعرفون ما يقولون ولا خبرة لديهم بالمنطقة المعنية، علاوة على أنهم بالغوا كثيرا في تصوير أهمية سريلانكا الإستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة”.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh