حلم مزعج أيقظني في منتصف الليل. استيقظت مرعوبا.ريقي متيبس من النشوفة. كنت ألهث لهاث سيزيف الذي لم يتوقف عن دفع الصخرة الى قمة الجبل. هل ما اعتراني حلم حقا، ام هي حقيقة مرعبة؟ لحظات طويلة مضت وأنا في صدمتي، مشلول الارادة عن اتخاذ خطوة تخرجني من الرعب الذي اعتراني ولم يغادرني.
لم أكن على يقين ان ما اعتراني كان حلما مرعبا. عادة تراودني في أحلامي أحداث الشهر. اراها وانا في منامي من زوايا مختلفة. بعضها يثير حنقي. بعضها يثر ضحكي. بعضها يجعلني مثل الساموراي الياباني، أقطع الأعداء بسيفي شمالا ويمينا.أخبار العرب تثير الساموراي في منامي. ربما لتعويض المرارة والمهانة التي تعتريني في يقظتي كلما سمعت زعيما عربيا يتحدث. أخبار فلسطين وتحرير غزة من الفلسطينيين، تثير ضحكي المرير. تشعرني بسخرية الأقدار وتلاعب آلهة الأولمب بمصائر البشر، وكأننا عدنا الى ما قبل التاريخ. أتخيل كيف سيذبح “محررو” غزة الرئيس الفلسطيني على “درجات المقاطعة”، كما توعدوا في فلتة لسان بطولية لم تعد نادرة في ايامنا.
ما يثير حنقي اننا نتحرك الى الخلف حين ينطلق العالم بسرعة الصوت الى الأمام.
ما يجعلني قادرا على بعض “الطمأنينة” هي عبقرية قادة أحزابنا العربية في اسرائيل. اربكوا السياسة الصهيونية بحسن تدبيرهم. أفشلوا مصادرة أراضينا بشعاراتهم. حققوا المساواة في الفقر بين البلدات العربية في الشمال والجنوب. طرحوا حقوق الانسان العربي في الكنيست، ونالوا ما يناله نواب الكنيست اليهود. من المعاش حتى السيارة ووسائل الاتصال والمساعد والسائق والفنادق. اليس هذا انجازا عظيما في عقر دار نظام الأبرتهايد الصهيوني؟
حقا، أنزلوا الكيان الصهيوني من عليائه الى أدنى نقطة في الحضيض. أنجزوا لنا الحق الدمقراطي الكامل في مقارعة الصهيونية في عقر دارها. لاءاتهم باقية حين سقطت اللاءات العربية. لاءاتنا تتجدد حين يستحي العرب في طرح لاءات جديدة.
ارسلنا نموذجا قياديا للعالم العربي.. اضطر قسرا الى ترك وطنه ليعلم أنظمة العرب أصول النضال، وليس جمع المال فقط لضمان آخرتهم حين يطيرون من رأس السلطة قسرا..
الحلم المزعج ما زال يربكني ويثير الشك بيقيني، ولكنه يتجسم أمامي. يرعبني مجرد التفكير فيه. لعله ليس حلما ؟ شعرت بأطرافي تتثلج. لمن سيتركنا قادتنا البواسل؟ من سيؤلف لنا الشعارات التي نرددها في صحافتنا واجتماعاتنا وتعليقاتنا الشتائمية ضد من لا تعجبنا أفكاره؟ من سيهاجم الصهيونية من على منبرها البرلماني؟ من سيقاطع رئيس الحكومة بالبث الحي والمباشر مثبتا ان الدمقراطية تؤخذ عنوة ولا توهب بلا ثمن؟
من سيقول للسلطة الغاشمة “نحن َضد” و “نحن نرفض” و “لا” و “لن يمر” وقبل ان نسمع ما يقترحون؟ حتى لو كان أقتراح الحكومة “التمييز المصلح” للعرب. لا لن نقبل من السلطة الصهيونية ان تغير سياستها، أو الأعتراف بأخطاء ممارسة التمييز الطويلة ضد العرب في بلاد الـ 48. ماذا سيبقى من أهداف نضالية اذا بدأنا بالحصول على أجزاء من حقوقنا بالتدريج؟ هل سيصل الى الكنيست أشخاص مخالفون لأسلوبنا، يرحبون بالتغيير؟ هذا لن يمر.. نطرح شعارات أكثر حماسا.. نعقد مهرجانات وننشر صورمهرجانات أيام زمان لنثبت ان الحضور كان جماهيريا. نقول ضد الحكومة وزعمائها ما لا يجرؤ “كلب داشر” في التعبير عنه نباحا في شوارع القاهرة أو دمشق.
“ابدا لن يمروا”.
كيف يمرون والزعماء لم يلحقوا ربعهم في الخروج “قسرا” من بلاد الـ 48 الى دول الرمال؟.. هذا الأمر يحتاج الى سنوات من أجل تحضير أجواء حماسية ومليئة ب “الذخيرة الخضراء” قبل المغادرة قسرا.
كان حلمي غير عادي.. ما زلت أرتجف خوفا من مراجعة تفاصيله.
أمر مستحيل..؟
من سيتصدى للمشاريع الصهيونية؟ من سيتصدى لمشروع أعادة العاطلين عن العمل الى سوق العمل؟ من سيحرض العاطلين عن العمل على رفض اعادة تشغيلهم والاصرار على ضمان الدخل؟ الا يعرف المسؤولون ان النضال يحتاج الى فقراء لا يخسرون شيئا الا قيودهم؟
من سيتصدى لمشروع الحكومة التي اعترفت بالتمييز ضد الأقلية العربية في التوظيف بمؤسسات الدولة وطرحت خطة “للتمييز المصلح” من أجل رفع نسبة الموظفين العرب في المكاتب الحكومية؟ لا بأس. الحكومة فعلت حسنا بانها لم تنجز بعد وعدها. حكومة لم ترتكب خطأ مميت ضد الأقلية في بلاد الـ 48 وتصلح الغبن وتضعف ما تبقى من وقود جماهيري للأحزاب. انجازمشروعها لن يكون لمصلحة النضال ضد الصهيونية وفضح دمقراطيتها الزائفة. وما قامت به صحيفة “هآرتس” الصهيونية في الالتماس للعليا لمعرفة التزام الحكومة بقرارها لم يكن ضروريا. لم يكن قصورا من زعماء الأحزاب. كان حسابا سياسيا نضاليا. القيادات العربية لا تريد اصلاح الغبن، لانه يتناقض مع النضال لفضح الدمقراطية الزائفة والممارسات الآسرائيلية المجحفة. يجب الابقاء على التمييز والحرمان لعرب بلاد الـ 48 ، والا كيف نواصل النضال للوصول الى البرلمان لفضح التمييز الصهيوني ضد عرب بلاد ال 48؟ وكيف سنواصل التخطيط للحاق بالربع قسرا في دول الرمال؟
كذلك نحن ضد آخر مشروع صهيوني.. ضد “الخدمة المدنية”.. هذه بدعة جديدة.. مجتمنا لا يحتاج الى خدمات تطوعية منظمة، يتهمون مجتمعنا انه مجتمع مدني. هذه مؤامرة صهيونية.. الخدمة المدنية لمجتمنا لن تمر.. كل شيء مدني يتناقض مع تقاليدنا وتراثنا وعاداتانا. كل شيء مدني هو زندقة. شبابنا لا يحتاجون الى اثراء ذاتي واندماج بقضايا مجتمعهم في علاقة يومية عبر مؤسساته البلدية والثقافية والصحية. ليقضوا سنة بطالة وتسكع. هذا هو الاثراء الذي يحتاجونه. هكذا يرتبطون بمصير شعبهم… وربما ينضموا الى قافلة الفقراء الثوريين. هذا الوقود البشري ضروري للأحزاب. وليدخلوا مقاهي الأرجيلة (عمر الشيشة يا ولد !!)… اذا لم يفعلوا ذلك من سيناضل ضد “الخدمة المدنية”؟ من سيصفق للزعماء بعد كل جملة نارية؟ من سيوصلهم للبرلمان في الانتخابات القادمة؟ من ستتعلق روحه بهم اذا غادروا الوطن قسرا ليتساووا مع بقية الزعماء المترفهين قسرا في بلاد الرمال؟
كان حلمي مزعجا.. رهيبا.. أشعرني بالاحباط.. حسبت نفسي أسقط في هاوية بلا قعر.. أسقط وأصرخ واواصل السقوط والصراخ… ولا من منقذ.. حين فتحت عيني فجاة. كنت مذهولا من ان يكون الحلم حقيقة.
حلمت ان زعماءنا غادروا بلاد الـ 48 قسرا… واننا صرنا بلا زعماء !!
Nabiloudeh@gmail.com
* كاتب من بلاد ال 48 (الناصرة)