(الصورة: قوس طيطوس في روما يوثّق
بعد أن وقفنا على قصّة الإسراء ومدلولات المصطلح “مسجد” كما وردت في المأثورات الإسلامية، لما لها من إسقاطات على موضوع البحث، وبعد أن رأينا أنّ مصطلح “مسجد” هو مكان عبادة عام وليس مخصّصًا لملّة دون أخرى، نتقدّم الآن خطوة أخرى للوقوف على ماهيّة هذا “المسجد الأقصى” الّذي ورد ذكره في سورة الإسراء، أو بالاسم الأقدم للسورة وهو سورة بني إسرائيل. ومن أجل الوصول إلى إجابة واضحة، نعود مرّة أخرى إلى التراث الإسلامي الذي حفظه لنا السّلف.
مسجد بيت المقدس:
لقد ابتدأ داود بناء الهيكل اليهودي في مدينة القدس، بحسب الرواية الإسلامية، بأمر من الله.
يُشار هنا إلى أنّ الهيكل الذي بدأ ببنائه داود يرد في الروايات الإسلامية باسم مسجد بيت المقدس: “أمر الله داود أن يبني مسجد بيت المقدس، قال: يا رب وأين أبنيه؟ قال: حيث ترى الملك شاهراً سيفه، قال: فرآه في ذلك المكان. قال: فأخذ داود فأسس قواعده.” (فضائل القدس لابن الجوزي: 2-3؛ أنظر أيضًا: مسالك الأبصار للعمري: ج 1، 39؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 233). غير أنّ داود قد توفّي قبل أن يتمّ بناء هذا الهيكل – المسجد – فقام من بعده ابنه الملك سليمان بن داود بإتمام العمل: “فاستتمه سليمان وأتم بناء مدينة إيليا، وقد كان أبوه ابتدأها قبله، فبنى مسجدها بناء لم ير الناس مثله، وكان يضيء في ظلمة الليل الحندس إضاءة السراج الزاهر، لكثرة ما كان جعل فيه من الجواهر والذهب. وجعل اليوم الذي فرغ فيه منه عيدًا في كل سنة، فلم يكن في الأرض عيد أبهى ولا أعظم خطرًا منه، ولا أحسن منظرًا.” (الأخبار الطوال للدينوري: ج 1، 21؛ أنظر أيضًا: تفسير القرطبي: ج 14، 278؛ نهاية الأرب للنويري: ج 3، 434-435؛ الفصل في الملل لابن حزم: ج 1، 143). كما أنّ سليمان، بحسب الرواية، قد اختار أن يضع على الهيكل عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل: “ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قراء بني إسرائيل، خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار.” (فضائل القدس لابن الجوزي: 2-3؛ أنظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 201؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 233؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 3، 106).
بحسب ما تذكر التوراة، قام سليمان ببناء الهيكل في “جبل المورية” في الموقع الذي كان أعدّه من قبل أبوه داود: “وبدأ سليمانُ في بناء بيت القيّوم في أورشليم في جبل المورية، حيثُ تَراءَى لداود أبيه، إذ أعَدّه في المكان داود، في بَيْدَر أُرْنان اليبوسيّ.” (أخبار الأيّام الثاني: الفصل الثالث، 1). وها هو محمّد نفسه يتطرّق إلى بناء سليمان للهيكل – المسجد – وسؤاله ربّه ثلاث خلالٍ فأعطاه اللّه إيّاها: “وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم… قال رسول الله صلعم: إن سليمان عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل ربه خلالاً ثلاثًا فأعطاه إياها: سأله حكمًا يصادف حكمه فأعطاه إياه، وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيّما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد، يعني بيت المقدس، خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه.” (الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد، 3، 105؛ أنظر أيضًا: السنن الكبرى للنسائي: ج 1، 256؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 233-234؛ صحيح ابن خزيمة: ج 5، 151). ليس فقط أنّ الرواية الإسلامية تؤكّد على ذلك، بل وتزيد عليها أوصافًا لعظمة الهيكل ومحتوياته: “وكان داود عليه السلام ابتدأ بناء مسجد بيت المقدس، فتوفي قبل استتمامه، فاستتمه سليمان، وأتم بناء مدينة إيليا، وقد كان أبوه ابتدأها قبله، فبنى مسجدها بناء لم ير الناس مثله، وكان يضئ في ظلمة الليل الحندس إضاءة السراج الزاهر، لكثرة ما كان جعل فيه من الجواهر والذهب، وجعل اليوم الذي فرغ فيه منه عيدا في كل سنة، فلم يكن في الأرض عيد أبهى ولا أعظم خطرا منه، ولا أحسن منظرًا.” (الأخبار الطوال للدينوري: ج 1، 21)
لقد بقي الهيكل
الذي بناه سليمان عامرًا حوالي أربعة قرون من الزّمان حتّى جاء الغزو الفارسي سنة 586 قبل الميلاد فكان الخراب الأوّل للهيكل: “فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه السلام حتى غزا نبوخذ نصر فخرّب المدينة وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر، فحمله معه إلى دار مملكته من أرض العراق.” (الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 201؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 6، 390؛ الأخبار الطوال للدينوري: ج 1، 21؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 13، 131؛ تفسير السراج المنير للشربيني: ج 1، 3455؛ تفسير ابن عجيبة: ج 5، 132؛ الأعلاق الخطيرة لابن شداد: ج 1، 95؛ نهاية الأرب للنويري: ج 3، 436). وبالإضافة إلى تخريب الهيكل وسلب محتوياته الثمينة، فقد تمّ أيضًا إجلاء اليهود إلى بلاد فارس. وبقي اليهود هناك حتّى اعتلى كورش عرش بلاد فارس بعد حوالي سبعين عامًا من الجلاء، فسمح كورش لليهود بالعودة وبناء الهيكل من جديد وإعادة مسلوبات الهيكل: “ولما تسلم كورش مملكة الكسدانيين، وجلس على كرسي بابل وملك على مادي وفارس حركه الله تعالى في السنة الأولى من ملكه، فذكر نذره الذي كان قد نذر أنه يطلق لجالية بني إسرائيل الرجوع إلى بلدهم، وأنه يبني قدس الله، ويردّ آلاته إليه. فأمر بإحضار شيوخ الجالية وكبرائهم، فأخبرهم بما قد عزم عليه من بناء بيت المقدس وإطلاقهم وقال لهم: من اختار من جالية اليهود أن يمضي إلى مدينة القدس لبناء الهيكل الذي أخربه بختنصر فليمض ويستعن بالله عز وجل فإنه يعينه، وأنا كورش عبد الإله العظيم أطلق من خزائني جميع ما يحتاج إليه من المال والعدد لعمارة بيت الربّ الذي ظفّرني بالكسدانيين، وأعطاني ملكهم. قال: فلما سمع شيوخ الجالية مقالة كورش عظم سرورهم بذلك وشكروا الله عز وجل على إحسانه، وطلعوا إلى مدينة بيت المقدس، ومعهم جماعة كثيرة، ومعهم عزرا الكاهن عليه السلام ونحميا ومردخاي ويشوع وسائر رؤساء الجالية ومقدميهم. فبنوا بيت الله على المقدار الذي رسم لهم كورش، وبنوا المذبح على واجبه وحدوده، وقربوا القرابين على واجبها، وكان كورش يطلق لهم كل سنة ما يحتاجون إليه لخدمة بيت الله من المال والحنطة والزيت والخمر والغنم والبقر، وأطلق لهم مالا كثيرًا، ولم يزل الأمر يجري على ذلك طول مملكة الفرس.” (نظم الدرر للبقاعي: ج 5، 31؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 5، 68؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 7، 473).
وفي هذا تأكيد على ما ورد في التّوراة في سفر عزرا عن عودة اليهود وبناء الهيكل: “وَفِي السَّنَةِ الأُولَى لِكُورشَ، مَلِكِ فَارِسَ، عِنْدَ تَمَامِ كَلاَمِ الرَّبّ بِفَمِ إِرْمِيَا، نَبَّهَ الرَّبُّ رُوحَ كُورَشَ مَلِكِ فَارِسَ فَأَطْلَقَ نِدَاءً فِي كُلّ مَمْلَكَتِهِ وَبِالْكِتَابَةِ أَيْضاً قَائِلاً: كَذَا قَالَ كُورشُ مَلِكُ فَارِسَ: كُلّ مَمَالِكِ الأَرْضِ مَنَحَها لِي الرَّبُّ إِلَهُ السَّمَوات وَهُوَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتاً فِي أُورُشَلِيمَ الَّتِي فِي يَهُودا. مَنْ كانَ مِنْكُمْ، مِنْ كُلّ شَعْبِهِ، لِيَكُنْ إِلَهُهُ مَعَهُ وَيَصْعَدْ إِلَى أُورُشَلِيمَ الَّتِي فِي يَهُودا ليَبْنِيَ بَيْتَ الرَّبّ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ، هُوَ الإِلَهُ الَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ. وَكُلُّ مَنْ بَقِيَ فِي كلّ الأَمَاكِنِ حَيْثُ هُوَ ساكنٌ فَلْيُنْجِدْهُ أَهْلُ مَكَانِهِ بِفِضَّةٍ وَبِذَهَبٍ وَبِأَمْتِعَةٍ وَبِبَهَائِمَ مَعَ التَّبَرُّعِ لِبَيْتِ اللّه الَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ.” (عزرا: الفصل الأوّل: 1-4). كما تذكر الروايات الإسلامية أن كورش فعل ذلك بعد أن طلبت منه امرأة من بني إسرائيل كان تزوّجها أن يردّ قومها إلى بلادهم: “وتزوج امرأة من بني إسرائيل، وطلبت إلى زوجها أن يردّ قومها إلى أرضهم، ففعل، فردهم إلى أرض بيت المقدس، فمكثوا فيها، فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه.” (بحر العلوم للسمرقندي: ج 2، 496).
وهكذا استمرّ الهيكل الثاني على حاله
بعد عودة الجالية اليهودية من بلاد فارس، حتّى كان الغزو الرّوماني للبلاد وتخريب طيطوس للهيكل مرّة ثانية في العام 70 للميلاد. إشارة إلى هذا الغزو تظهر أيضًا في الحديث الذي رواه حذيفة عن النبي: “فلما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر… فغزاهم في البر والبحر فسباهم وقتلهم وأخذ أموالهم ونساءهم وأخذ حلي جميع بيت المقدس واحتمله على سبعين ألف عجلة حتى أودعه كنيسة الذهب، فهو فيها إلى الآن.” (التذكرة للقرطبي: ج 1، 704؛ تفسير القرطبي: ج 10، 222). وبشأن حليّ بيت المقدس هذه التي سلبها الرّوم يُدوّن ياقوت عن أهل العلم ما روي عن ابن عبّاس: “حليةُ بيت المقدس أُهبِطَتْ من الجَنّة، فأصابتها الرُّوم فانطلقتْ بها إلى مدينةٍ لهم يُقال لها روميّة. قالَ وكان الرّاكبُ يسيرُ بضوء ذلك الحليّ مسيرةَ خمس ليالٍ.” (البلدان لياقوت: ج 2، 365).
غير أنّ كلّ هذه المسلوبات الثمينة ستعود في نهاية الأمر، بحسب الرواية الإسلامية، إلى الهيكل. حيث نجد في حديث نبويّ أنّ المهدي المنتظر سيعيدها إلى بيت المقدس: “ويردّه المهدي إلى بيت المقدس وهو ألف وسبعمائة سفينة يرمي بها على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس وبها يجمع الله الأولين والآخرين”. (تفسير البغوي: ج 5، 68). لقد شاع هذا التصوّر في قصص قيام الساعة: “عن ربيعة بن الفارسي قال: يسير منكم جيش إلى رومية، فيفتتحونها ويأخذون حلية بيت المقدس وتابوت السكينة والمائدة والعصى وحلّة آدم. فيُؤمر على ذلك غلام شاب فيردّها إلى بيت المقدس.” (الفتن للمروزي: ج 2، 485؛ عقد الدرر للمقدسي: ج 1، 44؛ الفتن لنعيم بن حماد: ج 1، 295؛ بشأن خراب الهيكل الأوّل والثاني، ثمّ إعادة كلّ مسلوبات الهيكل في النهاية على أيدي المهدي المنتظر في نهاية المطاف، كما رواها حذيفة عن محمّد، أنظر: التذكرة للقرطبي: ج 1، 704).
لقد ظلّ موقع الهيكل والصخرة خرابًا، بل تمّ تحويله إلى مزبلة طوال العهد الرّوماني: “وقد كانت الرّوم جعلوا الصخرة مزبلة لانّها قبلة اليهود… وذلك مكافأة لما كانت اليهود عاملت به القمامة، وهي المكان الذي كانت اليهود صلبوا فيه المصلوب.” (البداية والنهاية لابن كثير:ج 7، 65). ومصطلح “القمامة”، أي المزبلة، هو المصطلح الشائع في المأثورات الإسلامية إشارة إلى كنيسة “القيامة” في القدس، وذلك تعبيرًا عن عمق المقت الإسلامي تجاه العقيدة النصرانيّة، ( أنظر: فتوح الشام للواقدي: ج 1، 181؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 12، 165؛ البلدان لياقوت: ج 4، 139؛ الجواب الصحيح لابن تيمية: ج 3، 141؛ الحيوان للجاحظ: ج 1، 399؛ الوافي في الوفيات للصفدي: ج 1، 959؛ السلوك للمقريزي: ج 2، 273؛ تاريخ أبي يعلى: ج 1، 45؛ مقدمة ابن خلدون: ج 1، 199؛ صبح الأعشى للقلقشندي: ج 2، 456؛ سفرنامه لناصر خسرو: ج 1، 18). وكشهادة واضحة على عُمق هذا التّوجّه نورد هنا إحدى فتاوى ابن تيمية: “وأما زيارة معابد الكفّار مثل الموضع المُسمّى بالقمامة أو بيت لحم أو صهيون أو غير ذلك مثل كنائس النصارى فمنهيّ عنها، فمن زار مكانًا من هذه الأمكنة معتقدًا أن زيارته مُستحبّة والعبادة فيه أفضل من العبادة فى بيته فهو ضالّ خارج عن شريعة الإسلام. يُسْتتابُ، فإن تابَ وإلا قُتلَ.”، (أنظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: ج 27، 14).
عمر بن الخطاب وكعب الأحبار:
عند حضور عمر بن الخطاب إلى المدينة لاستلامها وعقد العهدة مع أهلها، توجّه للصّلاة في محراب داود. ثمّ طلب إحضار كعب الأحبار لاستشارته في موقع بناء المسجد: “لما شخصَ عمر من الجابية إلى إيلياء، فدنا من باب المسجد قال ارقبوا لي كعبًا. فلما انفرق به الباب قال: لبيك اللهم لبيك بما هو أحب إليك ثم قصد المحراب، محراب داود عليه السلام، وذلك ليلاً فصلّى فيه. ولم يلبث أن طلع الفجر فأمر المؤذن بالإقامة فتقدم فصلّى بالناس، وقرأ بهم ص وسجد فيها، ثم قام وقرأ بهم في الثانية صدر بني إسرائيل ثم ركع. ثم انصرف، فقال: عليّ بكعب، فأُتي به فقال: أين ترى أن نجعل المصلّى؟ فقال: إلى الصّخرة، فقال: ضاهيتَ والله اليهودية يا كعب… اذهب إليك، فإنّا لم نُؤمر بالصّخرة ولكنّا أُمرنا بالكعبة.” (تاريخ الطبري: 2، ص 450؛ أنظر أيضًا: تفسير ابن كثير: ج 5 ، 32؛ البداية والنهاية لابن كثير:ج 7، 65؛ المنار المنيف لابن قيم الجوزية: ج 1، ص 88). وهكذا رفض عمر أن يصلّي خلف الصخرة، كما أشار عليه كعب، وذلك لأنّها قبلة اليهود، وقال لكعب: “لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلعم، فتقدم إلى القبلة فصلّى، ثم جاء فبسط رداءه فكنس الكناسة فى ردائه، وكنس الناس.” (مسند أحمد: ج 1، 271؛ أنظر أيضًا غاية المقصد للهيثمي: ج 1، 2313؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 14، 143؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 28، 408).
لنعد، إذن، إلى سورة بني إسرائيل
التي قرأ صدرها عمر بن الخطاب في موقع خراب الهيكل. تذكر الرواية الإسلامية أنّ سورة بني إسرائيل هذه هي من أقدم السّور التي نزلت: “اعلم أن هذه السورة والأربع بعدها من قديم ما أنزل. أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول وهن من تلادي وهذا وجه في ترتيبها وهو اشتراكها في قدم النزول وكونها مكيات، وكونها مشتملة على القصص.” (أسرار ترتيب القرآن للسيوطي: 113). كما رُوي عن ابن عبّاس أنّه قال بشأن هذه السّورة: “إنّ التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل” (تفسير الطبري: ج 17، 590؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور: ج 5، 287؛ روح المعاني للألوسي: ج 15 ص 2؛ أسرار ترتيب القرآن للسيوطي: 113)، وقد ذكر فيها تعالى عصيان بني إسرائيل وما جرّ ذلك من تخريب مسجدهم، أي هيكل سليمان: “وذكر تعالى فيها عصيانهم وإفسادهم وتخريب مسجدهم… ولما كانت هذه السورة مُصَدّرة بقصة تخريب المسجد الأقصى افتُتحت بذكر إسراء المصطفى، تشريفًا له بحُلول ركابه الشّريف جبرًا لما وقع من تخريبه.” (روح المعاني للألوسي: ج 15 ص 2). أي أنّ السّورة لها علاقة ببني إسرائيل وبالتخريب الذي حصل في “مسجدهم”. كما يفهم أيضًا ممّا ورد في المأثور أنّ إسراء محمّد قد حصل إلى “مسجدهم”، أي مسجد – هيكل – اليهود، وذلك “جبرًا لما وقع من تخريبه”، كما تنصّ الرواية.
لهذا السّبب يُجمع المفسّرون على أنّ تعبير “المسجد الأقصى” الذي يفتتح سورة الإسراء يعني “بيت المقدس”، أو “مسجد بيت المقدس.”، أو “مسجد سليمان” (تفسير مقاتل، 2، 247؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 17، 333؛ تفسير النّسفي: ج 2، 278؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 42؛ تفسير ابن كثير: ج 3 ص 5؛ تفسير الرازي: ج 9، 494؛ فتح القدير للشوكاني: ج 3، 295).
كما أنّ مصطلح “بيت المقدس” لا يعني
مدينة القدس بصورة عامّة، وإنّما هو موقع خاص في المدينة يسمّى بهذا الاسم. نفهم ذلك من إشارات مُحدّدة. فعندما يرد ذكر المسجد الأقصى فإنّ المفسّرين يذهبون إلى التخصيص مشيرين إلى أنّ القصد من المسجد الأقصى هو: “بيت المقدس الذي بإيلياء.” (تفسير ابن كثير: ج 3 ص 5؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 1، 396؛ التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي: ج 2، 79؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 2، 493؛ ). أي أنّ بيت المقدس هو ذلك الموقع الموجود في إيلياء، وليس هو إيلياء بعامّة. أي أنّ إيلياء هي المدينة على التعميم، بينما “بيت المقدس” هو ذلك الموقع الّذي بإيلياء على الحصر والتخصيص.
إنّ الإشارات القرآنية للهيكل اليهودي الذي كان قائمًا في القدس قبل الاحتلال الإسلامي للمدينة تذكره تحت مسمّى “مسجد”، فعند الحديث عن الآية {ومن أظلم ممن منع مساجد الله}، يذكر المفسّرون أنّ الآية “نزلت في طيطوس بن اسبيسيانوس الرّومي وأصحابه، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتلتهم وسبوا ذراريهم، وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير، فكان خرابًا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب.” (تفسير البغوي: ج 1، 138؛ أنظر أيضًا: تفسير النيسابوري: 1، 305؛ معاني القرآن للفراء: ج 1، 67؛ التحرير والتّنوير للطاهر بن عاشور: ج 1، 2423. يروي الطبري أنّ “النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يُصلّوا فيه.” (أنظر: تفسير الطبري: 2، 520).
لقد وقفنا من قبل على مدلولات المصطلح “مسجد” في التراث الإسلامي وأنّها لا تشير إلى مكان عبادة إسلامي على وجه التخصيص، ولهذا يطلق عليه ابن الجوزي مصطلح “مسجد بني إسرائيل.” (زاد المسير لابن الجوزي: ج 2، 402). كما يجمع المفسّرون على أنّ كلّ الإشارات إلى الهيكل اليهودي في القدس الذي تمّ تخريبه مرّتين، والتي تظهر في القرآن، فهي تظهر تحت مسمّى “مسجد”، كما في الآية {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة}، إنّما تعني “بيت المقدس”، (تفسير مقاتل: ج 2، 251؛ تفسير البغوي: ج 5، 80؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 7، 500؛ تفسير الطبري: ج 17، 373؛ تفسير القرطبي: ج 10، 222؛ تفسير النسفي: ج 2، 279؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 5، 11؛ تفسير الجلالين: 366). كما يجمع المفسّرون على أنّ “المسجد الأقصى” الذي ورد في سورة بني إسرائيل يعني “بيت المقدس”. وليس مصطلح بيت المقدس هذا سوى نقل حرفيّ للمصطلح العبري “بيت همكداش”، أي الهيكل الذي بناه سليمان في جبل المورية. والهاء في همكداش هي هاء التعريف بالعبرية المقابلة لأل التعريف بالعربية، أي هو بيت المكداش، أو بيت المقدس كما شاع بالعربية. ومن بين أسماء القدس، يذكر لسان العرب: “ويقال أَيضاً: إِيلِياءُ وبيتُ المَقْدِس وبيتُ المِكْياش”. (لسان العرب: شلم). فما هو “بيت المكياش” هذا الّذي يورده لسان العرب اسمًا للقدس؟ يذكر محقّقو لسان العرب في هامش المعجم إنّها وردت كذا بالأصل المخطوط. على ما يبدو فإنّهم لم يعرفوا كيفيّة قراءة هذه الكلمة في المخطوط عندما قاموا بتحقيق المعجم. إنّ هذا التّعبير هو في الحقيقة تعبير باللّغة العبريّة وهو “بيت المكداش”، (بيت المقدس)، ويعني الهيكل، هيكل سليمان. فليصحّحوا، إذن، هذا التّعبير في الطّبعات الجديدة من معجم لسان العرب.
من هنا، فعندما نأتي لنستجلي الدلالات التي يحملها التّعبير “المسجد الأقصى” الذي يفتتح سورة بني إسرائيل، لا مناص من القول إنّ المسجد الأقصى هذا الذي يرد ذكره في القرآن ليس سوى “الهيكل اليهودي” الذي بناه سليمان وخرب مرّتين، مرّة على يد نبوخذ نصر ومرّة على يد طيطوس الرّومي. من هنا أيضًا، لا يسعنا سوى القول إنّ الإسراء قد تمّ من المسجد الحرام إلى بيت المكداش – الهيكل – اليهودي الذي كان قائمًا فوق الصخرة في إيلياء.
لقد كان وقف ابن قيّم الجوزية على الأهميّة المعزوّة لـ”مسجد بني إسرائيل” الّذي كان قائمًا فوق الصخرة قبل تخريبه مرّتين، حيث نفى أيّ قدسيّة إسلامية عن الصخرة، وأكّد بدل ذلك على قدسيّتها اليهوديّة، قائلاً: “وأرفع شيء في الصخرة أنها كانت قبلة اليهود، وهي في المكان كيوم السبت في الزمان، أبدل الله بها هذه الأمة المحمدية الكعبة،البيت الحرام.”(المنار المنيف لابن قيم الجوزية: ج 1، ص 88). ومعنى كلام ابن القيم هذا هو أنّه مثلما أنّ يوم السّبت في الزّمان يحمل قدسيّة يهوديّة ولا تُقدّسه عقائد الأمم الأخرى، كذا هي الحال أيضًا فيما يتعلّق بالصّخرة في المكان. فما من قدسيّة لها بأي شكل من الأشكال سوى تلك القدسيّة اليهوديّة لكونها قبلة اليهود كما يجمع على ذلك التراث الإسلامي منذ القدم.
وخلاصة القول،
لقد كان محمّد يؤمن أنّ زمنه هو آخر الزّمان، وأنّه قيام الساعة قريب، فنقرأ في الأحاديث أنّه قال: “بعثت أنا والساعة كهاتين. وأشار باصبعيه السبابة والوسطى.” (تاريخ الطبري: ج 1، 16؛ أنظر أيضًا: مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 24، 159؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 16، 246؛ النهاية لابن كثير: ج 1، 7؛ الكامل لابن الأثير: ج 1، 4؛ الزهد لابن المبارك: 555؛ تاريخ بغداد للبغدادي: ج 3، 113؛ زاد المعاد لابن القيم: ج 1، 408؛ هداية الحيارى لابن القيم: ج 1، 59؛ الجواب الصحيح لابن تيمية: ج 1، 420). وبرواية أخرى: ” بعثت أنا والساعة كفرسي رهان، كادت تسبق إحداهما الأخرى بأذنها.” (حياة الحيوان الكبرى للدميري: ج 2، 78؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 1، 17؛ أخبار الزمان للمسعودي: ج 1، 25). وفي إشارة إلى عمق هذا التصوُّر نقرأ وصفًا للحالة النفسية التي كانت تعتريه عند ذكر الساعة: “وكان إذا ذكر الساعة، احمرتْ وجنتاه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه، كأنّه نذير جيش” (شرح السنة للبغوي: ج 1، 1037؛ أنظر أيضًا: سنن النسائي: ج 1، 550؛ هداية الحيارى لابن القيم: ج 1، 59؛ النهاية لابن كثير: ج 1، 82؛ زاد المعاد لابن القيم: ج 1، 408؛ اقتضاء الصراط لابن تيمية: ج 1، 267؛ قصر الأمل لابن أبي الدنيا: 124).
وهذا الإسراء من المسجد الحرام في الحجاز
إلى الهيكل اليهودي في إيلياء نابع من عمق ذلك التصوّر الذي كان لدى محمّد بأنّه هو “النبيّ الأمّي”، أي المسيح اليهودي المنتظر الذي ورد ذكره في التوراة، وأنّه سيأتي في آخر الزّمان، مع قيام هذه الساعة التي قال إنّه بُعث معها، أو أنّها كادت تسبقه: “بعثت أنا والساعة جميعًا، إنْ كادتْ لتسبقني.” (مسند أحمد: ج 50، 154؛ أنظر أيضًا: تفسير ابن كثير: ج 6، 526؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 15، 500).
(نُشِر لأول مرة في 5 أغسطس 2009)
***
مقالات هذه السلسلة:
المقالة الأولى: “هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟”
المقالة الثانية: “لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟”
المقالة الثالثة: “لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟”
المقالة الرابعة: “من هو النّبي الأمّي؟”
المقالة الخامسة: “لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟”
المقالة السادسة: “المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب”
المقالة السابعة: “إكسودوس بني النضير”
المقالة الثامنة: “محرقة بني قريظة 1”
المقالة التاسعة “محرقة بني قريظة 2”
المقالة العاشرة: “ماذا جرى مع يهود خيبر؟”
المقالة الحادية عشرة: “إجلاء اليهود من جزيرة العرب”
المقالة الثانية عشرة: “سبحان الذي أسرى”
المقالة الثالثة عشرة: “إلى المسجد الأقصى”
المقالة الرابعة عشرة: “سبحان الذي أسرى بعبده إلى الهيكل اليهودي”