من المتوقع أن يزور البابا بينيديكتوس السادس عشر لبنان من 14 الى 16 أيلول المقبل، حاملاً رسالة سلام ووحدة الى مسيحيي الشرق، من طريق تسليم الأساقفة الإرشاد الرسولي لمجمع الشرق الأوسط الذي عُقد في الفاتيكان في تشرين الأول 2010، والذي يتضمن خلاصات وتوصيات وُضعت خلال انعقاد السينودوس، موجهة الى الكنائس المحلية في المنطقة. هذه، في المناسبة، رسالة من مواطن لبناني اليه.
السيد المبجّل،
تشبه مهمتكَ هذه، الى حدّ بعيد، المهمة التي جاء من أجلها سلفكَ الراحل الطوباوي يوحنا بولس الثاني، من العاشر الى الثاني عشر من أيار 1997. وإذا كان الإرشاد الرسولي الذي وضعه الأخير، “سينودوس من أجل لبنان”، كان سبّاقاً في مراجعة الحرب اللبنانية وطلب “تنقية الذاكرة”، ممهداً بذلك الطريق الى عقد المجمع البطريركي الماروني (2006)، فإني أرجو أن تتمكن، أيها السيد، من حمل المسيحيين المحليين، أحباراً وكنائس، كما اللبنانيين والشرقيين عموماً، على تجسيد ما أنت قادم من أجل تحقيقه.
تحلّ أيها السيد في لبنان على الرحب والسعة. فبلدي، من حيث المبدأ والقيم التي تنشّأ عليها، كما من حيث الواقع، لا يضيق بأحد، فكيف يضيق بكَ. قيل إنكَ ستأتي في أيلول المقبل، لمهمة تتعلق بتسليم الإرشاد الرسولي لمجمع الشرق الأوسط، فرجائي أن تلقى هنا حسن الوفادة، من المسلمين ومن المسيحيين على السواء، وأن تكون الكنائس على قدر المنتظَر منها، فتحقق الغاية المرجوّة من مجيئكَ الى هذا البلد الحبيب.
فلأكن صريحاً، كما هي حالي دائماً. لا أخفيكَ أن كثراً من المواطنين اللبنانيين، علمانيين، وملتزمين دينياً، لا يرون أن الكرسي الرسولي يؤدي المهمة، لبنانياً وعربياً وإسلامياً، كما يطمحون أن تؤدّى في هذا الزمن العربي والعالمي الصعب، وهم يطالبون الفاتكيان بخطاب أكثر جذريةً حيال الثورات في العالم العربي (وفلسطين؟!)، بما يليق بهذه الثورات من احتضان، على غرار “لاهوت التحرير” الذي حمل مشعله قادة الكنيسة في ثورات الشعوب التائقة الى الحرية في أميركا اللاتينية.
مشكلاتنا اللبنانية والعربية كثيرة، أيها السيّد المبجّل، منها مواقفنا كلبنانيين، المتفاوتة والمتضاربة، وأحياناً المتناقضة، من الثورات العظيمة التي تندلع في بعض العالم العربي، ومنها الوجودي الكياني، المتصل بلبنان وطناً ودولة، ومنها الأطماع فيه جنوباً وشرقاً وشمالاً، ومنها المصالح الإقليمية والدولية، ومنها المتصل ببنية جماعاته الطائفية والمذهبية، ومنها خصوصاً أن كنائس المسيح تنوء، – ولا تعميم – تحت ثقل التحديات والمسؤوليات، حتى لكأن قادة هذه الكنائس يعجزون عن أن يكونوا على قدر ما تتطلبه الأزمنة الراهنة من رسالة أشبه بظلال رسالة الرسل الذين أطلقهم المسيح ليبشّروا أهل الأرض. فأين كنائس المسيح وأحباره وكهنته ورسله من هؤلاء الرسل، يا سيد؟!
لا أعتقد أن سفارتك الرابضة على تلة شعرية فريدة، فوق المتوسط، وهي تضمّ مَن تضمّ من عارفين بكبير الأمور اللبنانية وصغيرها، يخفى عليها ما يعتري الكنائس وأهلها من تراجع كبير، ليس في الفاعلية والتأثير والتفاعل مع الذات والآخر فحسب، بل خصوصاً في الأهلية والكفاءة التي تتطلبهما تحديات المفترقات والمصائر في لبنان، بل في هذا الشرق العربي المتألم كله.
لن أحدّثكَ عن أحوال الأحبار والآباء والمؤسسات. لن أحدّثكَ عن أثر الدنيوي ومكانته في نفوس هؤلاء وأجسادهم وعقولهم ووجداناتهم. لقد ذهب الى غير رجوع، أكاد أقول، – ولا تعميم – النسك والزهد والتعفف والعفة والطاعة والفقر والترفع وبعد النظر والعلم والثقافة والحوار. هل أضيف أيضاً: الإيمان بالمسيح؟!
لا أريد البتّة أن أثقل، أو أن أهوّل عليك، أيها السيد المبجّل، لكن كنائس المسيح هنا، ولا تعميم مطلقاً، تشبه مؤسسات الدولة اللبنانية عندنا، من حيث الاهتراء والتأكل والفساد والنفعية والمحسوبية وانحسار علامات الحب والمحبة والرحابة والتسامح والغفران والوهن والشيخوخة. أصدقكَ القول يا سيد، إن الكنائس – وأيضاً لا تعميم – نائية عن فعل المسيح، ومشغولة عن ذاتها بذات هذه الفانية انشغالاً مبهراً الى حد العماء. أسمّي قادة الكنائس تعييناً، يا سيّد، لا جماعة المؤمنين، الذين يعتنق القسم الأكبر منهم فكر “لاهوت التحرير”، ويضطلعون بهموم الحرية والديموقراطية والحداثة، وموجباتها، ويتقدمون روحياً وفكرياً ووطنياً وسياسياً على أحبارهم، الأمر الذي يجعلهم في ذهول مطلق حيال موقف الكنائس الرسمي المعيب من الثورات الجارية، بل يجعلهم في غربة عن كنائسهم وأحبارها. فهل تعرف حقاً، يا سيّد، أنكَ قادمٌ في الخريف المقبل الى معاينة الخريف الكنسي واللبناني بالعين المجردة، وهل تعرف أن الأسباب التي قد تحملك على الانبهار – حاشا – ببريق السفسطة الكلامية، وببريق المظاهر الأرجوانية، فضلاً عن بريق الضيافة اللبنانية، ستكون كثيرة الى حدّ التخمة؟
واجبي، يا سيّد، كمواطن لبناني، أن ألفتكَ الى هذا كلّه، لتعدّ العدة مع معاونيك جيداً، وببعد نظر، وربما بصرامة الحبّ ومقتضياته ومسؤولياته، قبل مجيئكَ الى ها هنا.
¶¶¶
السيّد المبجّل،
الطامة الكبرى، هي المواقف العلنية غير المشرّفة لأحبار الكنائس، بل المتذاكية، بل المخزية، بل المعيبة، بل المهينة للمسيح، حيال الثورات العربية من جهة، وحيال الأنظمة الديكتاتورية من جهة ثانية، إذ تتورّط، عن وعي كامل، في موقف سياسي، وجودي، مصيري، يناقض جوهر المسيح وجوهر فعله التاريخي في الشرق.
فهل يعقل، أيها السيد البابا، أن تقف الكنائس – لا جماعة المؤمنين – الى جانب المستبد الغاشم؟ هل يعقل أن تكون الكنائس مع القاتل العربي… ضد القتيل؟
لا بدّ أن سفارتك هنا، وسفارتيك في كلٍّ من دمشق والقاهرة خصوصاً، بعد بغداد بالطبع، قد أخطرتكَ، من جهة، بالتراجع الهائل في مكانة المسيحيين وفاعليتهم وتأثيرهم، ومن جهة ثانية، بهول ما يرتكبه القادة الروحيون، أياً تكن أسبابهم “الموضوعية” الموجبة، في حق ليس المسيحيين فحسب، ومستقبلهم ومصيرهم، بل في حق هذه الشعوب العربية، وأوطانها. وخصوصاً في حق المسلمين.
فهل يملك أحدٌ من أحباركَ، يا سيّد، الحقّ في أن يجيّر نفسه والكنائس، بطريقة أو بأخرى، لصالح أنظمة وحشية عربية، تشوي شعوبها البطلة وهي حيّة؟!
هل يملك هؤلاء أن يصبحوا جزءاً دنيوياً من فعلٍ سياسي دنيء، هو أشد دهاءً وذكاءً وخبثاً وفاعليةً منهم، في حين أن واجبهم أن يشهدوا للمسيح أولاً، وللتاريخ ثانياً، لا أن يكونوا أذيالاً تابعين لحدث من حوادثه الكبرى؟
بل هل تملك الكنيسة الجامعة المقدسة الواحدة الرسولية نفسها، الحقّ في أن تتغاضى، اليوم قبل غد، عن اتخاذ موقف تاريخي، غير موارب، يضعها في صفّ الشعوب التي تطالب بالحرية والديموقراطية؟
ألا تعلم هذه الكنيسة حجم الخطر الماثل وراء ربط مصير المسيحيين بمصير النظام الديكتاتوري في سوريا، وخطر تشويه رسالتهم التاريخية في الدفاع عن الحرية والكرامة الانسانية، وخطر تهميش دورهم في العالم العربي الذي بات يبحث عن طريق عربية نحو الديموقراطية، وخطر وضعهم في مواجهة المجتمع العربي الذي حسم موقفه من النظام السوري، وكذلك المجتمع الدولي؟!
فما أقلّ الأحبار والكنائس، عندما يُنسى درب المسيح، يا سيّد!
¶¶¶
السيّد المبجل،
أكتب اليك هذه الرسالة، باحترام لكَ، ولكنيستكَ، لكني أكتبها مستلهماً ما عُرف عن المسيح من قولة الحق، نعم نعم، أو لا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشيطان.
راجياً، أن تأخذ علماً بها، وأن تتفكّر، مع معاونيك، في الطريقة المشرّفة التي تحفظ للمسيحيين، لا سبل البقاء الكريم في هذا الشرق فحسب، بل سبل الريادة والاستمرار والتفاعل مع المسلمين، من خلال مساهمتهم الحاسمة في جعله أرضاً للكرامة والحرية والديموقراطية والمستقبل.
(الصلبان الخمسة في لبنان وسوريا ومصر والعراق وفلسطين، لوحة لإميل منعم)
رسالة الى بينيديكتوس
الرجاء، ان يكون سيّد بكركي (الجديد طبعًا) قد قرأ الأستاذ عويط جيّدًا.