ماذا حدث في سجن صيدنايا السوري قبل سنتين؟ هل تعرّض السجناء السياسيون لـ”مجزرة” على غرار “مجزرة تدمر” التي ارتكبتها سرايا رفعت الأسد في عهد “بابا الأسد”؟ وهل تشبه “مجزرة سجن أبو سليم” بليبيا التي كان “القذافي جونيور” آخر، وليس أول، من كشف عنها؟ المعارضة السورية مقصّرة كثيراً لأنها لم تتمكن من كشف حقيقة ما حدث. ونحن نشكّ كثيراً في رواية الإعتداء على المصاحف داخل السجن التي يبدو لنا أنها قد تكون مفبركة لإيهام الرأي العام بأن سجناء صيدنايا كلهم من “الإسلاميين”، مع أن سجن صيدنايا يضمّ كل أنواع السجناء السياسيين مثله مثل كل سجون “الأسد جونيور”، صاحب “الممانعة” (وعنه قال صاحبه “عاشت سوريا بشّار الأسد” في ساحة رياض الصلح ببيروت، في يوم 8 آذار المأثور)!
بعد سنتين من مجزرة سجن صيدنايا لا يعرف ألوف السوريين مصير أبنائهم في سجن صيدنايا، ولا يُعرَف شيء عن مصير سجناء سياسيين، بينهم “نزار رستناوي”، انتهت محكوميتهم ولم يتم إطلاق سراحهم بعد؟؟! لماذا؟
اخترنا لهذا المقال صورة وزّعتها “وكالة الصحافة الفرنسية” وأبرزتها جريدة “السفير” البيروتية المتخصصة بتييض صفحة النظام السوري، وهي صورة لزائرة تتفرج على “لوحات” لسجناء سوريين في سجن “عدرا”. وقد فات “السفير” أن النظام المملوكي في دمشق حتى حينما يحاول أن يعطي صورة “متمدّنة” عن نفسه فإنه ينتهي دائماً إلى “سجن”..!
مسؤولية هذا الكلام يتحملها “الشفّاف”، أما مقال الأستاذ بدر الدين قربي الذي وردنا من سوريا فيبدأ منذ العنوان الأصلي وهو: “كلام يبحث عن عنوان مناسـب”.
“الشفّاف”
*
كلام يبحث عن عنوان مناسـب
صدّق أو لا تصدّق أنه عندما قامت الشرطة العسكرية المكلّفة بحراسة سجن صيدنايا السوري وحماية معتقليه صباح السبت 5 تموز/يوليو 2008 بحملتها التفتيشية على المساجين لضبط الممنوعات ومصادرتها والتي منها بالطبع القرآن الكريم، استفزت بطريقتها المهينة ومشاداتها الكلامية وأثارت بدوسها على المصاحف المصادرة احتجاج المعتقلين الذين تدافعوا نحو حراسهم وسجّانيهم لاسترداد ماأخذوه منهم مما أخرجهم عن انضباطهم المعتاد، ودخلوا في مشاداتٍ حامية معهم انتهت بإطلاق النار عليهم مما أوقع عدداً من القتلى والجرحى في الحال قدّر في حينها بخمسة وعشرين قتيلاً، وهو عدد تواتر برواية بعض السجناء ممن تمكنوا من الاتصال الخارجي قبل إتمام مصادرة هواتفهم النقالة والتشويش على اتصالات الخلوي في منطقة السجن.
بيان الجهة الرسمية كان واحداً لاغير ومتأخراً ومقتضباً لم يتجاوز أربعة أسطر، اكتفت به وكالة الأنباء السورية (سانا) بإعلامنا أن عدداً من المساجين المحكومين بجرائم التطرف والإرهاب أقدموا على إثارة الفوضى والاعتداء على زملائهم والإخلال بالنظام العام أثناء قيام إدارة السجن بجولتها التفقدية على السجناء، مما استدعى التدخل المباشر من وحدة حفظ النظام لمعالجة الحالة وإعادة الهدوء للسجن وتنظيم ضبوط بحالات الاعتداء على الغير وإلحاق الضرر بالممتلكات العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين. وكأن البيان المختصر جداً الذي تجاوز عن ذكر السبب المباشر لما أسماه بالفوضى والإخلال بالنظام أراد التبيان بأن ماكان هو جزء من الحرب على الإرهاب والتطرف، وأن هوية المحتجّين داخل قيود السجن وأغلاله تجعل المسؤول في حالٍ لايُسأل فيها عمّا يفعل تعذيباً وقتلاً وتصفية، وفي حلٍّ من دم ضحاياه بالغاً مابلغ، وأن ماكان ليس إلا قليلاً من بلبلة وفوضى لإرهابيين استدعى التدخل للضبط وإعادة الهدوء، ولاتستحق حتى إشارة إلى ما كان من القمع والقتل، ولا إلى ذكر عددهم ولا حتى أسمائهم لأنهم أقل من ذلك.
خصوم النظام ومعارضوه في قراءتهم لما كان، لاحظوا أن السلطة فرضت عزلاً كاملاً على السجن، وتعتيماً إعلامياً تبدّى في منع أي جهة حقوقية أو مدنية أو أهلية من الاقتراب من السجن، وفي تجاهل جميعِ وسائل الإعلام السورية للحدث رغم خطورته وأهميته تأكيداً لطريقتها الإلغائية المعتادة التي ترفض التعاطي مع أي حركة خارج سياقها الحديدي التي تتجلّى على الدوام بعدم وجود معلومات رسمية أو إفادات عن الوفيات والقتلى والمفقودين في سجونها من عشرات السنين رغم بلوغهم عشرات الآلاف، وهي أمور تعني مجتمعةً أن هناك تصفية وقتل.
قد يكون كل ماقيل عن إيقاف الشغب وإعادة الهدوء الذي قامت به السلطة، هو نوع من القراءات والتحليلات التي يعتريها الأخذ والرد، ولكن ماهو أكيد أن هذه هي المرة الأولى خلال قرابة نصف قرن يصدر فيها بيان وإن كان محدوداً تعترف فيه السلطة بحدوث اعتصام أو تمرد داخل أحد سجونها، مما يعني تطوراً لافتاً في التعاطي الرسمي مع هذه المواضيع واعترافاً ما بحق السوريين الإنساني في معرفة مايدور حولهم ولو بشكل بسيط، كما أنها المرة الأولى أيضاً بعد عشرات السنين من الرعب والترويع التي يتجمع فيها بعض أهالي المعتقلين وذويهم قريباً من السجن على بعد كيلومترات منه للسؤال والاطمئنان عن مصير ناسهم، ويذهبون أيضاً إلى المستشفى العسكري الذي أفادت الأخبار أن القتلى والمصابين تم نقلهم إليه بعد إخلائه من نزلائه رغم كل ماقيل عن منعهم وضربهم وقمعهم، عدا ماكان في مدينة حمص حيث تجمّعت عشرات النساء في إحدى ساحات المدينة قبل ظهر الثلاثاء (8/7/2008) ورفعن اللافتات المطالبة بمعرفة مصير أبنائهن وذويهن المعتقلين، ولم ينته الأمر رغم كل المحاولات الأمنية المترفقة إلا بترتيب اجتماع لهن مع محافظ المدينة الذي جاء متأخراً بزعم إتيانهن بآخر الأخبار من دمشق، ومن ثم انصرافهن بعد مجاملات وكلامٍ مفاده أن مهجع أهل حمص في السجن لم يمسسه سوء.
الجهات الرديفة وشبه الرسمية لفتت نظر كل من تحدثت إليهم في وقتها عبر وسائل الإعلام المتاحة أن الأنباء المتداولة عما كان في السجن أخبار مبالغ فيها وتفتقد المصداقية، وحجة معظمهم تضارب المعلومات المتناقلة شفهياً مع انعدام الكلام الرسمي، ولم يخرج معظمهم فيما قال عن سطور بيان ســانا الذي وَعَدَ بما وعد من التحقيق وتنظيم الضبوط واتخاذ الإجراءات القانونية ضد المخالفين، وأن السلطات الرسمية تعاملت بمنتهى الحكمة وأن الجهات الأمنية التزمت بالتعليمات العليا وتعاملت مع ماكان بمنتهى الرويّة.
ورغم مضي قرابة العامين على أحداث السجن فإن زيارة المعتقلين مازالت ممنوعة استؤنفت لعدد محدود جداً منهم قبيل أقل من عام. وعليه، فما زال آلاف الناس يجهلون مصير ناسهم ومعتقليهم الأحياء منهم والأموات، وتزداد معاناتهم وآلامهم مع مانشرته هيومن رايتس ووتش من تقارير لأحداث كانت داخل السجن نفسه في كانون الأول/ديسمبر 2008 لم تتمكن من تأكيدها بصورة مستقلة مفادها سماع صوت أعيرة نارية استمرت 30 دقيقة في السادس من الشهر، ووقوع أعمال عنف في الثامن عشر أيضاً، ووقوع حوادث جديدة يومي 27 و31 من الشهر نفسه مع اندلاع حريق أتى على جزء من جدار المبنى الداخلي للسجن، وهي بالمناسبة نفس الأيام التي قامت فيها إسرائيل بعلمية الرصاص المصبوب على غزة، وتزداد معاناتهم وقلقهم أكثر وأكثر أيضاً مع معلومات جديدة كشفت بعض المستور بمناسبة تقديم الحكومة السورية في 4 و5 أيار/مايو 2010 تقريرها الأول أمام لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وذلك بعد مضي ست سنوات من توقيعها معها على اتفاقية مناهضة التعذيب والمعاملة القاسية واللاإنسانية، وقد ناقشته في جنيف لعددٍ من الساعات مع اللجنة الدولية من خلال وفدها الرسمي برئاسة معاون وزير العدل نجم الأحمد وعضوية القاضي نزار صدقي والممثل السوري الدائم في جنيف السفير فيصل الحموي والسكرتير الأول في السفارة في جنيف رانيا الرفاعي. وعن أسئلةٍ محددة وجهت من قبل اللجنة الدولية عمّا كان من أحداث سجن صيدنايا أجاب الوفد بما مفاده، أن ما جرى عبارة عن تمرد، وأن المتمردين أخذوا حراس السجن وهددوا بقتلهم، وأن الشرطة العسكرية لم تستخدم الرصاص إلا بعد مفاوضات طويلة مما أوقع حوالي 17 قتيلاً، وأن هناك أجوبة تفصيلية لأسئلة اللجنة وتحقيقات أيضاً أرسلت إلى المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة.
معارضو النظام في مطالعتهم لما قاله الوفد السوري في جنيف بعد قرابة سنتين من أحداث السجن بأنه يؤكّد أن بيان سانا لم يقل الحقيقة، وأن ماتداوله الناس في وقته من خلال خبرتهم ومعاناتهم كان الأقرب إلى الصحيح، وأن إجابات الوفد في جنيف تشكل حداً أدنى من روايةٍ رسمية عن مجزرة كانت قبل سنتين، لأنها اعتراف رسمي وصريح بأن ماقاله بيان السلطة عن معالجة الحالة وإعادة الهدوء من وحدة النظام بمنتهى الحكمة والروية كان معناه تحديداً إطلاق النار على المعتقلين وقتل عددٍ كبير منهم لم يحدده الوفد بالمناسبة بل أشار إليه تقريباً وتقديراً، وأن ماوُعد به السورييون من تحقيقات وضبوط قد تمّ، ولكنه أرسل حسب كلام الوفد إلى المنظمة الدولية وليس إلى الموعودين ممن لايعلمون عن مصير أبنائهم وذويهم شيئاً، وهو تأكيد على الطريقة الإلغائية للآخر المخالف والاستمرار عليها.
كانت أحداث سجن صيدنايا قبل سنتين في تموز/يوليو وفي كانون الأول/ديسمبر، تكلم فيها الناس والخصوم بما تكلموا، وقالت عنها الجهات الرسمية وحليفاتها للناس ماقالت ومرّرتْها. وبغض النظر عما قال الجميع إن صدقاً وإن كذباً، فإن كلام الوفد السوري في جنيف قبل أقل من شهر يكشف بعض المستور بأن ماكان حقيقةً هو مَقْتلَة تُقدَّم معلوماتها للناس بالتقسيط على الطريقة السورية أو أنه كلام يبحث عن عنوان مناسب.