إن الذين يتسلّون بفكرة الدولة ثنائية القومية هم من الحالمين، فعندما تكون دولة قومية في ظاهرها مكوّنة من شظايا قبائل دينية متنازعة فهذه وصفة لوضع أكثر خطورة، لوضع مماثل لما نراه في البلقان
يدعي جميع دعاة الوطنية سواءً كانوا يهودًا أم عربًا الحبّ لهذه الأرض. ولكن ما الذي يحلم به دعاة الوطنية اليهود؟
إنهم يحلمون بالاستيقاظ في صباح يوم ما والنظر حولهم يمينًا وشمالاً وإذا بجميع العرب قد اختفوا عن الوجود. أما دعاة الوطنية من العرب فيحلمون بالعكس، أي الاستيقاظ صباح أحد الأيام وعدم رؤية ولو يهودي واحد حولهم. إن الداعين الحمق إلى الوطنية من الطرفين إنما هم غارقون في أوهام، وليس اليهود ولا العرب سيخرجون من هذه الأرض إلى أي مكان آخر.
علينا أن نلفت انتباه جميع العقلاء، إن كان قد تبقى منهم أحد في أرضنا، أن دعاة الوطنية والأصوليين الراغبين في تحقق هذا الكابوس من الجانبين إنما هم من كارهي هذه الأرض وليس من محبيها، إذ لا يمكن أن تحب هذه الأرض دون أن تحب كل الحيوانات والنباتات التي تعيش وتنمو عليها. لا يمكن أن تحب هذه الأرض دون أن تحب الإنسان الذي يعيش تحت كرومها وفي ظل أشجار الزيتون التي تنمو عليها. إن كل من يعتدي على أملاك الآخرين، أو يهدم بيتًا، أو يقتلع شجرة زيتون أو يقطعها – سواء كان محتلاً جديدًا أم قديمًا، وسواء كان يؤمن بهذا الدين أو بذاك – إنما هو كاره لهذه الأرض وليس محبًا لها.
لقد أقامت الحركة الصهيونية دولة إسرائيل كنوع من الرغبة في القضاء على الشتات اليهودي في دول أخرى وضمن شعوب أخرى، وذلك بهدف إعادتهم إلى التاريخ وتشكيل شعب يهودي كبقية الشعوب، تكون له هوية مميزة وأرض واضحة الحدود. وقد نال الحلم الصهيوني صفة الشرعية والصبغة الأخلاقية والتأييد الدولي بعد المحرقة النازية بحق اليهود في أوروبا، وهكذا ولدت خطة تقسيم فلسطين – أرض إسرائيل.
ولكن هذا “الشعب بلا أرض” جاء إلى هنا إلى أرض كان عليها شعب فلسطيني أصلي في مرحلة تبلور. لم تكن ساحة السوق خاوية على الإطلاق [كما في أغنية نعومي شيمر “أورشليم من ذهب”]. لقد استغلت قيادة الحركة الصهيونية، التي كانت قادرة على قراءة خريطة القوى المؤثرة في العالم، تلك اللحظة التاريخية ووافقت على خطة التقسيم. ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة للقيادة الفلسطينية والعربية. وبسرعة البرق اندلعت حرب الاستقلال اليهودية من جهة، ووقعت النكبة الفلسطينية ونتجت عنها مشكلة اللاجئين من جهة أخرى.
ولا ينبغي أن نستهين بقضية اللاجئين: لقد بدأت الحركة الوطنية الفلسطينية في التعاظم حتى قبل احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، في محاولة شبيهة بالمحاولة الصهيونية للقضاء على الشتات الفلسطيني في الدول العربية. فهذه الدول العربية التي يضرب بها المثل في إكرام الضيف تأبى استقبال اللاجئين إن كان في نيتهم المبيت، حتى وإن كانوا “إخوة”، كما يحلو للخطاب العربي المبتذل تسميتهم.
أضف إلى كل هذا حرب الأيام الستة التي أعادت اليهود إلى أماكن مشحونة بعواطف تاريخية – ودينية على وجه الخصوص – من الماضي السحيق. ومنذ ذلك الحين بدأ الجانب “اليهودي” في الدولة يمسك بزمام الأمور، بينما بدأ الجانب “الديمقراطي” بالتراجع، أولاً في الأراضي المحتلة ثم إلى داخل الخط الأخضر. وبالمقابل فقد واصلت جبهة الرفض العربية تعنتها، رافضة الاعتراف بإسرائيل والتفاوض معها، دون أن تدرك أنها تؤدي بذلك خدمة لإسرائيل التي بدأت ببناء المستوطنات في الأراضي المحتلة. لقد واصل كلاب جبهة الرفض العربية النباح، بينما واصلت قافلة المستوطنات السير والازدهار.
وبمرور السنين بدأ دعاة الوطنية من العلمانيين، في الأوساط الصهيونية والفلسطينية على حد سواء، في شق الطريق أمام قوى ظهرت في ساحات أنبياء الله على الأرض، ودخل الله بنفسه إلى عالم الهذيان هذا، الذي أمطر عليه الهاذون خزعبلات كتقديس الحجارة وقبور الأجداد وخرافات أخرى لا تأتي بخير، بل إنها تجعل الطريق لحفر قبور جديدة أقصر وأقصر. إن هؤلاء الحالمين الذين يتحدثون عن ملكوت الله إنما يدفعون هذه الأرض ومن عليها إلى الهاوية.
وهكذا وصلنا إلى هذا الحال، ووحدت الجراح هذه الأرض المكلومة. فما الذي يمكن القيام به؟ إن المتسلين، من اليمين ومن اليسار، بفكرة الدولة الثنائية القومية إنما هم أيضًا نوع من الحالمين. فعندما تكون دولة قومية في ظاهرها مكونة من شظايا قبائل دينية فهذه وصفة لوضع أكثر خطورة – لوضع مماثل لما نراه في البلقان: مجموعات كبيرة من الطوائف المتنافرة التي تتصارع فيما بينها على كل خطوة اجتماعية وسياسية. إن من شأن هذا الوضع توفير أرض خصبة لإلهاب المشاعر القبلية والرغبة في الانتقام من كل من يُعتقد بأنه ينتمي إلى قبيلة معادية.
ولذا فإن كان ما زال هناك أمل ما بإنقاذ الشعبين، فعليه أن يستند إلى المبادئ التالية:
١. على قيادات الشعبين التصريح علانية بأن هذه الأرض تابعة للشعبين، وبما أن كل شعب يريد العيش في دولته المستقلة كبقية الشعوب فإنه ينبغي تقسيم الأرض بينهما.
٢. لهذه الغاية، تتعهد إسرائيل بإنهاء الاحتلال وبتفكيك المستوطنات التي أقيمت على الأراضي التي تم احتلالها في حرب 1967. أما المستوطنون الذين يرغبون في البقاء في بيوتهم فسيصبحون جزءًا من الدولة الفلسطينية وجزءًا من الهوية الوطنية الفلسطينية ويخضعون للقانون الفلسطيني.
٣. ستكون القدس مدينة مفتوحة دون أن تفصل بين أجزائها حدود ولكنها تكون مقسمة سياسيًا، بحيث يتم الاعتراف بأورشليم القدس الغربية كعاصمة إسرائيل، وبالقدس الشرقية كعاصمة الدولة الفلسطينية.
٤. تكون الدولة الفلسطينية دولة الشعب الفلسطيني دون تمييز بين دين، أو عرق، أو جنس أو طائفة، وتستقبل كل عربي أو يهودي يريد أن يتمتع فيها بالمواطنة الفلسطينية. أما إسرائيل فتكون دولة الشعب الإسرائيلي دون تمييز بين دين، أو عرق، أو جنس أو طائفة وتستقبل كل يهودي أو عربي يريد أن يتمتع فيها بمواطنته الإسرائيلية.
٥. تكون العبرية والعربية اللغتين الرسميتين في كلتا الدولتين.
٦. يتم تطبيق مبدأ الفصل بين الدين والدولة في كلتا الدولتين.
٧. يبدأ تطبيق الاتفاق على الفور ويستمر عشرة أعوام.
في حال اعتراف قيادات الشعبين بهذه المبادئ التوجيهية سيتم إعلان هدنة تامة بين الطرفين ويتم إطلاق سراح جميع السجناء اليهود والعرب المرتبطين بالنزاع. كما تعلن قيادات الطرفين بأنها ستضرب بيد من حديد كل من يحاول بقوة الحيلولة دون تطبيق هذه التسوية التاريخية.
من الواضح أنه دون اعتراف بهذه المبادئ التوجيهية فإننا نسير جميعًا باتجاه الهاوية البلقانية.
الكاتب هو أديب وباحث في الثقافة العربية