عشنا في الأيام الأخيرة ثلاثة عهود في زمن واحد.
عهد الإستقلال الوطني، مع الحرب الخاطفة، نسبياً، التي شنتها اسرائيل على قطاع غزة. إستقلال وطني، لم يرقَ بعد الى مرتبة معناه الدقيق. فكل ما توسلته “حماس”، بصواريخها الفتّاكة، من هذه الحرب، هو فكّ الحصار عن القطاع وتنظيم تنقل أهله والإمتناع الاسرائيلي عن قتلهم والسماح للمزارعين من بينهم بارتياد أراضيهم الواقعة على الحدود مع اسرائيل. فيما “الانتصار” المدوي (لا انتصار غزة نفسها) الذي أحرزته “حماس”، بحربها هذه ضد اسرائيل لا يخدم مشروع منافستها المهزومة، “فتح” لاحراز أي انتصار ديبلوماسي، نسبي أيضاً، في الجمعية العامة للأمم المتحدة. هذا بعض مما يرسم ملامح التواضع التام لصفة الاستقلال الوطني، يرمي اليها الفلسطينيون الآن منذ ان طردتهم اسرائيل من أرضهم.
ثانياً، عهد ما بعد الاستقلال الوطني. في الحرب المديدة، الأكثر دموية وبربرية، التي يخوضها النظام السوري ضد شعبه. بل ان اعتماد المعارضة، المدنية والمسلحة، راية سوريا ما قبل الاستقلال، هو كالرسالة المباشرة: من ان كل هذه العقود الطويلة التي مرت على السوريين في ظل الحكم البعثي لم تكن استقلالا ولا رفاه ولا حرية…. ولا شيء يستحق ان يسجل على الراية. وعهد ما بعد الاستقلال، في السياق العربي الثائر، له تصوره عن دولة قانون وتداول سلطة ومواطن، كان معطّلا في عهد الاستقلال الوطني.
فوق انها تحصل في زمن واحد، وفي بقعة أراض متجاورة، تتداخل هاتان الديناميكيتان، وتشتركان ببعض السمات: أولها وحشية المناهضين للإستقلال ولما بعد الإستقلال. طبعا لا مجال للمقارنة بين بربرية البعث وبربرية اسرائيل. والتي نكتشف ان الأسرة الدولية قادرة على وقف اندفاعاتها، وراغبة بوقفها، فيما هي عاجزة عن إيقاف المجازر الأسدية… أو تتمنّاه بطرف شفاهها. كل الأمور نسبية طبعاً، ومنها الصفاقة والعدوانية. لكن النتيجة واحدة: عهدا إستقلال وما بعد الإستقلال ساحات موت وخراب.
الفلسطينيون لهم نصيب من الإثنين، اسرائيل والسلطة البعثية. مع الأولى، يواجهون التوسّع والتسلّط الاسرائيليَين، منذ سبعة عقود. الجيل الأول منهم، هؤلاء الذين هجروا من ديارهم ذاقوا أولى الغصّات، فاستوطن جزء منهم في سوريا. لكن جيلهم الثالث لم يُعفَ من تبعات عهد ما بعد الاستقلال السوري. فلسطينيو سوريا كانوا يتلقون ضربات الموت بأكثر مما كان أهل غزة يلاقونه على أيدي اسرائيل في جولة غزة الأخيرة (عدد الشهداء الفلسطينيين في حرب البعث على شعبه تجاوز الألف ومئة، فيما عدد شهداء الغزاويين في الهجمة الاسرائيلية الأخيرة يبلغ المئة).
العهدان، أيضاً، يشهدان نهاية سلطتين متجايليتين، وإن متعارضتين: سلطة “السلطة الفلسطينية” التي كانت نتاج العهود الاستقلالية العربية، وسلطة النظام البعثي الذي كان واحدا من دعائم هذه العهود التاريخية الصلبة. محمود عباس الفتحاوي يحافظ على ما تبقى من سلطته باستجداء دور ما في حرب غزة. وبشار البعثي، يغيب تماماً، ولا اثر لـ”تضامنه” مع غزة إلا في تلفزيونه الرسمي. بوسعنا منذ الآن ان نعرف مآل السلطة الفلسطينية الجديدة: انها الاخوانية “حماس”، بقياداتها المعروفة، وقد ثبّتت أقدامها اثر الحرب على غزة، بعدما خرجت منها “منتصرة”. لا يمكن ان تفهم معنى الانتصار المقصود بغير هذا “الانتصار”. هي ليست “إنتصارية”، كما يحتج البعض. هي فقط تعيين موارِب للمنتصر. فاسرائيل لم تقض على “حماس”؛ لم تستطع ربما، أو لم تنوِ… وفي الحالتين “حماس” تحتفل بنصر صنعته أرواح وممتلكات وهناء الغزيين. أما مآل الثورة السورية، فالذي يبدو منها واضحا حتى الآن، هو ان النظير الاسلامي السوري لـ”حماس” هو من سوف يتولى السلطة. صحيح ان القوى المدنية السورية لها من الثقل ما يكفي لمقارعة الاسلامية السياسية، لكن معركتها لن تكون حاسمة لصالحها، على الأقل في المدى المنظور.
أيضاً، العهدان، الفلسطيني والسوري يشتركان في دخولهما فلكا جديدا، لم يعهداه، أو عهدا بعضه. خرجت دولة ايران من كليهما، وهي الآن تقاوم تبعات هذا الخروج. لن تستسلم له. فيما تضعضعت حليفتها، سوريا البعث. شعلة الاستقلال الفلسطيني وشعلة ما بعد الاستقلال السوري، كلتاهما الآن في قبضة “محور” جديد، مصر، قطر، تركيا. وإن كان ليس معروفا حتى الآن مدى حديدية هذه القبضة. الصراع مستمر.
والمشترك أخيراً، هو تلك اللامبالاة الشعبية، النسبية أيضاً وأيضاً تجاه تمخّضات العهدين. لم تخرج هبّة عربية واحدة، قوية، ضاغطة من أجل إيقاف المقتلة الأسدية ضد الشعب السوري، التي يقارب عمرها العامين؛ فقط تظاهرات وفعاليات تخاطب واقعها المحلي، أكثر ما تهجس بدولة المواطن والديموقراطية. ولم تخرج، كذلك، هبّة مماثلة لإيقاف العدوان على غزة، كما كان دارجاً في حروب سابقة ضد الشعب الفلسطيني، أو اللبناني. اللهم بعض التظاهرات المبرمجة أو العفوية، الضئيلة. في مصر، لم تنلْ غزة إلا مقارنة بين ضحاياها وبين ضحايا القطار الصعيدي المصطدم بباص يحمل تلاميذ في السادسة من العمر، قتل واحد وخمسين منهم وجرح العشرات.
الفارق الوحيد بين العهدين أخطر من جميع نقاطهما المشتركة. انه يتمثل في إنعدام شبه مطلق للإستقرار الفلسطيني، على الرغم من الإتفاقات المضمونة والمحمية… وهو بعمقه يتلخص بالإستحالة التالية: “ان الحد الأقصى الذي تستطيع أي حكومة اسرائيلية تقديمه لا يستطيع ان يلبّي الحد الأدنى الذي تستطيع أي حكومة فلسطينية قبوله” (عن أسامة مصالحة). ما يعني ان حكومة “حماس”، المنتصرة بالشرعية الدولية التي ربحتها من عدوان غزة، سوف تعاني ما عانته السلطات السالفة: مجموعات جديدة، لا ترضى بأقل من كامل فلسطين، تخرق هدناً وتخرّب اتفاقات و”عناصر غير منضبطة”… ليس معروفا إن كانت الطريق نحو كامل الحقوق مضمونة في النهاية. ولكن المؤكد ان هذه الاستحالة تكتب على القضية الفلسطينية المزيد من التكرار الى حين… مجهول. هل يكون مصير التكرار هو نفسه مع العهد السوري الما بعد استقلالي؟ لسوريا أراض محتلة، خاضت حربين فاشلتين من اجلها. غير ذلك، المعضلة سوف تكون مختلفة، بين بقايا العهد الاستقلالي وتنوعات العهد ما بعد الاستقلالي المناهض له.
الآن، العهد الثالث، عهد بناء دولة الديموقراطية، بعد إسقاط رأس دولة ما بعد الاستقلال. في مصر خصوصاً. والمتداخلة مسائلها مع القضية الفلسطينية. رئيسها الجديد، الإخواني، تمكن، أو مُكّن، من إنتزاع “رعاية” و”ضمان” القضية الفلسطينية من الأيادي السورية الايرانية. بعدما وُضع بشار الأسد في دائرة المحظور، ها هو الرئيس المصري الجديد يفوز مجانا بصواريخ من مال إيراني لإعادة مصر الى “الريادة” العربية. قويا بهذا الفوز، يقيم لنفسه عرشا فرعونيا، بمصادرته لجميع السلطات وبوضع نفسه فوق أي سؤال. تصور، بعد ثورة ديموقراطية، يعود فرعون فيطلّ من باب “الريادة التاريخية لمصر”؛ التي لا تعني غير انتقال الملف إلى الأيادي الإسلامية المصرية بعدما قبضت عليها، ولعقود، أيادٍ إسلامية غير مصرية، غير سنّية.
لكن العهد جديد. ولا مجال للتوقعات الدقيقة. كل شيء قابل للتحول، للسيولة. تلك كانت معاني الغضبة الجماهيرية الهائلة ضد قرارت الرئيس الاخواني. غضبة تفتح بابا واسعا لصراع من نوع جديد: بين كتل وشرائح ومدن يقظة لمكاسب ثورتها، دولة القانون خصوصاً، وبين كتل وشرائح اخرى، ترى في قرارات الرئيس الاخواني نعمة الهية، غرضها “حماية مكاسب الثورة”. لكن التداخل مع العهد القديم ما زال قائما. اليك مثلا خفيفاً عن هذا التداخل. عبد الرحمن البر، عضو مكتب الارشاد في “الاخوان المسلمين” يقول حول التظاهرات والفعاليات المحتجة على قرارات الرئيس: “اسرائيل لا تريد ان تصبح مصر دولة قوية، وموقف مصر الأخير من العدوان على غزة أغضب اسرائيل وجعلها تبحث عن ضرب الاستقرار في البلاد بمساعدة خارجية”. فيما طالبت زميلته، وهي قيادية اخوانية، وزارة الداخلية بـ”سحق المتظاهرين الكلاب”، لأنهم برأيها “يتلقون دعم خارجي لتدمير البلاد والتآمر على من يريدون تطبيق شرع الله” (هل تذكرنا هذه الكلمات بشيء؟).
انه زمن واحد وثلاثة عهود، كل عهد مفتوح على اختلاف عن الآخر، في تداخل وسيولة فريدين، سوف يتعبان المؤرخين القادمين، بالضبط كما يدوّخان مراقبي اليوم، الحائرين وسط التردّدات العشوائية للزلزال العربي الكبير.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل