يستأهل محمد حسنين هيكل الكتابة عنه من زاوية وحيدة تتمثّل في انّه يرمز الى سقوط مصر في اسر الاوهام التي تشكّل الخطر الاكبر الذي يمكن ان يستهدف دولة قديمة كانت مؤهلة للعب دور محوري على الصعيد الاقليمي. انّه دور كان في استطاعة مصر ممارسته على الصعيد السياسي والعسكري والثقافي والاجتماعي في آن بما يجعل منها قادرة على التأثير في محيطها بدل ان تتأثّر بهذا المحيط.
يعبّر محمد حسنين هيكل، الذي لا يجوز الاستخفاف بمخيلّته الواسعة وقدرته على الكتابة عن احداث يتصوّر انّه كان شاهدا عليها، عن مدى الاستخفاف بالجمهورين المصري والعربي.
كان من حقّه الاستخفاف بالجمهورين المصري والعربي والرهان على جهلهما. نجح في ذلك الى حدّ كبير وصارت له شهرة واسعة تجاوزت مصر وجعلت لهيكل معجبين في العالم العربي كلّه. هناك اشخاص، في لبنان مثلا، كانوا يفتخرون بالعلاقة القائمة مع هيكل لعلّهم يستمدون منها ومن ما كان يقوله حيثية ما.
كان هيكل ظاهرة، بل مدرسة. هذا ما يجدر الاعتراف به. استطاع ربح الرهان على جهل المصريين والعرب جراء هبوط مستوى التعليم في المنطقة. هذا لا يشمل بالضرورة، كل المصريين وكلّ العرب، بمقدار ما يعني عددا لا بأس به من الاشخاص عكست طريقة تفكيرهم مدى الانحطاط الذي بلغته مصر وجزء من العرب.
كان هيكل يعتقد انّ في استطاعته الاتكال على ان العرب لا يقرأون. تعلّم ذلك من الاسرائيليين ومن موشي دايان بالذات الذي قال بعد حرب 1967 ان العرب لا يقرأون، ولو كانوا يقرأون، لكانوا تنبّهوا للهزيمة التي لحقت بهم، ذلك ان سيناريو الحرب والهزيمة كان موضع كتابات كثيرة نشرت بشكل علني.
التقيت الرجل مرات عدة. اكتشفت سطحيته باكرا عندما وصف حسني مبارك، في العام 1977، وكان لا يزال نائبا للرئيس، بـ”البقرة الضاحكة”، وهي شركة تنتج جبنة فرنسية بهذا الاسم. لم يكن حسني مبارك شخصية استثنائية، لكنّه لم يكن من دون شكّ بالغباء الذي كان يوحي به هيكل.
حاول غالبا ان يبهرني بانّه يحضر مهرجان سالزبورغ في النمسا للموسيقى الكلاسيكية صيف كلّ سنة وانّه يعرف الكثير عن صحيفة “لوموند” الفرنسية والعاملين فيها ذاكرا اسماء معيّنة كروبير سولي وغيره مثلا.
كانت معلوماته من النوع الذي يمكن ان تنطلي على شخص لا يعرف شيئا لا عن مهرجان سالزبورغ ولا عن “لو موند” واللغة الفرنسية. كان سلاحه الدائم ان الشخص الذي امامه، مجرّد جاهل، يجب ان يقف مشدوها امام معرفته وسعة اطلاعه.
لم يدرك ان الشخص الذي امامه يمكن ان يعرف شيئا عن مهرجان سالزبورغ وانّه قارئ قديم لصحيفة “لو موند” مثلا. كان على الشخص الذي امامه تصديق كلّ ما يقوله هيكل الذي ظنّ انّ الناس صاروا كلّهم من المأخوذين به ومن قراء “الاهرام” التي حوّلها الى من صحيفة تغطي اخبار مصر والعالم العربي والعالم كلّه، الى صحيفة لا همّ لها سوى ارضاء قارئ واحد هو جمال عبدالناصر.
بالنسبة الى هيكل الذي تكفّل بقتل الصحافة المصرية، هناك جريدة مطلوب ان ترضي القارئ الواحد، الذي هو “الريّس” ولا احد آخر غيره. اذا كان من نجاح لهيكل في ميدان ما، فهذا النجاح هو في تأسيسه صحيفة القارئ الواحد التي صارت مدرسة عربية انتشرت ايضا في معظم دول العالم الثالث حيث الديكتاتوريات.
اعتقدت اني متحامل على هيكل. يكفي انّه لم يمتلك ما يكفي من الجرأة لمراجعة نفسه وتنظيره لهزيمة 1967 التي لا يزال العرب يعانون من نتائجها الى اليوم. لم يدرك ان جمال عبد الناصر لم يكن سوى عسكري يمتلك ثقافة اقلّ من متواضعة سعى الى ترييف المدينة والانتقام من كلّ ما تمثّله بدل التعلّم منها. أخذ ناصر مصر من هزيمة الى اخرى كونه مجرّد ضابط لا يعرف شيئا عن العالم وعن اهمّية المدن وثقافة التنوّع والاندماج فيها.
كنت اقول لنفسي انّي ربما كنت ابالغ في الموقف السلبي من هذا الشخص الذي لم يفهم معنى الذي حصل في العام 1956 وابعاد تأميم قناة السويس. بقيت حذرا في اصدار حكم نهائي على الرجل الى ان قرأت لهيكل حديثا نشره عن لقاء اخير مع الملك حسين، رحمه الله، الذي توفّى في مطلع العام 1999. كان الحديث اشبه بوصية للعاهل الاردني الراحل اودعها لدى هيكل. في الواقع، لم يجر حديث صحافي من اي نوع كان بين الملك وهيكل.
رحت اسأل عن صحّة الحديث الى ان اكتشفت انّه من خيال هيكل، هذا الذي يعتبره كثيرون استاذا كبيرا وابرز الصحافيين العرب في القرنين العشرين والواحد والعشرين.
تأكّدت من كلّ كبار المسؤولين الاردنيين الذين التقيتهم ان الملك حسين لم يدل بالحديث. كلّ ما في الامر، استنادا الى الصديق فؤاد ايّوب، السفير الاردني في لندن وقتذاك وهو لا يزال حيّا يرزق، ان هيكل التقى الملك حسين صدفة في بهو فندق “دورشستر” الذي امضى فيه العاهل الاردني ليلة او ليلتين في طريقة عودته الى عمّان بعد فترة علاج طويلة في الولايات المتحدة. في اللقاء القصير، الذي اقتصر على مجاملات، سأل هيكل الملك حسين هل يمكن ان يجتمع به؟. احاله الملك، بكلّ لباقة، على السفير الذي كان يعرف ان الحال الصحّية للحسين لم تكن تسمح له بلقاء من هذا النوع.
غادر الملك حسين لندن الى عمّان حيث تدهورت حاله مجددا ونقل ثانية الى الولايات المتحدة حيث امضى فترة قصيرة اضطر بعدها للعودة مجددا الى الاردن حيث توفّى، ولكن بعد ترتيبه لعملية نقل السلطة الى وليّ العهد الجديد الذي صار الملك عبدالله الثاني.
لم يكن هناك حديث من ايّ نوع كان للملك حسين مع هيكل. لم يحصل اي اتصال بين فؤاد ايّوب والصحافي “الكبير” الذي كان مريدوه يسمّونه “الاستاذ”. كان هيكل، في ما يبدو، استاذا في التأليف لا اكثر.
نسي كثيرون ان هيكل استبعد في 2001 ان يكون اسامه بن لادن وعصابته وراء غزوتي نيويورك وواشنطن. كتب “الاستاذ” الذي كان يعتقد كثيرون ان لديه معرفة عميقة بكلّ ما يدور في العالم ان “الصرب” ولا احد غير الصرب، الذين كانوا تعرّضوا لهجمات سلاح الجوّ الاميركي، وراء الغزوتين. فسّر ذلك في مقال كتبه في مجلة فصلية انيقة كانت تصدر في القاهرة. كتب انّه لا يوجد بين العرب من يمتلك التكنولوجيا التي تسمح بتفجير البرجين في نيويورك وتنفيذ الهجوم على “البنتاغون” في واشنطن.
اصبت وقتذاك بالذهول، وزال لديّ في الوقت ذاته اي وهم تجاه صحافي امتهن بيع الاوهام للآخرين. قرأت ما كتبه هيكل في تلك المجلة الفصلية التي كان يصدرها احد ابنائه واعتقد انّ اسمها كان “وجهات نظر”. اكتشفت الى ايّ حد انتشر الجهل والاستخفاف بعقل المواطن والقارئ في مصر والعالم العربي.
لم تكن من حدود لحقد هيكل على المملكة العربية السعودية، كما لو ان المملكة اخذت عبد الناصر الى اليمن والى هزيمة 1967 واجبرته قبل ذلك، في 1966، على التوجيه باغتيال صحافي فذّ واستثنائي عرف العالم العربي والعالم عن ظهر قلب هو اللبناني كامل مروه الذي كان صاحب “الحياة” ومؤسّسها.
يمكن الاستفاضة الى ما لا نهاية في عرض “انجازات” هيكل الذي بنى مجده على الجهل العربي. لا شكّ في ان من يستطيع بناء مجده على جهل الآخرين والاستخفاف بهم يمتلك نوعا من العبقرية.
كان رهانه هذا في محلّه، خصوصا انّه لم يفهم يوما مدى خطورة المشروع التوسّعي الايراني، بل كان مناصرا لهذا المشروع وللمروجين له. لم تتوقّف ايران من استخدامه يوما في الترويج لمشروعها المعادي لكلّ ما هو عربي في المنطقة. لم يدن يوما الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري على يد نظام اقلّوي وعنصري تكفل بتفتيت سوريا وعمل قبل ذلك كل ما في وسعه من اجل تدمير لبنان ومؤسساته والقضاء على واحة الحرّية في المنطقة.
يختزل شخص محمّد حسنين هيكل جانبا من مأساة مصر والعرب.
يكفي انّ هناك من يعتبر المنظّر لهزيمة 1967 وللسياسات الخاطئة لجمال عبد الناصر التي عادت بالكوارث على مصر والمنطقة بطلا قوميا، فيما لا يوجد من يعطي انور السادات القيمة التي يستحقّها. يظلّ السادات الشخص الاهمّ في التاريخ الحديث لمصر. يكفي انّه خلص بلده من سياسة الابتزاز التي امتهنها الاتحاد السوفياتي طوال فترة وجوده. يكفي ايضا ان السادات استعاد لمصر اراضيها المحتلة وثرواتها في سيناء واعادها الى خريطة المنطقة. عرف السادات ان لا حرب من اجل الحرب، بل ان الحرب تستهدف تحقيق اهداف سياسية معيّنة. وهذا ما انجزه بالفعل من اجل مصر والمصريين.
هناك بكلّ اسف من يعتقد ان هيكل كان صحافيا استثنائيا، بل استاذ الصحافة والصحافيين. هناك من يعتقد انّه “الاستاذ” بعدما استخدم اموال الدولة المصرية في خنق الصحافة وتدجينها والتغاضي عن كلّ ارتكابات جمال عبد الناصر.
نعم، انّه زمن هيكل، زمن الانحطاط العربي الذي ليس بعده انحطاط. زمن احترام من يستطيع تخيّل احاديث صحافية وتأليف مثل هذه الاحاديث من دون ان يوجد ان يسأله هل هذه هي الصحافة والاستذة في الصحافة!