رحل محمد عابد الجابري بعدما شهد، في سنواته الأخيرة، انتصار العقل الذي حاول نقده ونقضه. ولا يهم ما إذا كان فوز العقل البياني والعرفاني مجرد فاصل ربما يكون طويلا في تاريخ العرب. المهم أن قياس الشاهد على الغائب، الذي كان في نظره أهم سمات ذلك العقل، يمثل الأداة المعرفية الأكثر رواجا ونفوذا في عالم العرب الأحياء اليوم. والمهم، أيضا، أن في انتصار ما حاول الجابري نقده ونقضه ما يؤكد حقيقة أن نصيب العرب من التقدّم في هذا القرن يتاخم حد الصفر.
أكتب هذا وفي الذهن مشروع جورج طرابيشي المضاد، الذي حاول من خلاله التدليل على سوء استخدام الجابري للمصادر، بما في ذلك تحويرها لتكون أكثر انسجاما مع ما يريده من خلاصات. وفي الذهن، أيضا، سنوات الجابري الأخيرة، التي شهدت محاولة للتجديد بدت في نظر الكثيرين نوعا من النكوص، أو فتور الهمة.
ومع ذلك، كانت محاولة الجابري فريدة من نوعها. فمجرد الكلام عن العقل العربي، ومحاولة تقصي ظروف نشأته وتطوّره، في سياق البحث عن تفسير لما حل بالعرب من تدهور وبوار، فتحت بابا لن يتمكن أحد من إغلاقه، حتى بعد رحيل صاحب المحاولة، ورغم ما وسم محاولته من إشكالات منهجية.
في الأيام القليلة التي أعقبت رحيل الجابري، مثلا، كتب معلقون عرب عن حقيقة أن ما تناوله الجابري بالدرس والتحليل وأسماه العقل العربي، لم يكن في حقيقة الأمر، سوى العقل الإسلامي، وأشاروا في هذا الصدد إلى الفرق بين دارس يعيش في المغرب وآخر يعيش في الغرب، ومدى ما يكبّل الأوّل من اعتبارات.
مهما يكن من أمر، يُحسب للجابري، لا عليه، توظيف العلاقة بين الإنشاء والمعرفة من ناحية والسلطة السياسية من ناحية ثانية. لذلك، ما تكوّن على مدار ثلاثة قرون اعتبرها حاسمة في تكوين العقل العربي (الإسلامي) من القرن الثاني حتى الخامس للهجرة، كان نتاجا لعلاقات القوّة، ومصالح النخب السائدة والحاكمة، ولم يكن بالضرورة خلاصة منطقية لتطوّرات وقعت بطريقة طبيعية وعفوية. ففي تلك الفترة وما شهدته من صراعات على السلطة والثروة أنجز العرب معارفهم وعلومهم. وفي الحقول المعرفية نفسها التي أنجزها العرب دارت صراعات بين خطابات وتأويلات مختلفة، وتبدّل المتن والهامش أكثر من مرّة، لكن الخطابات والتأويلات التي تمكنت من احتلال المتن، ومن تهميش سواها، كانت انعكاسا موضوعيا لعلاقات القوّة وموازين القوى في الحقل السياسي.
وحتى لو لم يفعل الجابري أكثر من ذلك، فإن في خلاصة كهذه ما يبرر النظر باحترام أولا إلى مشروعه الكبير، والعمل ثانيا على المضي في نهج كهذا حتى نهاياته المنطقية. لم يكن الجابري ثوريا في علاقته “بالتراث”، بل مارس دور المُصلح، الذي يحاول التقدّم من خلال التراث نفسه.
وفي هذا ما سوّغ للبعض تشبيه محاولة الجابري بابن رشد. وهذه مسوّغات لا يمكن التحقق من صوابها في الوقت الحاضر، مع ملاحظة أن ابن رشد لم يترك أثرا يُذكر في الثقافة العربية، وأن العرب اكتشفوا أهميته من خلال ما أضفاه الأوروبيون من أهمية على ميراثه الفكري والفلسفي، ومع ملاحظة أن ابن رشد لا يحظى باحترام العقل البياني والعرفاني، وكلاهما سيّد الوقت في عالم العرب الأحياء.
علاوة على ما تقدّم، لم يكن الجابري مجرّد باحث في التاريخ والتراث الإسلامي والعربي، ولم يقتنع بدور الأستاذ الجامعي المعزول عن السياق العام للسياسة والمجتمع في بلاده وخارجها، بل انخرط في الشأن العام، وبفضل هذه الممارسة اكتسب صفة المثقف ومارس دوره. وفي ممارسته لذلك الدور، ومدى انسجامه مع تعريف المثقف، كان نتاجا طبيعيا لحقبة الستينيات العربية، وما وسم ممثليها من إيمان بفكرة التقدّم، وحرّض أغلبهم على الانخراط في الشأن السياسي والاجتماعي العام.
لذلك، انخرط الجابري في العمل السياسي في صفوف المعارضة، كما انخرط في التعليق على ونقد ما أسماه بالخطاب العربي المعاصر، بمعنى أن انخراطه في الحقل العام لم يكن محصورا في حدود بلاده المغرب، بل كان العالم العربي بالمعنى السياسي والاجتماعي والثقافي، في نظره، هو الشأن العام. وفي سياق هذا الدور أصبح في طليعة المثقفين العرب، واحتل المقاعد الأمامية في المشهد الثقافي والفكري العربي على امتداد ثلاثة عقود من الزمن. وإذا كان من الصعب تقدير مدى ما تركه من أثر مباشر على جيلين من المثقفين العرب على الأقل، فمن المؤكد أن الاطلاع على أعماله، وتداولها، والتعليق عليها، وحتى محاولة تقليدها، أو تفنيدها، كان من الأمور الشائعة منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي.
ومع هذا كله، وقبله، هل يصح الكلام عن “العقل العربي” أو “الإسلامي”، وهل ثمة من وجود لشيء كهذا؟ أم أن في كل محاولة للقبض على ما يسمى “عقلا” لهذه الجماعة أو تلك ما يمثل نوعا من الانتقائية، وما يندرج في باب الصراع على الحاضر استنادا إلى تأويلات مغايرة للماضي؟
أعتقد أن العثور على إجابة محتملة يتجلى في عملية المزج بين هذين السؤالين. ففي كل كلام عن الماضي محاولة للكلام عن الحاضر. وقد تكلّم الجابري عن الحاضر حتى عندما أنفق أيامه ولياليه في البحث عمّا حدث ما بين القرنين الثاني والخامس للهجرة. وكان مبرر عودته إلى ذلك الزمن البعيد أن البعيد ما يزال مقيما في الحاضر، أما السؤال الذي غاب عنه فلم يكن لماذا يقبض البعيد على عنق الحاضر، بل: كيف يستفيد البعيد من الصراع على السلطة والثروة في عالم العرب الأحياء لتأبيد إقامته في الحاضر؟ وهذا سؤال مفتوح.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
عن جريدة الأيام
سؤال مفتوح..!! عودة الوعي 28) قضاء الحاجة في الخلاء (1) (We are simple people who chose principles over fear : نحن اناس بسطاء : اخترنا المبدأ على الخوف) .. مطلع البيان السادس للمقاومة العراقية. مات الجابري ومشروعة في اواخر الثمانينات , وبالتحديد مع (حرب الكويت) .. التي لم تكن “احتلالا” لتكون “تحريرا” , فقد تمت ازاحة الكلمتين ازاحة كافية عن جوهرهما (اللغة) وتم حقنهما في الخطاب الآيل للترهل والتعفن وصولا الى الغيبوبة العقلية والحسية (intellectual coma) .. سجلت مجلة (اليوم السابع) الحدث والحقبة على الغلاف (انهيار النظام العربي) وانهارت معه (بشرف : كما تهافت الفلاسفة في اساس بناء الغزالي ..… قراءة المزيد ..
سؤال مفتوح..!! فاروق عيتاني — farouk_itani@live.com مرة ثانية يغريني التعليق على موضوع يتحدث عن الجابري.سبب الاغراء ان الجابري دفعني لقراءة التراث، قراءةكنت اشعر بانني امام التراث، أنا تراث.مقارنة بين الجابري و أركون، موضوع كتاب صدر ببيروت على ما اذكر حاولت فيه صاحبته التوفيق بين الاثنين.في المشرق العربي كان الجابري مكروها من اتباع المدرسة السنيوية. من تلامذة الملا صدرا و رحلته في الدب على الاربع. قدم الجابري موقفا معاصرا في رد العرفان. والعرفان افة الفكر في المشرق .وهو تراث الخلط ووريث المدرسة الافلوطونية التي اخترقت العقل العربي.لكن اقول مرة ثانية ان البيان والبرهان هما تلميذان لمدرسة واحدة، هي المدرسة اليونانية.وما زلت… قراءة المزيد ..