النظرة المتعجلة إلى منطقة الشرق الأوسط الكبير ترى أن مصير المنطقة يحوطه
الغموض المشوب بالتشاؤم، إذ تبدو كما لو كانت تهبط إلى قاع محيط من العدمية المخضبة بالدماء، دماء أبناء المنطقة قبل دماء القوى التي يصطنعون معها صراعاً انتحارياً، سلاحه الحزام الناسف والسيارة المفخخة، التي تحول صاحبها إلى شظايا، قبل أن تمس أحداً ممن تستهدفهم، كما لو كانت المنطقة تفجر نفسها في وجه عالم ترفضه، وتأبى أو تعجز عن التوافق معه.
ليست فقط أصوات الانفجارات وأشلاء الضحايا ما يشكل تلك الصورة، بل ما يبدو تنام حثيث لاعتناق الجماهير لخيار الأصولية الدينية كملجأ وأيديولوجية، سواء في ممارسات الأفراد الحياتية اليومية، ما يتبدى في أزياء النساء مما ثبت أن لا أصل له من الدين، أو فيما تسفر عنه الخيارات الشعبية في أي ممارسة انتخابية ديموقراطية بأي قدر أو نسبة من المصداقية، بحيث استقر لدى المراقبين أن اللجوء للانتخابات في هذه المنطقة يعني تسليم الزمام لجماعات التطرف الديني، وأن أقصى ما يستطيعه الآخرون بما فيهم الليبراليين، هو محاولة وضع العصي في عجلات القاطرة التي تتجه لمصيرها المحتوم، علها تستطيع الإبطاء من سرعته، وتأجيل ساعة السقوط!!
يترتب على هذه النظرة أن تكون الأسئلة المطروحة من عينة:
* ما مصير ما قيل أنه نجاح للتحالف الدولي في أفغانستان، بعد عودة طالبان إلى الساحة؟
* لأي مدى سوف تتعاظم قوة ونفوذ إيران في المنطقة؟
* متى ستضطر أمريكا إلى سحب جنودها من العراق، وإعلان فشل مشروعها لتحديث ومقرطة المنطقة؟
* هل سيخلف الإخوان المسلمون في سوريا حزب البعث، الذي لا يتنبأ له المراقبون بعمر مديد؟
* متى يسقط لبنان بين مخالب حزب الله، ليصير مركزاً جديداً لنشر التطرف والأصولية؟
* متى يحسم الصراع في فلسطين لصالح حماس، لتصبح بؤرة مركزية لصراع أصولي بين المنطقة والعالم؟
* إلى متى سيستطيع الملك عبد الله ملك الأردن – ليبرالي التوجه – المحافظة على عرشه، وهو يحكم شعباً مفتوناً بفكر التطرف الديني، وبأيديولوجيات الذبح مع صيحات التكبير؟
نستطيع أن نمضي في التساؤل على هذا النحو حتى نصل شاطئ الأطلسي غرباً، والقرن الإفريقي جنوباً، وهي أسئلة تقودنا إلى قناعة أن شعوب المنطقة تغادر العصر، متجهة إلى لا مستقبل، هذا بالطبع إن لم نكن من الحالمين بقدرتنا على غزو العالم وقهره، وإعادة توجيه قاطرته بقيادتنا الرشيدة، ويترتب على هذا أن أي حديث عن علمانية المنطقة يصنف ضمن أحلام اليقظة، أو التفكير في عكس اتجاه استقراء حقائق الواقع.
الرؤية السابقة بمثابة انخداع وإساءة قراءة ما يظهر على السطح، علاوة على الجهل بما يجري تحته، فإذا كنا نرى أن العلمانية ليست مجرد مقولة فصل الدين عن الدولة، وإنما هي نظام وفلسفة حياة، فأن تكون علمانياً يعني أن تحتفظ بالدين كعلاقة روحية خاصة بينك وبين خالقك، وأن تؤسس علاقاتك اليومية والحياتية المادية بكل مناحيها على أساس العلم، فالمجتمع العلماني هو الذي يضم مؤسسات حديثة، تدار وفق نظم وأساليب الإدارة الحديثة، بغض النظر عن كفاءة هذه الإدارة، ومدى مواكبتها لأحدث ما توصل إليه العلم.
والمجتمع العلماني أيضاً هو الذي تحكمه قوانين مستمدة من دستور مكتوب أو متعارف عليه، بغض النظر عن مدى الانضباط والعدالة المتحققة في التطبيق العملي، وهو المجتمع الذي يحمل أفراده بطاقات هوية شخصية ذات أرقام متسلسلة تضم المواطنين جميعاً، ويتعامل الفرد بموجب هذه البطاقة مع سائر مؤسسات الدولة، وفق نظم وقواعد محددة ومعلنة، فكل فرد يستعمل التليفون والكومبيوتر والتليفزيون هو منخرط في المنظومة العلمانية، التي تضم المجتمع الذي يعيش فيه، بل وتلحقه بالمنظومة العالمية باتساع الكوكب الأرضي.
لاشك بالطبع أن المجتمعات تتفاوت في درجة العلمنة، ويرجع التفاوت بالأساس إلى قدرة تلك المجتمعات على التأقلم والتوافق مع متطلبات العلمنة، ومن الصحيح أيضاً أن الخطاب الثقافي السائد يؤثر سلباً أو إيجاباً على سرعة ونجاح عملية التأقلم تلك، لكنه ليس العامل الأساسي أو الموجه إلى هذا الاتجاه أو ذاك، فمسيرة الحضارة الإنسانية لا توجهها الأفكار التي تعتنقها الصفوة أو الجماهير، وإنما تحركها التكنولوجيا، فما ينتجه العلم من تطبيقات عملية، تتمثل في منتجات جديدة تنهال علينا يومياً، ومصدرها القوة الدافعة للرأسمال في منحاه للنمو والتعاظم، ويصب في تلبية الاحتياجات الإنسانية، أو خلق احتياجات جديدة، هو ما يترتب عليه إعادة ترتيب وتغيير العلاقات السائدة بين البشر وبعضهم، وبينهم وبين المادة والكون، هذه هي القوة القاهرة المنوط بها ما نسميه تقدم وتطور، وهي تستحق تلك التسمية بما تحويه من حكم قيمي، لطبيعة المنحى أو الآلية التي تكفل لها الفاعلية والدوام، وهو السعي لتحقيق احتياجات إنسانية، دافعها الابتدائي الرواج وتحقيق الربح، لكن نتيجتها العملية رفاهية الإنسان، بدءاً من أبسط أشكال التكنولوجيا، وهو اختراع الروافع البسيطة ثم العجلة، وصولاً إلى ما بين أيدينا الآن من أدوات وآلات، تحقق لإنسان العصر ما لم يكن يحلم به من إمكانيات وامتيازات.
النظام السياسي الذي نمنحه صفة علماني إذن هو مجرد أحد تجليات النسق العلماني للحياة، هذا النسق الذي يتسيد الآن -وإن بدرجات متفاوتة- على جميع المجتمعات التي غادرت مرحلة البداوة أو الالتقاط، ولنستعرض الآن بعض ما نراه من مظاهر، نسارع عادة بتصنيفها لحساب الطرف النقيض من العلمانية، لنرى إن كانت كذلك بحق، أم أن الأمر لا يتعدى التلون الظاهري:
* النظام الديني المتطرف في إيران نظام مؤسسي غارق حتى أذنيه في إشكاليات
العلم والحداثة، فمعامل الأبحاث الذرية التي يستهدف منها النظام الإيراني تهديد العالم الحر وكل قيمه وفي مقدمتها العلمانية، هل هذه المعامل مؤسسة على نظم دينية تستلهم ولاية الفقيه وفتاواه، أم تتأسس على قواعد البحث العلمي المحض، لتبقى الدعاوى الدينية الأصولية مجرد زعيق أجوف يستهدف العواطف، ولا يكلف أصحابه أكثر من بعض المظاهر التجميلية (أو التقبيحية)، ضئيلة التأثير على صلب المسار العلماني؟!
* تنظيم القاعدة ذاته، وهو المتخصص في الذبح والتكفير، ويسعى لمحاربة كل العالم، حتى يخضعه لرؤاه العائدة إلى 14 قرناً خلت، تنظيمه العنقودي ذاته، استخدامه للشبكة العنكبوتية الإلكترونية وسائر أحدث ما توصل إليه العلم، أليس هذا تخلياً منه عن الدابة والناقة، وامتطاء للعلم ونظمه وقوانينه، بحيث نستطيع أن نشبه محاولاته وخطابه بإنسان يسير إلى الخلف داخل قاطرة تتحرك للأمام، ولن يلبث أن يصل إلى نهاية ما يستطيع أن يصل إليه، حين يصطدم رأسه بآخر جدار في آخر عربات القطار، فإما أن يظل يضرب رأسه فيه حتى يخر صريعاً، أو يضطر لأن يعدل اتجاهه إلى الوجهة المضادة؟!!
* البنوك المسماة إسلامية، ماذا بها من التسمية المصطنعة غير شعارات معلنة على الجدران وعلى رأس المطبوعات، والنزر اليسير من التلاعب بالأرقام، وكل ما عدا ذلك حداثي وعلماني إلى أقصى مدى، وهل يملك ألا يكون كذلك، وهو المرتبط بشبكة المعاملات المالية الدولية، والتي بدونها لن تستطيع أن تبارح أمواله خرج الناقة التي تحملها؟!
* تستطيع أن تشاهد في شوارع المدن المصرية نساء منقبات يقدن سياراتهن، ويذهبن إلى وظائفهن بالمؤسسات الحديثة، وإلى الشواطئ والأندية الرياضية، فهل هن حقيقة يتحركن في فلك مضاد للعلمانية، بمعزل عن كل ما يحيط بهن لمجرد الاختباء داخل ذلك الزي، أم أن معاداتهن للعلمانية مجرد وهم أو ادعاء؟!
كثيرة هي المظاهر المحيطة بنا، والتي يروم أصحابها أن يصنفوا أنفسهم، وأن يصنفهم الآخرون ضمن عالم آخر ينتمي إلى الماضي السحيق، لكننا متى تأملنا فيها ملياً اكتشفنا زيف ما يدعون، وعبث ما يحاولون، فالتيار العلماني يحمل الجميع –راضين أم ساخطين لاعنين- ويدفعهم للأمام، والفارق بين من يسبحون معه، وبين من يجدفون في عكس الاتجاه، هو فقط سرعة التقدم، ولكن إلى حين، فالعلمانية هي المستقبل وهي المصير، نقول ذلك ليس من قبيل الأمنيات الطوباوية، لكن هذا ما يفصح عنه الواقع، وما تنبئ به احتمالات المستقبل.
kamghobrial@yahoo.com
* مصر
سؤال العلمانية والمستقبل
الشكر الجزيل للكاتب , مقال جميل و رائع يحمل معاني كثيرة , هل لنا بالمزيد …؟