إنّ تحريم “التّشبُّه بالكفّار” يقتضي إذن تحريم كلّ ما يخترع ويصنع هؤلاء الـ”كفرة” من الأغيار، وتحريم التّداوي بمبدعات علومهم وبأيدي أطبّائهم، إذ أنّ هذه كلّها من البدع الّتي تودي بصاحبها في النّار…
*
لا شكّ أنّ هذه الساعات المتبقّية على انصرام سنة ميلاديّة وحلول سنة جديدة هي فرصة لا تُفوّت لهذه الرسالة. وهي رسالة، وإن كانت مقتضبة، إلاّ أنّها تفي بغرض في نفس أيّوب العربي الّذي طالما عانى الأمرّين طوال هذه الأعوام من جنوح العوام من أهلّ ملّتنا عن التبصُّر في حالهم وحال هذا العالم من حولهم.
لقد درج على ألسن أهل هذه الملّة قولاً وَرَدَ في سورة الرّعد: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”. وهو قول، لو أنعم أهلّ الملّة النّظر فيه، لرأوا أنّه جليل خطير. ليس فقط أنّ التّغيير موكل بالقوم يعملون على إحداثه من ذواتهم، بل وأبعد من ذلك وأخطر بكثير. فالقول يعني أيضًا، بين ما يعنيه، أنّ الله هذا الّذي قيل عنه إنّه “يُغيّر” ليس كذلك بأيّ حال. فلو تبصّرنا في القول لوجدنا أنّ تغيير هذا الإله لما بالقوم مشروط/منوط بفعل القوم أنفسهم. وهكذا تنتفي قدرة الله على التغيير، وتُناط بقيام القوم أنفسهم، ومن دواخل ذواتهم، بفعل التغيير هذا أوّلاً، ثمّ يأتي الله ثانيًا في مرتبة التّغيير باصمًا على ما فعلوه هم بأنفسهم من تغيير.
ولمّا كان الفاصل بين الحيوان والإنسان يمكن أن يُلخّص بما هو فارق بين الصّاهل والعاقل، فقد علمنا أنّ العقل هو الأصل في إنسانيّة الإنسان، وذلك بما هو عاقل لما هو فاعل. إذ، بغير العقل لا فرق بين نفر من البشر وبين نفر من ذوات الوبر. والعقل، في نهاية المطاف، هو هذا الجوهر الذي لا يقبل مبدأ العدل إلاّ بما هو منصوص عليه في مبدأ التخيير لا التسيير. والتّخيير هو مبدأ كبير في تفعيل وتشغيل العقل.
كان لا بدّ من التّصريح أوّلاً بهذا الكلام، قبل الولوج في صلب هذه الرسالة الموجهة إلى العوام في نهاية هذا العام.
في العقود الأخيرة أخذت تنتشر الفتاوى كالنّار في هشيم الملّة التي تُقدّس الجهل وتضعه تاجًا على رأسها مُفاخرة به الأمم الأخرى الموسومة بالـ “كافرة”، كما درجت على تسميتها.
ولمّا كان أبناء هذه الملّة العربيّة يُفاخرون بماضٍ مضى وانقضى فإنّهم يظهرون على الملأ كصنف من البشر الذين نصبوا عيونهم في أقفيتهم، ولذا تراهم كلّما حاولوا التّقدُّم خطوات إلى الأمام يعثرون في طريقهم فتتهشّم أطرافهم، وتنكسر خواطرهم أيضًا. إذ، كيف لمرء أن يخطو إلى قدّام بخطى واثقة بينما عيناه في قفاه؟
هكذا يشيع “علماؤهم” على الملأ فتاوى “حظر التّشبُّه بالكفّار”، وما شابه ذلك من أفكار منقولة دون حراك من قرون سحيقة. ولو حاول الفرد العربي المسلم الالتفات إلى الوراء قليلاً لرأى رأي العين والقلب معًا أنّ أهل هذه الملّة العربيّة قد تقدّموا قليلاً في ذلك الماضي الذي يفاخرون به الآن، فقط حينما تشبّهوا بالـ”كفّار” بالذّات. أي، حينما وضعوا الشكّ في مرتبة متقدّمة، وبدؤوا يسألون ويتساءلون، يترجمون، يكتبون ويجادولون في كلّ ما يواجه بني البشر في كينونتهم على هذه الأرض. ولولا ذلك التّشبُّه بهؤلاء الـ”كفّار” منذ ذلك الزمان لما خطت هذه الملّة العربيّة أبدًا على وجه الأرض إلاّ كخطوات الشّاحج أو الصّاهل ليس إلاّ.
والـ”كفّار” المذمومون في عرف هذه الملّة الإسلاميّة هم سائر “الأغيار”، لا فرق بين يهودي، نصراني، مجوسي، بوذي، بل حتّى أبناء الدّيار، أو أيًّا كان من بني الإنسان في سائر الأمصار. فكلّ هؤلاء مصيرهم إلى النّار فهي لهم دار قرار.
إنّ هذه الرسالة هي دعوة لكي يقارن العربي حاله بحال الأمم الأخرى من أهل النّار. ففي هذا الأوان الّذي أضحى فيه العقل المُبدع سلاحًا أبيض في أيدي الأمم في صراع البقاء، التّطوّر والتقدُّم في قطار الرّكب البشري المسرع، فقد أمسى الجهل، من الجهة الأخرى، سلاحًا فريدًا وحيدًا في أيدي زبانية الفتوى والسّلاطين من صنف أولئك العرب المسلمين الّذين لا يملكون ويتسلّطون إلاّ بمدى تجذُّر هذا الجهل في صفوفهم وصفوف تابعيهم من العوام.
وهكذا، شاعت في أنحاء العالم العربي والإسلامي في هذا العصر واستشرت حالة يمكن أن نُطلق عليها مصطلح “الردّة”. إنّها ردّة حقيقيّة وعودة قهقرى إلى “غابة الجهل” التي يشعر فيها ضعاف النّفوس، المذعورون من إبداعات العقل البشري الجامح مع الريح والروح، بشكل من أشكال الطمأنينة البدائيّة. إنّهم يحاولون، بردّتهم هذه، الإبقاء على الأرصدة الوحيدة التي كانت دائمًا بحوزتهم، وهي أرصدة تقتصر على أكياس مُكدّسة من الشّعوذات الباطلة، ليس إلاّ.
ربّما تكون هذه الساعات الأخيرة من هذا العام، الذي سيصبح في خبر كان، مناسبة لأن يتفكّر فيها العربي والمسلم في أحواله، ولأن ينظر من حوله ويتبصّر فيما آل إليه مصيره. فكلّ ما يلبسه، وكلّ ما يأكله، وكلّ ما يستخدمه في مسيرة حياته المعاصرة بدءًا من الإبرة التي تخيط له ثوبه، حطّته وعقاله، مرورًا بمحراثه ومركبته وطائرته التي يستقلّها مسافرًا على هذه الأرض، عبورًا بقلمه وحبره ودفتره وحاسوبه وهاتفه، وانتهاءً بنفطه ومصطفاته ومطابع دنانيره وريالاته ومصكوكاته. فكلّ هذه هي من صنع هؤلاء الموسومين بالـ”كفّار”، أصحاب النّار. أليس كذلك؟
إنّ تحريم “التّشبُّه بالكفّار” يقتضي إذن تحريم كلّ ما يخترع ويصنع هؤلاء الـ”كفرة” من الأغيار، وتحريم التّداوي بمبدعات علومهم وبأيدي أطبّائهم، إذ أنّ هذه كلّها من البدع الّتي تودي بصاحبها في النّار. كما ويحتّم تحريم التشبّه بالكفّار، إذن، العودة الحثيثة إلى حياة البوار وحياة القفار والتّداوي ببول البعير وما شابه ممّا أبدعه العربيّ من علوم ورقى. أمّا إذا رغب العربيّ في أن ينضمّ إلى أصحاب العقل المبدع، فما من طريق أمامه سوى طريق التّشبُّه بهؤلاء الـ”كفّار”، بدءًا من حريّة الفرد، ذكرًا وأنثى، في إطلاق سراح الشكّ المُبدع من قيود سراطين الجهل، من حكّام ورجال دين، وما من طريق سوى إطلاق الجناحين للعقل العربي بالتّحليق إلى أبعد الحدود دون قيود.
أمّا ما عدا ذلك، وإذا أصرّ العرب من أهل هذه الملّة على ألاّ يُغيّروا ما بأنفسهم، فلن يغيّر إلههم شيئًا لديهم ولن يتغيّر بنفسه. وهكذا سيظلّ العربيّ هائمًا وربّه على وجهيهما في نفق مسدود إلى أجل غير محدود. وفي نهاية المطاف فإنّ هذه الملّة العربيّة سينخرها الدّود.
ولمّا كانت هذه الساعات هي ساعات قليلة قبل إطلالة رأس السنة الميلادية الجديدة، ولمّا كنت لا آنف من التشبّه بهذا العالم الـ”كافر” من حولي، فلا يسعني إلاّ أن أقول: كلّ عام وجميع القرّاء من سائر الملل والنحل بخير.